النص الكامل لخطاب الامين العام نور الدين الطبوبي في احتفالات عيد الشغل 1 ماي 2023
الشعب نيوز / كاظم بن عمار - ألقى الأمين العام للإتحاد العام التونسي للشغل الأخ نور الدين الطبوبي كلمة بمناسبة إحتفال تونس بذكرى عيد الشغل 1 ماي و في ما يلي نصها الكامل :
"الأخوات والإخوة عاملات وعمّال تونس،
رفيقاتي ورفاقي في النضال، حماة الوطن والاتحاد،
صديقات وأصدقاء الاتحاد الأوفياء،
فرسان النضال والحرية،
نلتقي اليوم في هذا التجمّع المهيب لنحتفي معا بعيد العمّال العالمي حيث يقف في نفس هذا اليوم مئات الملايين من العاملات والعمّال في جميع أرجاء العالم إجلالا لأرواح رفاقهم الذين سقطوا في شيكاغو من عام 1886 برصاص الغدر الرأسمالي وهم يطالبون في إضراب سلمي بتحديد ساعات العمل بثماني ساعات في اليوم وفي أجر عادل وفي حقّهم في إنشاء نقابات حرّة مستقلّة عن السلطة وعن سطوة أصحاب العمل تمثّلهم وتفاوض باسمهم بكلّ حرية.
ولقد قامت الشرطة في شيكاغو باغتيال العشرات من العمّال واعتقال وإعدام العديد من قياداتهم النقابية في محاولة لإجهاض نضالاتهم واغتيال حلمهم في عمل لائق وعيش كريم لهم ولأسرهم، إلاّ أنّ تحويل يوم غرّة ماي من كلّ عام إلى حدث كوني يقف فيه عمّال العالم لتحيّة أرواح شهداء العمل النقابي في كلّ مكان وتثمين مكاسب الطبقة العاملة وتجسيم مبادئ وحدتها وتضامنها، لدليل على انّ سياسة القمع والتعسّف لن تزيد العمّال وطليعتهم النقابية سوى صلابة وتمسّكا بمبادئ العمل النقابي الحرّ، وإيمانا بمُثل العدالة والمساواة والحرية ولن تزرع في نفوسهم سوى جذوة التضحية والصمود.
الأخوات والإخوة،
عندما نستعرض اليوم في عيد العمّال العالمي ما حدث في شيكاغو منذ 137 سنة والمجزرة الرهيبة التي ارتكبتها آلة القمع الرأسمالي في حقّ العمّال العزّل الأبرياء، فإنّنا نستحضر في نفس الوقت أرواح شهداء وطننا الذين سقطوا فداءً لاستقلال تونس وتخليصها من الاستعمار البغيض. كما نستحضر أيضا ذكرى شهداء الاتحاد العام التونسي للشغل الذين دفعوا أرواحهم قربانا لتحرير الوطن من ربقة الاستعمار ومن أجل التخلّص من الاضطهاد الاجتماعي للطبقة العاملة ولمجمل الشعب التونسي الكادح، وفي سبيل بناء وطن تسوده المساواة والعدالة الاجتماعية وينعم فيه كلّ التونسيين بالحرية والديمقراطية والعيش الكريم.
لقد دفع شعبنا الثمن غاليا من أجل تحرير الوطن وقدّم في سبيل ذلك قافلة من الشهداء الأبرار منذ اليوم الأوّل لدخول الجيش الفرنسي لبلادنا سنة 1881 وإلى غاية نيل الاستقلال.
ويحقّ لكم أيّها الشغّالون بالفكر وبالساعد في هذا المجال الافتخار بالدور الأساسي لاتحادكم في تحقيق النصر على المستعمر وفي إذعانه لإرادة شعبنا في الانعتاق والحرية، تشهد على ذلك المعارك التي خاضتها الطبقة العاملة التونسية تحت قيادة الاتحاد في مواجهة الاضطهادين الوطني والاجتماعي في كلّ مدينة وقرية وفي كلّ حقل ومصنع، وتشهد على ذلك قائمة الضحايا في تونس وصفاقس والساحل وفي الشمال الغربي والحوض المنجمي وفي الجنوب والوطن القبلي، وعلى رأس هذه القائمة الشهيد المؤسّس لاتحادنا الزعيم الوطني خالد الذكر فرحات حشّاد.
