تونس، موسم الهجرة بلا بوصلة
الشعب نيوز / صبري الرابحي . لم تكن الهجرة يوما ملاذا إختياريا للتونسيين فقد نشأ أغلبهم داخل دفئ إجتماعي و عائلي أسس لعديد الروابط التي تشدهم إلى وطنهم.
أما الوطنية نفسها فقد كانت و لازالت وسيلة للدعاية للنظام من جهة و وسيلة للمزايدة من جهة أخرى، و لم تقترن حتى الآن بما للمواطنين على أوطانهم من كرامة و شغل و حريات لا تكون فئوية أو نخبوية و إنما تتحول إلى ممارسة عادية يدافع عنها الجميع من خارج تفكيرهم الغرائزي في أولوية المواد الإستهلاكية على كل شيء.
وهو ما ميز هذه السنوات الأخيرة التي لم يعد يخفى على أحد إسقاطها لمثل الثورة و تحولها إلى المطلبية البحتة داخل مربع التجويع و ندرة المواد الأساسية و غلائها حتى صارت الهجرة بديلا معقولا بالنسبة للكثيرين.
اليوم أصبحت الهجرة و باروناتها المتخفون وراء أسماء غريبة ملاذات أفضل عند بعض التونسيين من وطنهم و صارت أهوال التسلل إلى بلدان ترفضهم أسهل من وطن يقبل بوجودهم على مضض و يهيء لهم أسباب المغادرة و يصيح بهم كل يوم أنهم ليسوا مرحباً بهم تماما بإيتيكات الدبلوماسية التي تصمت عن الدفاع عن حقوقهم متى غادروا و تلتزم الحياد أمام أزمة جيل بأكمله إختلط عليه العنف السياسي و العنف الإجتماعي فترجم هذا العنف إلى طريقة عنيفة في المغادرة و "كسر" الحدود الأكثر شراسة و عدوانية تاريخيا لدول جنوب المتوسط.
فمن الذي حول التونسيين إلى ذوات متناثرة في شتى دول العالم بلا بوصلة و بلا عنوان وصول؟
و من الذي أفسد حميمية علاقاتهم بالأرض و العائلة و كل ذلك التراث المتجذر في لهجاتهم و ملبسهم و مأكلهم و حتى طريقتهم في التعبير..
تشير الأرقام التي نشرها المنتدى التونسي للحقوق الإقتصادية و الإجتماعية إلى هجرة أكثر من 15 ألف مهاجر نحو إيطاليا عن طريق الهجرة غير النظامية و المفزع في الأمر هو أن خمسهم من القصر، فأي وعي جمعي قد يؤسس لإرادة المجازفة لدى هذا العدد المهول من المهاجرين خاصة في سن متقدمة قد تجد البدائل في التمدرس أو حتى محاولة تلقي تكوين مهني أو البحث عن عمل.
هذه الأرقام تعكس أيضا إنسداد الأفق على الأقل في المدى القصير أو المتوسط الذي أصبح مسيطرا على عدد كبير من الشباب الذين لم يجدوا ضالتهم في ما توفره دولتهم من بدائل و التي تبدو محدودة و غير مقنعة و غير مجدية من الأساس.
أحد أشكال الهجرة غير النظامية و التي تنامت خلال الفترة الأخيرة هي السفر نحو صربيا و العبور منها إلى المجر ثم النمسا التي تخول التنقل بحرية داخل الفضاء الأوروبي. هذه العملية في حد ذاتها بالرغم من مخاطرها و مخالفتها لقوانين الهجرة و إنبنائها على التحايل على القانون و المجازفة إلا أنها أصبحت هي بدورها ملاذا شبه آمن لعديد كبير من التونسيين الذي يغفلون صعوبة تسوية وضعياتهم للظفر بالإقامة الدائمة بالفضاء الأوروبي.
هذه الطريقة في المغادرة أصبحت محل إطمئنان واسع بسبب الأمان و فرص النجاح المرتفعة التي صارت محل تفاخر للتونسيين بأنهم قادرون حقاً على كسر الحدود الإقليمية و الإنتشار داخل الفضاء الأوروبي بواسطة مغامرة معقولة المخاطر تحولت شيئا فشيء إلى طريقة عادية تتقبلها العائلات و تدفع من مدخراتها و أصولها و تبيع ما تملك من أجل تهيئة الطريق لأولادها.
هذه الطريقة لم يستطع أحد تحديد عدد المهاجرين بواسطتها لعدة إعتبارات أهمها تشعب مسالكها و كثرة باروناتها الذين تختلف جنسياتهم و قيمة المبالغ التي يطلبونها إضافة إلى إختلاف طرق العبور كالتسليمة و التقاطيع وفقاً للتقرير الإستقصائي الذي نشره موقع إنكفاضة.
و عودة على أسباب و مسببات هذه المغامرات المميتة في أغلبها و التي لا تخلو من المجازفة من أجل جزاء أقصاه الموت و أدناه الترحيل أو الإحتجاز نجد أن تفكير التونسيين تحول نحو القلق على مستقبلهم إستتباعا للوضع الإقتصادي و السياسي اللذين يشكلان أرضية خصبة لإنسداد الأفق و عدم الجدية في حل رهانات البلد.
فالهجرة كانت خيارا معقول لغير المتعلمين و المنقطعين مبكراً عن الدراسة غير أنها تحولت إلى ملاذ مهم لحاملي الشهادات العليا و الذين كان آخر أملهم في الإنتداب هو تفعيل القانون عدد 38 الذي ألغاه الرئيس و وعد ببدائل لم ترى النور بعد متغافلا عن أن المعطلين عن العمل قد نفذ صبرهم و طال إنتظارهم حيث تجلد آمالهم كل يوم بحقيقة غلق الإنتدابات بالوظيفة العمومية.
هؤلاء المعطلون لم يجدوا إلى حد الساعة بدائل عن أملهم في الإشتغال لفائدة الدولة حيث لم يكن تكوينهم منذ البداية يخرج عن تحضيرهم للعمل في الدوائر الحكومية خاصة في ظل غياب الموارد اللازمة لأغلبهم للإنطلاق في مبادرات فردية لخلق مواطن الشغل الخاص بهم و خلق طاقة تشغيلية لمن سواهم.
كل هذه الأسباب أصبحت اليوم محركا أساسيا للتونسيين للذهاب بعيداً دون بوصلة و بدون تحديد هدفهم من الهجرة أحياناً في ظل أزمة عالمية خانقة أعقبت سنوات الإغلاق الإضطراري بسبب الكوفيد 19 و كان الهاجس دائما هو الإنطلاق نحو المجهول لعله يحمل في طياته ما هو أفضل من واقعهم المعلوم في بلدهم و الذي لم يستشعروا حد هذه الساعة بوادر تغيره إلى الأفضل.