"البنك العالمي يريد" شعار تستعيض به السلطة التونسية عن ابداع الثورة "الشعب يريد"
السلطة في تونس تستعيض عن شعار " الشعب يريد..." بشعار:
البنك العالمي يريد...
بقلم: إلياس بن عمار
عضو الجامعة العامة للكهرباء و الغاز
في خضم خطابها حول السيادة الوطنية و المصلحة العليا للبلاد و ما يريده الشعب ، تستعد السلطة الحاكمة في تونس إلى إصدار مرسوم يتعلق بإحداث هيئة تعديلية لقطاع الكهرباء تنحصر مهامها أساسا في الإشراف على حسن سير سوق الكهرباء. هذه السوق التي تبشر بها السلطة في البلاد من أجل حل أزمة الطاقة تعني وضع الشركة التونسية للكهرباء و الغاز جانبا و التوجه نحو خوصصة مادة استرتيجية و حيوية كالكهرباء.
و لكن لماذا ؟
طبعا لا يتعلق الأمر بالاستجابة لما يريده الشعب التونسي الذي يعاني من سنة إلى أخرى من الارتفاع الجنوني في اسعار الكهرباء و إنما استجابة لما تريده المؤسسات المالية العالمية وعلى رأسها البنك العالمي. و الهدف هو مزيد تدعيم نفاذ القطاع الخاص ( الأجنبي خصوصا ) للقطاعات الاستراتيجية و الحيوية بالبلاد ليحقق ما طاب له من أرباح على حساب المجموعة الوطنية في مقابل الدعم المالي الذي ستتلقاه حكومتنا الموقرة حتى تستطيع الإيفاء بالتزاماتها في تسديد ديونها الخارجية و الداخلية.
1- الإشكاليات الحقيقية لقطاع الكهرباء في تونس :
تعيش الشركة التونسية للكهرباء و الغاز وضعية صعبة نظرا لانعكاس عملية الفصل في شراء المحروقات التي أقرتها حكومة مهدي جمعة بداية من جانفي 2015 أي أن الستاغ أصبحت مجبرة على شراء الغاز الطبيعي اللازم لإنتاج الكهرباء مباشرة من المزودين (الجزائر ) دون وساطة المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية و بالتالي عليها توفير العملة الصعبة اللازمة لهذه العملية دون تدخل الدولة التي تكتفي بصرف منحة بعنوان دعم لمجابهة المصاريف.
هذا كله جعل من الستاغ حريفا دائما لدى البنوك التجارية التي حققت من ورائها أرباحا طائلة عبر تقديم قروض في شكل عملة صعبة بفوائض مجحفة .و رغم تعهد الدولة بالتكفل بكافة أعباء الصرف التي مثلت الجزء الأكبر من خسائر الشركة ، إلا أنها تتراجع عن هذا التعهد عند مناقشة الميزانية في آخر كل سنة و تفرض على الستاغ القيام بتعديلات دورية في تعريفتي الكهرباء و الغاز أي الترفيع في معاليم الاستهلاك و تحميل المواطن كل تلك الأعباء و هذا ما يزيد في تدهور مقدرته الشرائية.
إذا يتبين بالكاشف ان سياسات الدولة تجاه الهيكل العمومي هي المشكلة الأكبر في قطاع الكهرباء بتونس. هذه السياسات لا تستند لمقاربة علمية في مجابهة الاشكاليات و إبداع طرق جديدة تنهض بهذه الخدمة العمومية و انما تعتمد أساسا على ما تمليه المؤسسات المالية العالمية التي تريد أن تجعل هذا القطاع متاحا للاستثمار الخاص الاجنبي أساسا.
علاوة علىذلكا ، فان الستاغ مطالبة بتحضير البنية التحتية اللازمة لتنفيذ المخطط الشمسي التونسي و هو ما فرض عليها التداين لدي المؤسسات المالية العالمية ( مثال : قرض من البنك العالمي بقيمة 151 مليون دولار سنة 2019) . كذلك فهي مجبرة على شراء الطاقة الكهربائية المنتجة من الطاقات المتجددة عبر الخواص بأسعار ثابتة لمدة عشرين سنة و ذلك ضمانة للمستثمرين في المجال.