أستحضر أيضا وأنا أذكّر اليوم بدور اتّحادكم في معركة الاستقلال، ذلك الزخم الكبير من التضامن النقابي الدولي مع الاتحاد ومع نضالات شعبنا في معركة التحرير الوطني، فلقد وجدت الحركة الوطنية التونسية في الحركة النقابية العالمية دعما لا محدودا نَقَلَ القضية التونسية من المحلية إلى الساحة السياسية الدولية وصولا إلى مجلس الأمن الدولي، بما مثّل ضغطا كبيرا على السلطة الاستعمارية من جهة ودعما معنويّا وسياسيا قويّا للاتحاد وللحركة الوطنية عموما في نضالها السياسي وكفاحها المسلّح من ناحية أخرى.
وتجسّم هذا التضامن النقابي الدولي على الساحة العالمية من خلال المؤسّسات والمنابر الدولية التي فتحت ذراعيها للزعماء السياسيين والنقابيين أو من خلال الزيارات التي كان يقوم بها قادة أهمّ النقابات في العالم لبلادنا في ذلك الوقت للتعبير عن التضامن والدعم من جهة وفضح القمع الاستعماري وكشف ممارساته في المحافل الدولية من ناحية أخرى ولعلّ من أهمّها زيارة وفد نقابي دولي يقوده جورج مينيي زعيم النقابات الأمريكية للتعبير عن التضامن واستنكار المذبحة الاستعمارية إثر أحداث النفيضة في نوفمبر 1951 ورغم رزح البلاد تحت سطوة القمع الاستعماري البغيض فإنّ السلطات الاستعمارية لم تجرؤ على منع هذا الوفد من دخول التراب التونسي والتعبير عن تضامنه مع الاتحاد ومع القضية الوطنية التونسية.
ولقد استمرّ هذا التضامن الدولي مع الاتحاد العام التونسي للشغل بنفس الروح بعد الاستقلال حيث ساهمت النقابات في الدول الصناعية في تمويل خطّة منظّمة العمل الدولية في إقامة أولى مراكز التكوين المهني بتونس وفي نقل تجربتها في العديد من المجالات مثل الحماية الاجتماعية ووضع قوانين العمل وغيرها، كما ساندت الحركة النقابية الدولية الحرّة موقف الاتحاد في معارك الدفاع عن استقلاليته وحرية قراره ودفاعه عن حقوق منظوريه والصمود في وجه الحملات القمعية التي طالته في سنة 1965 و1978 1985 وندّدت بما تعرّض له النقابيون من قمع وسجون ومحاكمات كما تصدّت الحركة النقابية الدولية لمحاولات السلطة آنذاك تدجين العمل النقابي وفرض قيادات منصّبة على رأس الاتحاد العام التونسي للشغل، وانحازت تماما إلى قوى الحرية ومناضلي الديمقراطية وحقوق الإنسان الذين كانوا يقاومون الاستبداد.
ولم تنقطع الوفود النقابية من مختلف بلدان العالم عن زيارة بلادنا حتّى في ذروة فترات القمع والاستبداد للتعبير عن تضامنها مع الاتحاد وهياكله الشرعية ومطالبتها السلطات التونسية باحترام الحقّ النقابي والحقّ في المفاوضة الجماعية وإطلاق سراح النقابيين وإعادة المفصولين منهم إلى عملهم والالتزام بالاتفاقيات الدولية ذات العلاقة.
