وثائقي

ضدّ النسيان: ذكرى المناضل اليساري والحقوقي احمد بن عثمان

08  ديسمبر 2004، ذكرى وفاة أحمد بن عثمان الرداوي مؤسس الفرع التونسي لمنظمة العفو الدولية قبل أن يلتحق بجهازها المركزي بلندن الذي غادره ليؤسس "المنظمة الدولية للإصلاح الجنائي" (Pénal Reform International)

وهذه مقتطفات من شهادة تاريخية لأحمد بن عثمان حول التعذيب في تونس .

ترجمها عن الفرنسية وقدم لها: محمد معالي

أحمد بن عثمان الرداوي، كما عرف في أوساط اليسار منذ النصف الثاني من ستينات القرن الماضي، أو أحمد عثماني، كما عرف لاحقا في الأوساط الحقوقية الدولية، غادرنا باكرا وهو في أوج العطاء في حادث أليم يوم 8 ديسمبر 2004 بالمغرب الأقصى حيث كان يشارك في تظاهرة حقوقية دولية. وقد هز نبأ رحيله المفاجئ رفاقه الذين عرفوه عن قرب كما هز كل المناضلين الديمقراطيين المستقلين والمنتظمين على اختلاف انتماءاتهم، خاصة وقد جاء هذا الحادث في تاريخ قريب من وفاة رفيقه في رحلة النضال ومعاناة آلام التعذيب والسجون المناضل اليساري البارز نور الدين بن خضر. وقد كان إحياء أربعينية أحمد بن عثمان في فضاء التياترو بالعاصمة الذي غص بالحاضرين خير دليل عن التقدير الذي يحظى به هذا الرجل.

لقد عاش أحمد بن عثمان طوال الفترة الممتدة بين أواخر الستينات وسنة 1979 إما سجينا أو ملاحقا أو رهن الإقامة الجبرية... وكان واحدا من بين ستة شملهم ما يعرف بإجراء التراجع عن العفو الذي اتخذه الرئيس الحبيب بورقيبة في شأنهم بسبب "عودتهم" أي عدم تخليهم عن مواقفهم ومواصلتهم العمل السياسي بعد إخلاء سبيلهم سنة 1970، ومقتضى هذا القرار أودعوا السجن لسنوات طويلة دون الحاجة لإصدار حكم جديد ضدهم، أما الخمسة الآخرون فهم نور الدين بن خضر وجلبار نقاش ورشيد بللونة ومحمد الصالح فليس وعبد الله الرويسي.

وقد كان لأحمد عثماني دور نشيط في تأسيس الفرع التونسي لمنظمة العفو الدولية قبل أن يلتحق بجهازها المركزي بلندن الذي غادره ليؤسس "المنظمة الدولية للإصلاح الجنائي" (Penal Reform International)

وصدر له سنة 2002 كتاب باللغة الفرنسية تحت عنوان: "الخروج من السجن" (sortir de la prison)

ولكن يبقى أكثر ما كتب الفقيد حرارة والأشد وقعا في النفوس هي شهادته الشهيرة التي وصف فيها بإسهاب التعذيب الجهنمي الذي تلقاه لدى إيقافه والتي هرّبها من معتقل برج الرومي ونُشرت في بمجلة "الأزمنة الحديثة" (Les Temps Modernes) التي أسسها جان بول سارتر، في عددها الصادر في شهر أفريل 1979.

وقد قدّمت مجلة "لطون مودارن" لهذه الشهادة بكلمة أهم ما جاء فيها:

قررنا أن ننشر شهادة أحمد بن عثمان (...) حتى نضع حدا للنسيان واللامبالاة التي أحاطت بوضعه ووضع رفاقه.(...) إن المعاملة الفظيعة التي كان أحمد بن عثمان ضحية لها لم تكن، مع الأسف! عملا استثنائيا. وقد كانت شهادته، تشهيرا بنظام قمعي بمجمله. إن كل سجين سياسي (هذه الفئة التي "تتجاهلها" السلطات التونسية)، وكل معارض يتهدده، في نهاية المطاف، احتمال التعرض إلى مثل هذه الممارسات. وفي السنة الماضية، إثر 26 جانفي، تعرض العديد من النقابيين إلى التعذيب. وقد طالبت النقابات الفرنسية (...) بإعادة التحقيق حول وفاة النقابي الحسين الكوكي. ويواجه حاليا أربعة وأربعون سجينا سياسيا (من بينهم النقابيان الحبيب عاشور وغربال) مصيرا مجهولا في سجن الناظور.

