ثقافي

الأبعاد الفنية والدينية وجدل الحقيقة والخيال في الدراما التركية التاريخية

الشعب نيوز / كعب . تمثل الدراما التركية التاريخية التي خصت فترة تأسيس الدولة العثمانية نموذجا لسينما تمزج القيمة الفنية والبعد الجمالي في مقاربتها لأحداث ووقائع وفق مقتضيات الإبداع الفني للسينما التاريخية، مع منظور يجعل من أحداث وشخوص تاريخية، كانت مهملة في النصوص التاريخية والحكايات المتوارثة، بمثابة رموز فاعلة في صياغة الوجدان الجماعي، من خلال الديناميات التي تمتلكها الثقافة وعناصرها المؤثرة، فالجمع بين القيمة الفنية والبعد الجمالي من جهة، والواقعة التاريخية بأبعادها الثقافية والدينية والسياسية واستحضارها في سياق إعادة البناء، جعل مثل هذه الأعمال أقرب إلى تطلعات الجمهور وقريبة من وجدانه وذاكرته التاريخية ووعيه الجمعي، مما يستدعي منا النظر في المحددات التي تركز عليها الأعمال السينمائية التاريخية.

- الدين والقبيلة  أسس تشكل الدولة بين التاريخ والسينما 

يشكل كل من الدين والقبيلة تاريخيا أحد أسس تشكل الدولة والانبعاث الحضاري برمته في التاريخ الإسلامي، هذا ما يؤكد لنا عليه فيلسوف الاجتماع عبد الرحمن بن خلدون الذي عمل على دراسة نشأة الدول وتعاقبها بين النهوض والسقوط في العالم الإسلامي، وإبراز المحددات الفاعلة في صياغتها، فالدين والقبيلة بهذا المنظور أسَّان اثنان، بحيث تشكّل القبيلة الشكل والقالب، بما توفره من شوكة ومنعة وعصبية لازمة لقيام الدولة، بينما يمثل الدين والروح طاقة الدفع الجماعي واللاحِم للمكونات الاجتماعية، فالإسلام انبثق في بيئة كانت منقسمة بين قوتين حضاريتين وسياسيتين آنذاك، هما الفرس والروم، وقد كان النظام الاجتماعي الشرقي حينذاك يتشكل من قبائل هائمة في الصحراء، تتباهى بالمنعة وتفخر بقيم القبيلة وأعرافها، لكنها كانت تفتقد إلى المشروع الحضاري، وتغيب عنها الوجهة.

لقد منح الإسلام القبائل والشعوب، التي اعتنقته، رسالة وجودية في الحياة ومشروعا حضاريا جديدا في معظم الشرق والبلدان التي امتد إليها، كما صاغ وجهتها ورؤيتها للعالم، ومدها بخميرة تمكنها من النهوض من خلال وضع أسس جديدة لنظمها القانونية والاجتماعية والثقافية، حصل ذلك في السياق العربي حين كانت العصبية القرشية الممزوجة بالفكرة الدينية في مرحلتها الأولى أساس اتساع قاعدة المجتمع الإسلامي في الشرق، وهو ما حدث في معظم الدول مشرقا ومغربا مع عصبيات متنوعة، ونفسه مع تأسيس الإمبراطورية العثمانية، التي تجسد جملة من الأعمال السينمائية فعالية العنصر القبلي أو القومية التركية  والالتحام الذي حصل مع العنصر الديني، وما أثمر عنه سياسيا واجتماعيا  صبغة القوة والتمدد شرقا وغربا.