إنّ التضامن النقابي الدولي يمثّل إحدى المبادئ الأساسية التي انبنت عليها الحركة النقابية وهو سلاحها الوحيد في نيل حقوق الطبقة العاملة وكبح جماح الاستغلال الرأسمالي والتصدّي لكلّ مظاهر القمع وهدر كرامة العمّال والنيل من حريّة العمل النقابي، وما وجودنا اليوم في هذا التجمّع إلاّ شكلا من أشكال التعبير عن تضامننا كشغّالين تونسيين وكجزء من الحركة النقابية العالمية الحرة والتقدمية المناضلة مع كلّ مناضلي الحرية وكلّ النقابيين والمضطهدين والصامدين المؤمنين بعالم خالٍ من الاستغلال والظلم والدكتاتورية.
وما يؤسفنا حقّا هو ما عشناه في الفترة الأخيرة من طردٍ لمسؤولين نقابيين دوليين جاؤوا للتعبير عن تضامنهم مع الاتحاد ومنعٍ لآخرين من الدخول لبلادنا، وهو بالإضافة إلى ما ترمز إليه هذه الممارسة من تنكّر لدور الحركة النقابية الدولية في تضامنها مع شعبنا خلال معركة التحرير الوطني أو خلال معاركه ضدّ الاستبداد والدكتاتورية فإنّ ما حصل من شأنه أن يسيء لسمعة تونس ويشوّه تلك الصورة المضيئة التي ميّزت العلاقات الاجتماعية ببلادنا والتي قُدّمت في المؤسّسات الدولية المهتمّة بعالم الشغل كمثال يحتذى به في مجال المفاوضة الجماعية والحوار الاجتماعي وحرية الممارسة النقابية. ومن هذا التجمع الحاشد نحيّي الأخوين حفيظ حفيظ وسامي الطاهري المُوفدان لتمثيل الاتحاد مع رفاقنا في الانتارسانديكال الفرنسية دفاعا عن مكاسب العمّال وضدّ الاجراءات التعسفية حول التقاعد.
أيّتها الأخوات والإخوة،
مناضلات ومناضلو الاتحاد،
إنّ طرد ومنع بعض المسؤولين النقابيين الدوليين من الدخول لبلادنا هي حادثة فريدة من نوعها في تونس، وهي بالإضافة إلى ما ترمز إليه من جحود ومن تجاهل للتاريخ، فإنّها تمثّل أيضا إحدى تمظهرات الأزمة السياسية التي تعيشها بلادنا، وهي أزمة تعمّقت أكثر وازدادت حدّتها جرّاء اختلال التوازن بين السلطات ونتيجة للتفرّد بالرأي وفرض الأمر الواقع في تهميش للقوى الوطنية وللمجتمع المدني وفي تجاهل للمؤسّسات التي أصبحت تعيش حالة التفكّك والانقسام وضبابية الرؤية.
ومن تمظهرات هذه الأزمة السياسية أيضا إدارة السلطة التنفيذية ظَهْرَها لكلّ حوار جدّي مع القوى الوطنية والاجتماعية والفاعلين الاقتصاديين حول سبل تجاوز هذا الوضع من خلال رسم خيارات جديّة وصياغة البرامج التنموية التي من شأنها تصليب الوحدة الوطنية في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية وإعادة البلاد إلى سكّة النموّ من خلال تطوير الاستثمار والحدّ من البطالة ومحاصرة بؤر الفقر والأُمِيَّة والإقصاء.
إنّ استمرار غياب الحوار لن يزيد سوى من حالة الانقسام التي يمرّ بها مجتمعنا ومن اتّساع الهوّة بينه وبين الدولة ومؤسّساتها وهو ما يؤدّي بالضرورة إلى استفحال الازمة الاقتصادية والاجتماعية للبلاد واتّساع رقعة الفقر وتآكل المقدرة الشرائية لعموم المواطنين والانهيار المتسارع للطبقات الوسطى. إنّ استمرار حالة التدهور الذي تزداد حدّته يوما بعد يوم والإصرار على تجاهل أسباب الأزمة وأبعادها وهو شكل من أشكال الهروب إلى الأمام، سيضعف من قدراتنا على التغلّب عليها ويزيد من هشاشة موقفنا تجاه شركائنا الاقتصاديين والمؤسّسات الدولية التي نتعامل معها.