لقد أُرسلت هذه الشهادة إلى السيد كورت فالدهايم، وإلى اللجنة الدولية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، ومنظمة العفو الدولية والاتحاد الدولي لحقوق الإنسان وشخصيات سياسية بارزة من مختلف أنحاء العالم.

مقتطفات من شهادة أحمد عثمان

جاءت شهادة أحمد بن عثمان في شكل سردي يصور دقائق ما تعرض له من ممارسات تعذيب فكانت أنموذجا لما يمكن أن يواجهه أي سجين سياسي. وعلى الرغم من الشهرة العالمية التي كسبتها هذه الشهادة وعلى الرغم من تداولها بين العديد من المناضلين من أوساط اليسار التونسيين، بنصها الفرنسي، إلا أنها لم تترجم إلى العربية، حسب علمي، ولم تنشر في تونس.

ومما جاء في هذه الشهادة:

1 ـ يعود تاريخ أول اعتقال لي إلى شهر ديسمبر 1966 إثر مظاهرة طلابية. كنت حينها مسؤولا نقابيا. أحتفظ بي في مقرات الشرطة لمدة أسبوع، دون اتصال بعائلتي، ودون رعاية طبية، وقد تعرضت، بمعية طلاب آخرين، إلى جميع أشكال التنكيل.

2 ـ وفي شهر مارس 1968، شهدت الجامعة حركة إضرابية للمطالبة بإخلاء سبيل طالب صدر ضده حكم ثقيل بالسجن مع الأشغال الشاقة. فاعتُقلت أنا وكل المعارضين في التنظيم النقابي الطلابي، الاتحاد العام لطلبة تونس.

كان جدا تحقيق الشرطة شديدا جدا والتعذيب فظيعا. وقد بُعث، من أجل محاكمتنا، هيكل قضائي استثنائي هو محكمة أمن الدولة، في تناقض صارخ مع الدستور التونسي، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي صادقت عليه تونس. وواصلت محكمة أمن الدولة هذه، منذ ذلك الحين، إصدار أحكامها عدة مرات كل سنة ضد عشرات من معارضي النظام، وتوزيع العقوبات في قضايا رأي مفتعلة ضد كل الذين يفكرون بشكل مختلف، والذين يتشبّثون بحقوقهم التي يضمنها صراحة دستور البلاد والاتفاقات الدولية.

(...) لقد أحلنا على هذه المحكمة في أوت1968 ووجّهت لنا بالتهم التالية :

1 ـ التآمر على أمن الدولة الداخلي.

2 ـ الانتماء إلى منظمة غير مرخص لها.

3 ـ نشر أنباء زائفة.

4 ـ ثلب النظام وممثلي الولايات المتحدة وفيتنام الجنوبي.

وأصدرت هذه المحكمة حكمها ضدي باثنتي عشرة سنة سجنا، وصدر حكم غيابي ضد زوجتي (التي طردت في وقت سابق) لمدة خمس سنوات سجنا.

وقُبيل اعتقال الشرطة السياسية لي (فرقة أمن الدولة) اختطفتني الشرطة الموازية للحزب الواحد (الحزب الاشتراكي الدستوري) من الحرم الجامعي نفسه بمعية مسؤولين طلابيين آخرين وتعرضنا للضرب بوحشية وألقوا بي، فاقدا للوعي، في زقاق مظلم من المدينة العتيقة.