لم يفقد الدين حيويته في المجال العربي والإسلامي، بل ما يزال يشكل باعثا رئيسيا في توجيه الوعي، فالقيم الدينية وبُعد الروح تسرب إلى الثقافة والوعي السائد، إذ أصبحت بمثابة رأسمال رمزي تمثل العودة إليه واستدعاؤه، في الأعمال السينمائية، عنصر جذب للجمهور في سياق الجدل مع أعمال سينمائية أخرى تنزع للتفكيك، على الرغم من قيمتها الفنية، فالبعد الروحي والأخلاق الدينية يعكسان جانبا هو من صميم ثقافة المجتمعات الشرقية وأحد أسس تشكل الوعي المجتمعي بها، ذلك أن المسلم في الزمن الحاضر، حينما ينظر في جوانب من سيناريو الأفلام التاريخية، يجد أنها بمثابة مرآة ينظر من خلالها في بعض قسمات شخصيته عبر التاريخ، بل إن استبطانها للجانب الروحي والأخلاقي بخلفية تستحضر القيم الأخلاقية والدينية، في قالب فني إبداعي، تجلى في أن الإبداع ليس بالضرورة مفاصلا للأبعاد الأخلاقية، أو أن الفن نقيض الدين، بل هما من مشكاة واحدة، فبينهما وحدة مبدئية (علي عزت بيغوفيتش، الإسلام بين الشرق والغرب)، بحيث يستجيبان لهواجس الإنسان الداخلية، ويلبيان حاجته الروحية، كما أنهما يعبران عن تطلعات الإنسان الفطرية للمطلق، أو البعد المتجاوز فيه للعالم المادي المحسوس.

يكاد هذا الجانب يحضر في تجليات متعددة، في الخطاب والرموز وغير ذلك، لكن يكفينا رصده على مستوى الشخصيات وحسب، مثل شخصية ابن عربي في مسلسل أرطغرل، وأديب علي في مسلسل عثمان، وما رافق حضورهما من دور يرقى إلى المرشد الروحي، أو واضعي الأسس الدينية للدولة الناشئة، وعلى الرغم من إشكالية الحقيقة التاريخية لوجود ابن عربي أساسا في ذلك وفي تلك البقعة الجغرافية، أو التضخيم الحاصل لدوره، وكذا دور الشيخ أديب علي في مرحلة لاحقة، بالإضافة إلى نزعة العرفان التي تستهوي الثقافة التركية، إلا أن استحضارهما ينبغي النظر إليه من زاوية إبداعية صرفة، حيث يشكل الخيال الخلاق جوهر العمل الفني، وإلا أصبح رواية تاريخية جافة بدون روح، ثم إن الأمر واقعيا في السياق التاريخي يذكر المتلقي بالأدوار الاجتماعية والتربوية  التي اضطلع بها الفقهاء والمتصوفة والفلاسفة، وعلاقتهم بالسياسة والسلطة عموما.

- الواقعة التاريخية والبطولة بين البعد الفني الإبداعي والحقيقة التاريخية

يشكل التاريخ مادة خام لكل إبداع، وحينما تلتحم السينما بالتاريخ لا ينتظر من العمل الفني أن يسرد لنا الرواية التاريخية كما نقلت مشافهة أو من خلال التدوين، ذلك أن الروايات التاريخية كما سبق في غالبها مادة بدون روح، وأن ما يمنحها الروح ويهبها الحياة هو خيال الأديب، وكاتب السيناريو أو المخرج. 

يمكن القول إن النصوص التاريخية، التي دونت الكثير من الوقائع وتجارب الشعوب والأمم السابقة، ليست كلها المصدر الأساسي لجمالية الأعمال الفنية على الرغم من كونها مصدر إلهام، فالثروة الأساسية هي الخيال الذي يملكه الإنسان وقدرته على الربط بين الوقائع التاريخية في الأعمال التاريخية وصياغة قصة بها قدر من التناسق والإبداع الذي يعبر عن عالم المخرج أو الأديب.

لذلك؛ فإن الإقبال على الأعمال التاريخية ينبغي أن يكون من منطلق فني أولا، بحيث يخلق المتعة وينمي قيم الجمال الكامنة في الإنسان، فكل إنسان له ذائقة فنية تنفعل ذوقيا وجماليا بالإبداع الذي يخاطب الوجدان، وبالأفق الذي يفتحه الخيال للعقل، لكنه كذلك ينظر إلى المضمون الثقافي والقيمي الذي يستبطنه هذا العمل الفني أو ذاك، ومن ثم فإن الدراما التاريخية التركية قد تستعيد بعض معالم التاريخ، لكن لا ينبغي النظر إليها من منطلق الحقائق التاريخية، على الرغم من إمكانية وجود كثير منها، أو نقدها من هذا الجانب بدعوى مناقضتها للتاريخ الذي وقع، لأن الغاية التي تحكم مثل هذه الأعمال الفنية هو إسهامها، المبطن والمعلن معا، بأداة السينما في الوصل مع أسس ثقافية وقيمية انقطعت أو تعرضت للجرف مع العلمنة بالإكراه والقسر في السياق الحديث.

