وطني

بيان الـ77: النضال على كل الجبهات ومشروع وطني للخروج من الازمة الراهنة

الشعب نيوز/ المحرر - جاء في البيان الذي صدر للغرض أن تأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل يوم 20 جانفي 1946 مثل استجابة لإرادة الطبقة الكادحة في تجذير النضال الوطني والاجتماعي ضدّ المستعمر الغاصب والقوى الرجعية المتحالفة معه، كما شكّل تحوّلا نوعيّا في قدرات شعبنا على تنظيم صفوفه وتصليب وحدته وتطوير أدوات نضاله ضدّ الاضطهاد المزدوج الذي كان يعاني منه: الاضطهاد الوطني ممثّلا في الهيمنة الاستعمارية على ثرواته ومقدّراته والاضطهاد الاجتماعي مجسّما في الاستغلال المتوحّش والتمييز المقيت الذي كانت تعاني منه طبقته العاملة وبقيّة الفئات الشعبية الأخرى من الشركات الرأسمالية الاستعمارية وكبار المعمّرين الأجانب.

نقطة تحول رئيسية

إنّ ميلاد الاتحاد العام التونسي للشغل يوم 20 جانفي 1946 كان نقطة تحوّل مفصليّة في موازين القوى بين الشعب التونسي والاستعمار والمتحالفين معه لم تقدّر سلطات الاحتلال الفرنسي هذه المرّة على وَأْدِهِ وقتله في المهد مثلما فعلت مع التجارب النقابية الوطنية السابقة. فلقد نجح جيل حشّاد العظيم في الاستفادة من تجربة الزعيم محمد علي الحامي الرائدة سنة 1924 ثمّ من تجربة جامعة عموم العملة التونسيين الثانية بقيادة المناضل بلقاسم الڤناوي سنة 1937 واللّتان انقرضتا بسرعة جرّاء القمع الاستعماري ومعاداة القوى الرجعية للعمل النقابي والرسالة التحرّرية والحداثية التي يحمله.

لقد نجح الشاب فرحات حشّاد ورفاقه المؤسّسون في اقناع الطبقة العاملة التونسية بضرورة بناء تنظيمها النقابي المستقلّ عن النقابات الفرنسية وفي زرع الوعي داخلها بأنّه لا خلاص لها من الاستغلال والبؤس إلاّ متى خاض شعبنا معركة طرد المستعمر ونيل الاستقلال وتقرير مصيره بنفسه وهو ما يتطلّب بناء وحدة وطنية صلبة وتجميع كلّ فئات الشعب التونسي حول مشروع يهدف لنيل الحرية والاستقلال وبناء دولة وطنية حديثة تصان فيها الحريات وتضمن العدالة الاجتماعية لجميع أبنائها.

قافلة طويلة من الشهداء

وحيث توجه البيان الى العمال وعموم الشعب التونسي فقد ابرزان الاتحاد العظيم قاد المعركة الوطنية على كلّ الجبهات، السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وحتّى الرياضية مقدّما قافلة طويلة من الشهداء والضحايا سواء خلال الحركات الاجتماعية والاضرابات العمالية أو عند تنظيمه للكفاح المسلّح منذ بداية سنة 1952. كما نجح اتّحادكم الشامخ في إبراز قدرات شعبنا على بناء دولته وإدارة شؤونه بنفسه عندما شرع في إنشاء المؤسّسات التونسية في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والرياضية وفي مجال الشباب والمرأة كمؤسّسات بديلة ومقاومة للاستعمار. 

وإذا كان الهدف من اغتيال الزعيم الوطني والنقابي ومؤسّس اتّحادنا الشهيد فرحات حشّاد يوم 5 ديسمبر 1952 وَأْدُ الاتحاد وإنهائه مثلما حصل مع تجربتي جامعة عموم العملة التونسيين إلاّ أنّ تجذّر الوعي الوطني للتونسيين وتغلغل الاتحاد في وجدان شعبنا وطبقته العاملة لم تزد الحركة الوطنية التونسية وطليعتها النقابية سوى صلابة وإصرارا على تحرير الوطن ونيل الحريّة وبناء الدولة الوطنية المستقلّة.