و من أجل إحكام سيطرة القطاع الخاص على هذا المجال ، فان الستاغ محرومة من الاستثمار في الطاقات المتجددة و تم تحجيم قدرتها المبرمجة في المخطط الشمسي التونسي بتعلات واهية و بتواطىء مفضوح من متخذي القرار مع الدوائر الرأسمالية العالمية.
2- البنك العالمي : المرجع الحقيقي لسياسات الحكومة
يمثل البنك العالمي أحد أبرز المؤسسات المالية العالمية التي أثرت و لازالت تؤثر في مجال الطاقة بتونس. ويعود تاريخ تدخلها - الهادف أساسا إلى تسهيل نفاذ الرأسمال الخاص الأجنبي- إلى أواسط التسعينات حيث ساهمت في تركيز أول منتج خاص للطاقة الكهربائية بتونس .
أما في الحاضر ، فإن حجم التوصيات و القروض الهادفة لخوصصة الكهرباء كبير. ولكن سنقتصر من خلال هذه الورقة على الاستناد إلى وثيقتين هما :
- تقييم لمشروع قرض مقترح بقيمة 151 مليون دينار لفائدة الستاغ من أجل مشروع تحسين قطاع الطاقة ( 3 جوان 2019)
- توصيات للحكومة التونسية بخصوص تحرير الاقتصاد ( 29 نوفمبر 2021)
بالنسبة للوثيقة الأولى ، فقد تم الإعلان صراحة أن الهدف من القرض تدعيم نفاذ الرأسمال الخاص و بالتالي دفع الستاغ إلى الاستثمار في شبكات نقل الكهرباء لاستيعاب الطاقة الكهربائية المنتجة من الطاقات المتجددة. علاوة على ذلك ، فالوثيقة لا تستبعد تعميم الفائدة لا على المستثمرين الخواص في الطاقات المتجددة فقط و إنما أيضا على المنتجين المستقلين للكهرباء باعتماد التقنيات التقليدية ( عبر استعمال الغاز الطبيعي مثلا) و هذا يندرج في إطار مقاربة السوق التي يتم من خلالها إلغاء الدعم ، إنشاء هيكل تعديلي مستقل و إمكانية تصدير الكهرباء من طرف المستثمرين الخواص.
- شرح صورة: تقييم لمشروع قرض مقترح بقيمة 151 مليون دينار لفائدة الستاغ من أجل مشروع تحسين قطاع الطاقة (03 جوان 2019) – صفحة 13
أما الوثيقة الثانية المتعلقة بتوصيات للحكومة التونسية من أجل التسريع في عملية تحرير الاقتصاد ( بمعنى أصح لبرلة الاقتصاد) ، فهي تدعو كذلك إلى رفع الدعم عن المحروقات و الكهرباء عبر الترفيع التدريجي في معاليم الاستهلاك و تقترح جملة من " الإصلاحات " العاجلة و الآجلة تتمثل في :
- المصادقة على لزمات إنتاج الكهرباء من الطاقة الفوطو ضوئية بقدرة تساوي 500 ميغاوات ( تم في ديسمبر 2021).
- تفعيل التنقيحات المتعلقة بالإنتاج الذاتي للكهرباء بالنسبة للصناعيين أي تفعيل شركات الإنتاج الذاتي ( محل نزاع مع الهياكل النقابية بقطاع الكهرباء و الغاز).
- ربط المحطات الخاصة من الطاقات المتجددة المرفوضة بالشبكة الكهربائية ( تم باستعمال القوة و عبر عدم احترام القواعد التقنية ).
- إحداث هيكل تعديلي مستقل في مجال الكهرباء و الغاز ( في طور التحضير كما ذكر آنفا).
يتبين إذا ، مدى حجم التأثير الذي يمارسه البنك العالمي على سياسات الطاقة في تونس و الذي لا هدف من ورائه سوى القضاء على ما تبقى من إرث لدولة الاستقلال في بناء مؤسسات عمومية قوية تشرف على توفير خدمات عمومية خارج منطق السوق .كما نلاحظ ان متخذي القرار داخل جهاز الحكم في تونس إنما يتلقون التوصيات و الشروط دون أي تصور نقدي يأخذ بعين الاعتبار الحالة التونسية لأن وصفة البنك العالمي واحدة لكل الدول و لا تأخذ بعين الاعتبار الخصوصية و إنما تتبنى مقاربة السوق في شكلها النيوليبرالي و تسعى لنشره تدعيما لسيطرة الدول الكبرى و مؤسساتها على العالم.
