وثائقي

عبد المجيد الصحراوي يكتب عن الزعيم النقابي والوطني الحبيب عـاشور بمناسبة الذكرى 24 لرحيله

عبدالمجيد الصحراوي* يكتب بمناسبة الذكرى24 لرحيل الزعيم النقابي والوطني الحبيب عـاشور- بإحيائه ذكرى وفاة الزعيم الوطني النقابي الحبيب عاشور، يبقى الإتحاد العام التونسي للشغل وفيا لإحدى السنن الحميدة في تكريم الأباء المؤسسين. فقد كان الراحل الحبيب عاشور الذي فارقنا في يوم 14مارس 1999 عن سن تناهز 86 سنة أحد أقطاب جيل الرواد من رفاق شهيد الوطن فرحات حشاد والفقيد أحمد التليلي .

لا شك أن في استحضار نضالات هؤلاء الرجال الأفذاذ وتضحياتهم يكوّن ترابط الأجيال ويحافظ على الذاكرة النقابية والوطنية وما تزخر به من إرث نضالي وقيم ثابتة في أبعادها الوطنية والنقابية وهي القيم التي جعلت من الإتحاد العام التونسي للشغل قلعة وطنية صامدة منذ ما قبل الإستقلال.

لقد واجه مناضلو الاتحاد جبروت الإستعمار وآلته القمعية الوحشية حيث كان للراحل دور أساسي في قيادة التحركات الميدانية التي أفضت إلى ملحمة 5 أوت 1947 بصفاقس ليتعرض بعدها إلى ضروب شتى من المنافي « زغوان وباجة» وزاد استشهاد حشاد في 5 ديسمبر 1952 الاتحاد صمودا وثباتا على المبادئ، ثم واجه الإتحاد بعد الإستقلال محاولات التدجين وهي لا تحصى ولا تعد من بداية أواسط الستينات ليجد الراحل أحمد التليلي نفسه مضطرا إلى المنفى وكان من أوّل من تجاسر على المطالبة بالديمقراطية والحريات الفردية والعامة.

واستبسل من بعده الراحل الحبيب عاشور في الذود عن استقلالية الاتحاد والوقوف في وجه محاولات تركيعه لتمرير ما كان غلاة النظام يريدون تمريره من إجراءات اقتصادية واجتماعية على حساب الشغالين وما رافقها من محاكمات جائرة بتهم ملفقة بدأت في الستينات لتتواصل في العشريتين المواليتين ولا يتسع المجال لاستعراض كل تلك المحاكمات وأشهرها محاكمة قيادة الإتحاد بأكملها- أوفي جلّها- وعلى رأسها الراحل الحبيب عاشور غداة معركة 26 جانفي 1978 الدامية.

في محنة 26 جانفي 1978 كنت من النقابيين الذين شملهم الإيقاف والمحاكمة في جهة الساحل، وفي سوسة بالتحديد، قبل نقلنا إلى السجن المدني 9 أفريل بتونس حيث نالني شرف التعرف مباشرة وعن قرب على الراحل الحبيب عاشور. ومازالت كلماته ترن في أذني، وهو يدافع عن براءة الاتحاد والتمسك بشرعية مواقفه. وأذكر كيف كان حراس السجن يستمعون إليه باندهاش وفعلا فقد كانت رباطة جأشه تثير الإنبهار، فلا تخاذل ولا ضعف ولا خوف من المحاكمة الرهيبة التي كانت في انتظاره كان ثباته ينير لنا نحن الشباب النقابي طريق الصمود وتحدّي السجن و السجّان.

انقضت أشهر الإيقاف وانتصبت محكمة أمن الدولة في سبتمبر 1978 في ثكنة بوشوشة، وهنا أيضا أذهل عاشور هيئة المحكمة ولسان الدفاع والملاحظين عندما طالب بمكافحة علنية مع صقور النظام الذين كانوا معروفين بتصلبهم وإصرارهم على ضرب الاتحاد لرفضه الانصياع والتضحية بمصالح الشغالين.

ولم يضعف الراحل ولم يأبه وهو يستمع إلى قرار ختم الأبحاث وسيل التهم الملفقة لإثقال موازينه ونطقت هيئة المحكمة في النهاية بالحكم عشر سنوات أشغال شاقة عليه.