أما بالنسبة للشرطة السياسية، فرقة سلامة أمن الدولة، فقد سلطت عليّ كل أشكال التعذيب الجسدي والمعنوي. بدؤوا بوضعي في غرفة خالية، جرّدوني من ملابسي وأجبروني على أن أجثو على الركبتين، عاريا، وأن أرفع بيدي كرسيا ثقيلا، وكلما أنزلت يديّ، بسبب التعب، انهالت ضربات السوط على كامل جسدي. كان هذا يستمر طوال ساعات حتى يُغمى عليّ. عندئذ كان يصبون سطلا من الماء على رأسي ويُستأنف كل شيء من جديد. بعد ثلاثة أيام بلياليها قضيتها في ظل هذه المعاملة دون نوم، ودون طعام ، أصبحت وتيرة الإغماء أكثر تواترا. عندئذ غيروا أساليبهم. كانوا يُجلسونني على كرسي ويسلطون على عينيّ مصباحا كهربائيا قويا، و كانوا يضربونني كلما حاولت إبعاد عينيّ عن هذا الضوء الساطع الذي يذهب بالأبصار. واستمر هذا لأكثر من أربع وعشرين ساعة دون انقطاع. وهو ما أدّى بي إلى الإصابة بنوبة عصبية أخذت تتالى بنسق أكثر سرعة ولم أعد قادرا على فتح عيني على الرغم من الضربات التي كانت تنهال عليّ من كل جانب. وبعد هذه المعاملة، بقيت أكثر من شهر غير قادر على تحمل أي بصيص من الضوء، وأصبحت أعاني من قصر نظر آخذ في الازدياد يوما بعد يوم.

ثم استعملوا في تعذيبي السقائر التي كانوا يطفئونها على جسدي وخاصة الأجزاء الحساسة منه.

كان أعوان الشرطة يسألونني باستمرار عن آرائي وعن المنظمة التي أنتمي إليها وعن أسماء أعضاء المنظمة الآخرين وعن معدات الطباعة (آلات طابعة محلية الصنع وآلات كاتبة). وقد استمر هذا لمدة شهر ونصف الشهر تناوب فيها التعذيب الجسدي والسب والشتم، والتحرش المستمر والضغط على الأصدقاء والأقارب الذين لم يتعرضوا للاعتقال والحرمان من الطعام، أو التغذية الاصطناعية، لما أعلنت الدخول في إضراب عن الطعام، بإدخاله عن طريق الأنف أو عن فتحة الشرج.

لقد كان البوليس السياسي يعمل لوحده، في جميع مراحل التحقيق، دون أية ضوابط ودون أية رقابة قضائية. وكان يعتقل الناس بالمئات ويجري عمليات التفتيش ويصادر الممتلكات ويمارس التعذيب ليلا ونهارا. وليس متاحا لقاء محام ولا تلقي زيارة من الأهل. ولم يكن مسموحا بالكتابة ولا بتلقي الرسائل وكانت كل قراءة محرمة. وكانت العزلة تامة. وكانت تنضاف إلى المعاناة الجسدية معاناة نفسية أكثر إيلاما.

ثم، لم نُحل على حاكم التحقيق إلا بعد ثلاثة أشهر، بعد انتهاء تحقيقات الشرطة، ونُقلنا إلى السجن المدني. وسلطت على محامينا ضغوط من أشكال شتّى لمنعهم من قبول الدفاع عنا: من مراقبة لصيقة من البوليس السياسي، إلى رسائل التهديد، ووصل الأمر إلى حدّ تسجيل عمليات اختطاف نفذتها الشرطة الموازية.

ولم تكن المحاكمة سوى مهزلة قضائية(...)

وبعد أسبوع من صدور الأحكام الثقيلة (اثنتا عشرة سنة بالنسبة لي) ، نُقلنا إلى بنزرت، إلى السجن الذي أنا فيه الآن. واستقبلنا الأعوان، من حراس السجن والإداريين بوحشية ليس لها نظير.لقد أنزلونا مباشرة من حافلة السجن التي نقلتنا إلى كهف يقع على عمق ثلاثين مترا تحت سطح الأرض. جردونا من ملابسنا المدنية، وألبسونا زيّ المعتقل (قميص رثّ وسترة وسروال من بقايا أزياء عسكرية أمريكية)، وبعد ذلك حلقوا رؤوسنا ثم انهالوا علينا ضربا: لقد كان هذا، كما أوضحوا لنا لاحقا، نحن بعد ذلك، هو حفل "الاستقبال" حتى يجعلوننا نحسّ معنى الانضباط في المعتقل وكذلك لمعاقبتنا بسبب مطالبتنا بوضع المساجين السياسيين.

أمضينا خمسة عشر يوما في هذا الكهف الرطب الذي ينزّ من جميع أرجائه والذي تغطي المياه الراكدة أرضيته، على أفرشة من الحلفاء ملقاة مباشرة على الأرضية الرطبة. ثم أخرجونا ووضعونا في زنازين تفتقر إلى الحد الأدنى من شروط النظافة، حيث بقينا مدة سنتين.