 انتصار إرادة الشعب

لقد مثّل نيل الاستقلال سنة 1956 انتصارا لإرادة شعبنا بكلّ مكوّناته لنيل السيادة والحرية ولتقرير مصيره بنفسه ولحقّه في أن يكون سيّدا على ثرواته ومقدّراته، كما كان هذا الحدث تتويجا لتجربة نموذجيّة جعلت من الاتحاد العام التونسي للشغل مثالا في الربط بين البعدين الوطني والاجتماعي في معركة التحرير والحرية حيث لم يؤدّ الدور النضالي للاتحاد ضدّ المستعمر إلى التنكّر في إنجاز المهام الأساسية للعمل النقابي والمتمثّلة في المشاركة في سنّ القوانين التي تحمي الحقوق والحريات وخاصّة الحريّات النقابية والاجتماعية وفي خوض النضالات من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية وتحسين الظروف المعيشية للعمّال والفئات الشعبية الأخرى والتأثير كذلك على السياسات والخيارات التنموية في اتّجاه توزيع أعدل للثروات.

واستنادا لتجربته في مقاومة الاستعمار ونيل الاستقلال أدرك اتّحادكم أنّه لا يمكنه خوض هذه النضالات إلاّ متى حافظ على استقلاليّته وحريّة قراره، وإنّ صون استقلالية وحريّة الاتحاد رهين مناخ سياسي ديمقراطي تحترم فيه الحريات العامة والفردية ويضمن فيه حقّ التنظّم والتعبير.

النضال من أجل الديمقراطية والتعددية

ولذلك نزّل الاتحاد العام التونسي للشغل النضال من أجل الديمقراطية والتعدّدية السياسية وحرية التعبير ضمن أولويّاته منذ السنوات الأولى للاستقلال على طريق بناء دولة القانون والمؤسّسات وترسيخ مجتمع الحرية والتضامن والعدالة الاجتماعية. فكانت الرسالة المرجعية التي وجّهها الزعيم أحمد التليلي الأمين العام الأسبق للاتحاد للرئيس الحبيب بورقيبة سنة 1966 والتي لخّص فيها مجمل مواقف المنظّمة الشغيلة في رفضها لقمع الحريات وتعامل السلطة مع المعارضة وسعيها للهيمنة على المجتمع ومنظّماته المدنية وتدجينها.

وإذا كان مصير الزعيم أحمد التليلي سنوات في المنافي فإنّ إصرار الاتحاد على الدفاع عن استقلاليته والمطالبة بتحسين ظروف عمل وعيش العمّال ومقاومة الثراء الفاحش وغير المشروع جعله يتعرّض لمحاولات السلطة إخضاعه والهيمنة عليه باستعمال القوّة وحتّى أشكال القمع فكانت احداث جانفي 1978 الدموية التي سقط خلالها مئات الشهداء من المواطنين والعمّال إثر تنفيذ الإضراب العام يوم 26 جانفي 1978 مع اعتقال وتعذيب العديد من المسؤولين النقابيين إلى حدّ الموت كما حصل مع الشهيدين حسين الكوكي وسعيد ڤاڤي ثمّ محاكمة العشرات من قيادييه على المستويات الوطنية والجهوية والقطاعية على رأسهم الزعيم الحبيب عاشور، ثمّ كان الهجوم الشرس من قبل ميليشيات الحزب الحاكم المدعومة من طرف قوّات الأمن على مقرّات الاتحاد ومؤسّساته سنة 1985 والزجّ مرّة أخرى بالأخ الحبيب عاشور الأمين العام للاتحاد آنذاك وثلّة من القيادات النقابية في السجون مع طرد الآلاف من النقابيين من عملهم في كلّ القطاعات والجهات تنكيلا وتجويعا لهم ولأسرهم.  

 تلبية نداء الوطن والشعب

نسرد هذه الحقائق التاريخية لنذكّر أوّلا بالدور الوطني والاجتماعي والنقابي لمنظّمتكم العتيدة وبالدماء والتي روى بها النقابيون أرض الوطن ثمنا للاستقلال وللكرامة الوطنية والتخلّص من التبعية.

كما نسرد هذه الوقائع التاريخية حتّى يفقه الجميع أنّ الاتحاد والنقابيين لم يتوانوا يوما على تلبية نداء الوطن ومطالب شعبنا في العمل والحرية والعدالة الاجتماعية ولم يتخلّوا لحظة على حقّه في التعبير والتنظيم والمشاركة الفعلية في نحت مستقبله ومستقبل أجياله من خلال مؤسّسات ديمقراطية يختارها بنفسه ضمن قوانين يضعها بإرادته الحرّة.