وشاءت الصدف أن تسقط حكومة نويرة بعد ذلك بسنتين وسقط معها صقور الحزب ولم يكن من إختيار الوزير الأول الجديد محمد مزالي سوى محاولة لطي صفحة الماضي ومدّ الجسور مع المنظمة الشغيلة وكان مؤتمر قفصة الذي انتخب قيادة جديدة للإتحاد في غياب عاشور الذي لم يلبث أن رفع عنه الإستثناء فعاد على رأس المنظمة الشغيلة ليدخل في مواجهة شرسة أخرى مع النظام في أواسط الثمانينات ووجد نفسه عرضة من جديد للتهم الملفقة والسجن والإبعاد، وواجه الراحل تصلب النظام وإصراره على تدجين المنظمة الشغيلة بالثبات على المبادئ بكل شجاعة ورباطة جأش رغم سنه وحالته الصحية فكان كالأسد في شموخه لا يعرف الضعف والهوان.

وكان الراحل الحبيب عاشور عرف كيف يحتضن نضالات المجتمع المدني بمختلف حساسياته اليسارية و القومية.. ليجعل من الاتحاد العام التونسي للشغل البيت الذي يتسع للجميع والقلعة الوطنية المنيعة التي يحتمي بها مناضلو حقوق الإنسان والحريات العامة والفردية وأذكر أنه لم يتردد في المؤتمر السادس عشر للاتحاد المنعقد سنة 1984 عن تبني لائحة تدعو إلى سن العفو التشريعي العام و عودة المغتربين وعلى رأسهم أحمد بن صالح وإبراهيم طوبال ، متجاوزا الخلافات القديمة التي كانت له معهما، كما أذكر كيف لم يتردد عن تجميد علاقات الإتحاد مع « السيزل» من باب الاحتجاج على انحيازها لوفد عمالي إسرائيلي على حساب الوفد الفلسطيني والقضية الفلسطينية العادلة.

ثم من ينسى مواقف الراحل الحبيب عاشور الوطنية ووقوفه في وجه العقيد معمر القذافي لما كان في أوج قوّته ومن ذلك أنه لما أراد بورقيبة التراجع عن إتفاقية جربة المبرمة يوم 12جانفي 1974 إلتحق به القذافي في مقر سفارة تونس بجينيف يوم 25 جانفي من نفس السنة ودخل عليه مرتديا بذلة رياضية سوداء ليطالبه بكل تعجرف بإحترام توقيعه على اتفاقية جربة ، وكان الزعيم الحبيب بورقيبة محاطا بطاقم من وزرائه وأعضاده من الحزب، ولما تدخل الدكتور الصادق المقدم رئيس مجلس الأمة آنذاك ليشرح أن الأمر يتطلب استقتاءا شعبيا أجابه العقيد بكل حدّة وإستعلاء «حسيت انك دكتور في الطب لا في القانون» .

وهنا تدخل الراحل الحبيب عاشور وكان ضمن الوفد ليصفع العقيد بكلمات حاسمة كلها إعتداد بالثقل الذي يمثله الإتحاد العام التونسي للشغل مخاطبا القذافي: «إن الإتفاق الذي أبرمته مع بورقيبة هو إتفاق شخصي ولم تتم استشارة الشعبين ولا تكون الوحدة ممكنة إلا إذا وافق عليها الشعبان».

وإذ أستحضر هذه الواقعة بالذات فلأنها تعبر بقوة عن الثقل الوطني الذي كان للاتحاد العام التونسي للشغل وهو الذي اقترن بتاريخ تونس المعاصر منذ الحركة الوطنية وبناء الدولة الوطنية ومساهمته الفعالة في بناء الإقتصاد الوطني على أساس الإزدهار للجميع والعدالة الإجتماعية من ذلك بعثه منذ 1958 تعاضديات الإنتاج البحري وتعاضديات الأستهلاك والخدمات والإسكان والمطبعة والتأمين ونزل أملكار وبنك الشعب وجريدة الشعب.

الراحل الحبيب عاشور، يكفيه شهادة فرحات حشاد شهيد الحركة النقابية سنة 1948 في افتتاحية صحيفة صوت العمال لسان الاتحاد في الذكرى الأولى لحوادث 5 أوت 1947 التي كتب فيها ما يلي: « وما الأخ الحبيب عاشور ورفاقه إلا جنودا اقسموا على أنفسهم وعاهدوا الله على متابعة الكفاح في سبيل نهضة طبقتنا العاملة، وما النكبة التي سلطت عليهم إلا مرحلة من مراحل جهادهم الصادق الشريف... ولقد أظهر الأخ الحبيب عاشور في دفاعه شجاعة وإقداما مما أذهل الخصوم وجعل لسان الاتهام محتارا لدرجة استحال معها تكذيب الحقائق الدامغة «.

* عبد المجيد الصحراوي، مناضل تحمل المسؤولية النقابية في عدة مستويات قاعديا وجهويا ووطنيا ومغاربيا، ويظهر في الصورة المرافقة الى يمين الزعيم الحبيب عاشور سنة 1984.