3- هل من بديل لإملاءات البنك العالمي ؟
في كل مرة تتعالى أصوات النقد للمؤسسات المالية العالمية و لإجراءاتها ، تجيبنا السلطة (الحالية و من سبقها ) بأن لا حلول خارج إطار هذه المؤسسات و أننا نساق إليها ضرورة. هذه الإجابة تنم عن ضيق أفق كبير يتجاهل أن العالم اليوم - رغم سطوة الدوائر الرأسمالية العالمية و هيمنة النموذج النيوليبرالي - مليء بالتجارب البديلة القائمة على مقاربات تأخذ بعين الاعتبار الجوانب الاجتماعية و تجعل من الكهرباء و غيرها من المواد الاستراتيجية و الحيوية خدمات عمومية مشاعة خارج منطق السوق.
هذه المقاربات موجودة حتى داخل الأنظمة المستفيدة و الداعمة للمؤسسات المالية العالمية في دول الشمال و كان بالإمكان ملاءمتها مع الخصوصية التونسية باعتبار أن منطق الخدمة العمومية مترسخ منذ عقود في تونس ( حتى إبان الحقبة الاستعمارية ..عفوا حقبة الحماية) فتجارب الاستثمار المواطني و تعاونيات الطاقة المنتشرة مثلا في فرنسا ، ألمانيا و البلدان الاسكندنافية ممكنة التطبيق في تونس عند وجود إرادة من السلطة في تعميمها و لكن وجهة المتنفذين و الماسكين بزمام الأمور متعلقة بعالم المؤسسات المالية التي يسيطر عليها منطق الربح و تتغافل عن الإطلاع عن عالم البدائل ذات البعد الاجتماعي التي تجعل مثلا من الطاقات المتجددة لا موردا للسوق و إنما للتنمية خاصة في الأرياف و عامل لإقحام الفئات الهشة و المهمشة في عملية الإنتاج و خلق الثروة.
فمثلا بيتم التغافل في عروض المشاريع المقدمة من طرف وزارة الصناعة و الطاقة التونسية في مجال الطاقات المتجددة عن نصيب مؤسسات الاقتصاد الاجتماعي و التضامني و حتى الشركات الأهلية ( رغم تحفظاتنا ) التي ينادي بها أتباع الرئيس غير مدرجة ضمن المخطط الشمسي التونسي (رغم مطالبة أطراف عديدة من المجتمع المدني و حتى أطراف نقابية ).و هذا دليل على مدى استناد الدوائر النافذة في تونس إلى توصيات البنك العالمي الذي لا يحتوي برنامجه مثل هذا النوع من الاستثمار الجماعي و المواطني.
كما لا يفوتنا التذكير بالأوهام التي تغذي الرأي العام بهدف شرعنة تدخل البنك العالمي و غيرها من المؤسسات المالية و الهيئات الأجنبية في رسم السياسة الطاقية للبلاد .و لعل أبرز هذه الأوهام هي مزايا الاستثمار الأجنبي و تصدير الطاقة نحو أوروبا. علاوة على استغلال اشكاليات الستاغ كذريعة إضافية من أجل تدعيم نفاذ القطاع الخاص.
و من ناحية مزايا الاستثمار الأجنبي ، فالتجربة التي مرت بها البلاد في هذا المجال و في عديد القطاعات أثبتت بالكاشف أن المستثمرين الأجانب لا هم لهم سوى تكديس الأرباح و الاستفادة منها في الخارج مما يعني مزيد استنزاف العملة الصعبة و كذلك التفريط في السيادة الطاقية أي الرجوع لا الى ما قبل 25 جويلية 2021 و إنما الى ما قبل 20 مارس 1956.
إن سلطة كالتي تحكم البلاد الآن غير مدركة لحجم الضرر الذي تلحقه جراء اتباعها نفس الأسلوب و المنهج الذي تنتقده ( منظومة ما بعد الثورة) و هذا ما يدعو للاستغراب من الخطاب المزدوج : شعارات جوفاء تدعي القطع مع المنوال و سياسات متورطة في تكريس نفس آليات التخريب للمؤسسة العمومية و نهب ثروات البلاد.