وتواصلا مع هذا التراث النضالي الزاخر وقف النقابيون في الصفوف الامامية خلال ثورة 17 ديسمبر 2010 – 14 جانفي 2011 التي أطاحت بسلطة الاستبداد وكان للاضرابات والتجمّعات الشعبية التي نظّمها الاتحاد في تلك الفترة الكلمة الفصل في حسم المعركة ضدّ النظام القائم لفائدة شعبنا والدخول إثر ذلك في معركة البناء الديمقراطي وتحقيق المطالب الاجتماعية التي رفعها الشعب خلال الثورة.

غياب حوار جدّي ونزيه

وأمام فشل الحكومات المتعاقبة بعد 2011 على النهوض بالاقتصاد الوطني وتحقيق الانتظارات المشروعة لشباب تونس وللفئات الاجتماعية والجهات المهمّشة، وإزاء ما ساد العلاقات بين مختلف الأحزاب السياسية من صراعات وتناحر أدّى إلى إهمال مصالح الشعب وتحوّل المؤسّسة البرلمانية إثر انتخابات 2019 بالخصوص إلى ساحة مواجهات زادت من حدّة الانقسامات داخل المجتمع واساءت لصورة الديمقراطية الناشئة ببلادنا، كان أملنا أن تؤدّي قرارات 25 جويلة 2021 التي اتّخذها الرئيس قيس سعيد اعتمادا على الفصل 80 من دستور 2014 إلى وقف النزيف ووضع حدّ لحالة التدهور السياسي والاقتصادي والاجتماعي السائد وإعادة البلاد إلى طريق الاستقرار والتنمية ومقاومة الفساد ضمن الخيار الديمقراطي والنهج التشاركي واعتماد أسلوب التشاور والحوار وتجميع كلّ القوى الوطنية والتقدمية دون تهميش أو إقصاء.

إلاّ أنّ الدستور الأحادي الذي وضعه الرئيس وعرضه على الاستفتاء يوم 25 جويلية 2022 والقانون الانتخابي الجديد واللذان وضعا دون تشاور فعلي وفي غياب حوار جدّي ونزيه إضافة إلى تتالي المراسيم المقيّدة للحريات والمفاوضات المعلنة وغير المعلنة مع صندوق النقد الدولي والخضوع لشروط هذا الأخير المسيئة لمبادئ السيادة الوطنية جعلتنا نفقد الثقة في إمكانية حصول تغيير حقيقي بالبلاد يخرجها من ازمتها الراهنة وينقذها من براثن الفساد والتبعية والإفلاس ويعيد الأمل لشعبها وشبابها في الخروج من نفق البطالة والفقر وتدهور مستوى العيش والوضع البيئي وخدمات المرفق العمومي.

مشروع وطني للخروج من الأزمة الراهنة  

وعلى هذا الأساس، وتواصلا مع تاريخنا، وتحمّلا منّا لمسؤوليّاتنا الوطنية واعتبارا لكون الاتحاد أهمّ مكوّن مدني ساهم في تحرير الوطن وبناء الدولة الوطنية الحديثة ولعب دور القاطرة في مجال الدفاع عن الحريّات والديمقراطية واستقلالية تنظيمات المجتمع المدني، يخوض اتّحادكم اليوم حوارا جدّيا مع شركاء تاريخيين له من المجتمع المدني لصياغة مشروع وطني للخروج من الأزمة الراهنة بمختلف ابعادها يتمّ عرضه على السلطة وعلى كلّ الفاعلين السياسيين والاجتماعيين لإنقاذ البلاد وفتح طريق جديد يعيد البلاد إلى سكّة البناء الديمقراطي والمؤسّساتي ويضعها من جديد على طريق التنمية والعمل والبناء بعيدا عن كلّ مظاهر الاستبداد أو العودة إلى الحالة التي كانت عليها البلاد قبل 25 جويلية 2021. 

واجبنا في الدفاع عن حقوق الشغّالين

إنّ اهتمامنا بالشأن العام وجهودنا لإخراج البلاد من إحدى أشدّ الأزمات التي مرّت بها في تاريخها، لن يشغلنا على واجبنا في الدفاع عن حقوق الشغّالين وعموم الفئات الشعبية والتي ما انفكّت أوضاعها المعيشية تتدهور يوما بعد يوم دون ان تكون الحكومة بما يقتضيه هذا الوضع المأسوي من سياسات اجتماعية وإجراءات عملية للوقوف إلى جانب هذه الطبقات الهشّة وتعزيز قدرتها على مواجهة آثار الأزمة من ارتفاع مهول للأسعار وللخدمات وندرة العديد من المواد الاستهلاكية الأساسية واختفاء العديد من الأدوية الضرورية إضافة إلى تفاقم السوق السوداء والتهريب والاقتصاد الموازي.