يمكننا في الواقع أن نسرد أشياء من الأعمال السينمائية، التي خلفت جدلا بين حدود الخيال الفني والحقيقة التاريخية، ومنها كما سبق على مستوى الشخصيات: ابن عربي وغيره، لكن رغم عدم وجودها حقيقة، فإن غيابها عن العمل الفني كان سينزع عنه أحد أبعاده الجمالية التي كانت كامنة في التاريخ، ولو في تمظهرات أخرى مثل علاقة العالم بالسلطة أو السياسة، كما أنه سيجرده من أحد الشخصيات التي قد يكون دورها أساسيا في إبراز الرسالة المقصودة من هذه الأعمال السينمائية، ويمكن أن نشير هنا إلى مدى التنظيم والدور الاجتماعي الذي برزت من خلاله التكايا الصوفية، فهو وإن لم يكن بذلك الحضور النوعي حينها، لكن اللحظة الراهنة والثقافة الدينية في السياق التركي الممزوجة بالتصوف والعرفان، وتأثير ذلك في صياغة الوعي يستدعي حضورها.

ما ألمحنا إليه عن الشخصيات، يمكن الحديث عنه بخصوص الوقائع، وأدوار ما سمي حراس المعبد والمغول والعلاقات المتخيلة عن بيزنطة/القسطنطينية والصراع داخل أسوراها في عهد عثمان والأدوار البطولية الكبيرة للعثمانيين في تلك الفترة بالذات، حضور ذلك في جانب كبير منه يمكن اعتباره متخيلا، لكنه في سياق الصراع كان حاضرا بشكل من الأشكال، فهو ضرورة لرسم معالم البطولة، دون أن نغفل أن استدعاء هذا الجانب من التاريخ له أهمية كبرى، لإبراز التحديات التي كانت مطروحة آنذاك في سياق تشكل الدولة حينما كان الشرق متداعيا في أغلبه، وهي مطروحة في اللحظة الراهنة في سياقات إقليمية ودولية معقدة تمر منها تركيا في فترتها الانتقالية لاستعادة دورها الذي كانت تقوم به قبل أن تقع فريسة للاستعمار، وكما أشرنا في المقالة السابقة، فإن ما لا تقوله السياسة قد تقوله السينما أو الدراما، فعلاقة السينما بالسياسة وثيقة.

إن الأدوار التي تضطلع بها الدراما التاريخية، في السياق التركي، تعمل بشكل متواز مع الجوانب الأخرى التي تحاول أن ترصد التحول الحاصل، بل أن تقوم بالتأثير في معالمه الثقافية والدينية التي تستعيد المشروع الذي استند إليه العثمانيون ابتداء، بل واستندت إليه كل الدول في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والتي أسهمت في صياغة معالم الحضارة في التاريخ الإسلامي، وهو ما لم تفلح فيه السينما العربية، أي في استدعاء رموزها وشخوصها في سياق من البناء الجديد، لكن هذا عربيا يظل مستعصيا، إذ تعبر السينما التي تستبطن رسالة تخدم الأهداف الإستراتيجية للدول، في سياق الصراع من أجل الاستقلال والتقدم في عالم اليوم، جانبا من جوانب النهضة الثقافية والعلمية والإرادة السياسية. وبكلمة: أثبتت الدراما التركية بالفعل أنها قوة ناعمة فعالة داخل تركيا، بإعادة تشكيل الوعي الجماعي، وخارجها بخدمة المصالح التركية.

تنفيذ / كعب