الشرعية والمشروعية والديباجة الترسّلية : في ذكرى المنصف وناس والشخصية القاعدية
الشعب نيوز/ محمد الجابلّي - ها نحن على عتبات شهرين مميزين، ديسمبر الثورة الجريحة وجانفي الثورة الأنيقة، ولم نبرح بعد تلك الديباجة الراسخة في ذاكرة الأجيال وريثة فن الترسل في الفضاءات العالمة وكذا في المخيال الشعبي...الحرص على الديباجة هو جوهر الرسالة حتى وإن خلت من المضمون ...
لا يهم لأن القيمة في حسن المداخل والعتبات، معلم القرية أو مؤدبها أو قديم مناضليها أو عرافها ...يكتبون رسائل الخمسينيات من القرن الماضي...زمن فتوة الجمهورية الأولى ...رسائل معلومة لا أسرار فيها فهي لجبر الخواطر ليس إلا...
" إلى من إسمه سليم وقلبه رحيم وشأنه عندنا وعند الناس وعند الله عظيم...أعني بذلك صديقي بل أخي وقرة عيني ومهجة فؤادي وحافز قلمي فلان...أما بعد ...فنحن بخير ولا يخصنا من العلي القدير سوى الاجتماع بكم والاستماع إلى تبر كلامكم ..."
على عتبات تواريخ ثورتنا وبعد سنوات تجاوز العقد من الزمن الكسول، لم نخرج من الديباجة التي تفنن فتية وشيوخ السياسة في صياغتها بعدّة ألسن
ننتظر أما بعد ...
ثوار جانفي رواد الشرعية وثوار ديسمبر رواد المشروعية ...بينهما شعب كريم ينتظر ما بعد الديباجة الترسلية ...ديباجة الشعارات والشعائر...
موريتانيا بلد المليون شاعر والجزائر بلد المليون شهيد، أما نحن فبلد المليون زعيم...والزعامة يقتلها العدد كما يقتلها الإدعاء...
شطحت الأحزاب ثم رقصت وأفرغت شحناتها واستهلكت رصيدها ولم تجد السبيل إلى شحنه وتجديده ...وكانت لحظة الخروج من العدد والمعدود إلى الواحد الجلمود فيها ما فيها من عبرة وقساوة...قساوة الغرق في الأقاصي...ذلك التطرف الذي ميز اللحظة عندنا حيث لا وسط ولا وسطية رغم انتمائنا إلى ضفاف المتوسط...لأن التطرف هو الوقوف على حافة الهاوية ومنه بداية السقوط...
لكن اللحظة فيها عبر ودروس للذين يتعظون، والدرس الأقسى لنخب ضيعت البوصلة وأعمتها السلطة عن الواجب والضمير ...يأجوج ومأجوج...وشاطح باطح ...أضواء ولافتات وعناوين...لكن غاب عنها العنوان الأبرز الذي فتح لهم سبل الإقتدار وممكنات الفعل...الكرامة التي تجمع بين الخبز والحرية ولن تكون إذا اختلّ التوازن بينهما...
جانفي عامنا هذا هو المفرد الذي مرّ بصمت دون صخب ودون احتجاج ...ذلك التقليد الذي ألفناه منذ عقود وفي ذلك درس بل دروس لذوي الاعتبار...
يهدأ الشارع بصخبه المعهود ...وفي ذلك رسائل عدة، لعل الأبلغ فيها فقد الثقة في صخب سياسي، إعلامي، شعاراتي، والاستسلام لانتظار نور ما في آخر النفق...
ديسمبر وجانفي قريبان والشعب الكريم "يرقد في الخط لكنه –كما يقول المثل- يمكن أن يدور في الحلة" وهو يرقب بين بقايا أمل وطلائع خيبة ...يرقب بعين مغمضة وأخرى مفتوحة...كالنائم وكاليقظ...وهو ليس بيقظ وليس بنائم...
يرقب صراع الصبية على الركح الكبير ...ركح قرطاج وترشيش...ويشهد المسرحية السمجة بتثاقل ولا مبالاة...ولسان حاله يقول ماذا بعد هذا الهرج والبريق والنعيق والزعيق...
يمكن أن تسير الحياة بلا أحزاب ويمكن أن تسير بلا دساتير لكنها لن تكون بلا خبز وحليب وزيت وزيتون... "لا يمكن للعقل أن يحكم الواقع ...ما لم يصبح الواقع في حد ذاته معقولا" مقولة هيجلية تلخص الحافة الشائكة التي نقف عليها...
يتصارع السياسيون، صراعا نظريا، مسطحا، حول دساتير لا جدوى منها أو حول قوانين وانتخابات تدور، كلها، على ركح صغير قليل الفعل والنجاعة ...فيما الواقع ينسحب إلى هوة سحيقة، فيها دمار واضح وآخر مؤجل وغير منظور...
متاهة الغلاء، قليله مبرر بفعل عوامل المناخ والتقلبات العالمية، وكثيره لا تبرير له ، وهو من سطوة السماسرة والناهبين أصحاب الأيدي والأذرع الطويلة...
جرائم تدمير قطاعات استراتيجية بكل قسوة ...قطاعات انتاجية تقليدية تعتاش منها آلاف العائلات كقطاع الألبان ...آلاف العائلات في قرانا المفقرة صارعت العيش بجهدها وعرق أبنائها وهي راضية لا تطلب غير الستر...من خلال تربية بقرات حلوب توفر الغذاء والكساء وممكنات العيش المستور ...
فلاحتنا تتذمر بل تئن من فعل السماسرة والعابثين...لاحدود عندهم ولا ضمير ولا وجدان...من صابة الزيتون المنهوبة والمضيعة قبل سنوات الى صابة التمور والقوارص الى صابة الحبوب التي طيرها الحمام...
أزمتنا أعمق من الدساتير هي "أزمة أوادم" كما ردد صديقي العراقي...أزمة ضمير وقيم...
ما بعد هذا الصراع المسطح على "اللاشيء العظيم" قد تجد أجيال شابة طريق الوطنية والصدق بعيدا عن المدونات واللافتات والأضواء ...قد يعود الشارع إلى نبضه بعد امتلائه بقنابل صوتية أخرى فراغية كثرت فيها الفرقعات وغاب منها إكسير الحياة وممكنات الفعل ...
رحم الله عالم الاجتماع منصف وناس في ذكرى وفاته، نبش ونقب وقال الكثير في الشخصية التونسية لكنه ربما تحفظ ولم يذكر صراحة بأنها شخصية ناكرة ماكرة دأبها الجحود وعلامتها القعود...
بحث في الشخصية القاعدية، لكن الشخصية التونسية في هشاشتها التاريخية وسطحيتها ورقاعتها، لا قاعدية لها ...ولا رسوخ...لذلك ربما هاجر عدد كبير من الدارسين والعلماء بعدما لاقوا من النكران والتجاهل في أرض ترشيش سافروا وتوزعوا في الأصقاع وكان منهم العلماء والأعلام المرموقون في ديار الغربة...