ولقد جاءت ميزانية 2023 متجاهلة لهذا الوضع، فاقدة لأيّة رؤية تنموية، خاضعة لشروط صندوق النقد الدولي ومثقلة لكاهل المواطن والمؤسّسات بالمزيد من الضرائب بما يهدّد بإفلاس العديد منها ودفع بعض الشركات الأجنبية إلى مغادرة البلاد.

كما انّه اصبح من الواضح من خلال هذه الميزانية توجّه الدولة نحو إلغاء صندوق الدعم بطريقة القطرة قطرة تحت شعار التدرّج نحو حقيقة الأسعار، وهو ما من شأنه أن يقود إلى المزيد من بؤس الفقراء ومن تسريع لوتيرة تفقير الطبقة الوسطى وذلك في غياب توافق حول سياسة الدعم التي شكّلت على مدى عقود إحدى آليات عملية إعادة توزيع الثروة وفي ظلّ تجاهل الدولة لمطلب الاتحاد بأن تقابل حقيقة الأسعار باعتماد حقيقة الأجور وحقيقة المساعدات الاجتماعية للعائلات الفقيرة والمعوزة ولقد حذّر الاتحاد من عواقب إلغاء الدعم دون سياسات بديلة وإجراءات اجتماعية سيؤدّي غيابها إلى المزيد من الاحتقان الاجتماعي ومن الغضب والتوتّر.

  مكسب وطني لا يمكن المساس به

كما حذّر الاتحاد من محاولات التفويت في القطاع العام مؤكّدا استعداده للحوار من أجل إيجاد الحلول للمؤسّسات التي تشكو من صعوبات حسب وضع كلّ مؤسّسة وما تتطلّبه عمليّة إصلاحها من إجراءات تعيدها إلى حالة الاستقرار والتطوّر وتحافظ على عموميتها وديمومتها.

ونؤكّد اليوم ونحن نحيي الذكرى السابعة والسبعين لتأسيس الاتحاد على تمسّكنا بالمرفق العمومي كمكسب وطني لا يمكن المساس به إلاّ من اجل الدعم والتطوير وتحسين الخدمات وجودتها كالتعليم والصحّة والنقل والمياه والطاقة والمناجم والمؤسّسات والدواوين الضامنة لتدخّل الدولة لتعديل السوق وغيرها.

وعهدا منّا أن نواصل النضال من أجل إسقاط كلّ البرامج والسياسات التي تهدف إلى تعميق الفوارق الاجتماعية أو المسّ بقوت الفئات الشعبية أو إنهاء المرفق العام بغرض تصفيته أو خصخصته.

وقوفنا غير المشروط مع الحق الفلسطيني  

إنّ الدفاع عن استقلال الوطن وكرامته لا معنى له إذا لم يكن يهدف إلى ضمان حقوق مواطنيه غير القابلة للتجزئة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والبيئية. 

ولا يسعنا، ونحن نحيي الذكرى السابعة والسبعين، أن نذكّر بتجذّر الانتماء العربي للاتحاد وانفتاحه الدائم على أفق عمّالي ونقابي عالمي، وإنّنا نجدّد العهد بوقوفنا غير المشروط مع الحق الفلسطيني في تقرير مصيره وبناء دولته المستقلّة وعاصمتها القدس الشريف، ونعبّر عن مواصلة دعمنا لنضال الشعب الفلسطيني الباسل من أجل دحر الاحتلال الصهيوني ووقف جرائمه البشعة في حق الفلسطينيين العزّل الذين مورس عليهم التقتيل والتعذيب والتشريد وهدم البيوت وانتزاع الأراضي وتهويدها وتدمير التاريخ والمعالم، ونجدّد دعوتنا إلى وحدة المقاومة الفلسطينية في وجه آلة الدمار الصهيونية وحلفائها من الدول الامبريالية والبلدان العربية المطبّعة، كما نجدّد تجنّدنا للنضال مع كلّ القوى الحيّة لفرض سنّ قانون تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني البغيض في تونس.