وفي هذا المجال أريد أن أشير إلى كلمة السيد رئيس الجمهورية الأخيرة التي عرّج فيها على مسألة التفاوض مع صندوق النقد الدولي والتي أكّد فيها رفضه أيّة إملاءات من شأنها تفقير الشعب التونسي. وإنّه لا يسعني إلاّ التنويه بهذا الموقف المنسجم تماما مع المواقف التي عبّر عنها الاتحاد منذ سنوات عديدة في خصوص ما سمّي بالإصلاحات التي يطالب بها صندوق النقد الدولي مقابل تقديم قروض ميسّرة لبلادنا والتي تتركّز أساسا على رفع الدعم على المواد الأساسية والطاقة والتفويت في المؤسّسات العمومية والضغط على الانفاق العمومي وتقليص حجم الأجور ووقف الانتدابات ومزيد تحرير المبادلات وفتح الأسواق، وهي إجراءات ستؤدّي إلى تحجيم الدور التعديلي للدولة وزيادة نسب التضخّم والتهاب الأسعار إضافة إلى تدنّي مستوى الخدمات العمومية وارتفاع تكاليفها وازدياد نسب الفقر والإقصاء الاجتماعي ووضع المؤسّسات التونسية تحت ضغوطات لا طاقة لها بها، هذا إضافة إلى ما سينجرّ عن التفويت في المؤسّسات العمومية من تسريح للعمّال وتفاقم لعدد العاطلين وبالتالي تأزيم أوضاع الصناديق الاجتماعية.
إنّ تأكيدنا في الاتحاد على إيجابية هذا الموقف الصادر عن السيد رئيس الدولة يجرّنا إلى التساؤل عن الجدوى من تفاوض الحكومة مع صندوق النقد الدولي طيلة سنة ونصف؟
إنّ أزمة العلاقة مع صندوق النقد الدولي وعلى الرغم من تداعياتها الآنية والمتوقّعة على وطننا فإنّها تقدّم لنا دروسا كثيرة علينا الانتباه إليها واستخلاص العبرة منها، واوّل هذه الدروس هو التأكيد على أنّ عصر الأنبياء المعصومين القادرين على الإتيان بالمعجزات قد انتهى، وأنّ عهد سخاء الأشقّاء وكرم الأصدقاء ولّى وانقضى هو أيضا، كما انّ المعجزة الحقيقية التي بإمكانها إنقاذ بلادنا وإخراجنا من وضعنا الصعب والمعقّد هو التعويل أوّلا على قدراتنا وتجميع قوانا الذاتية وتوحيدها حول مشروع وطني يلبّي طموحات شعبنا في حياة مزدهرة وعيش كريم في مجتمع تسوده الحريات الفردية والعامة وتشدّه إلى بعضه البعض المساواة والعدالة الاجتماعية وتطبيق القانون على الجميع.
إنّ الاتحاد ما انفكّ يؤكّد منذ تأسيسه على أنّ أولوية الاعتماد على النفس وعلى كفاءاتنا وعدم الرضوخ للإملاءات الخارجية والعمل الجدّي على الرفع من قدرات اقتصادنا الوطني ودعم المؤسّسة الإنتاجية التونسية وخلق الثروة عبر مشاريع كبرى ذات قدرة تشغيلية عالية هو الخيار الأمثل الذي ينبغي التوحّد حوله، كما أنّ الاتحاد يؤمن بأنّ تقاسم التضحيات في كنف العدل والشفافية ووضوح الأهداف ضمن رؤية ومشروع وطني تشاركي هو أساس النجاح خاصّة في زمن المصاعب والأزمات الكبرى.
ولكن توحيد مختلف الشرائح الاجتماعية والقوى الوطنية حول مشروع وطني يقوم على تثمين مواردنا الذاتية والاعتماد بالأساس على قدراتنا الوطنية وإقناع الجميع بأهمية العمل والبذل وتقديم التضحيات لإنجاحه، لن يكون ممكنا إذا لم تشارك هذه الشرائح والقوى الوطنية مشاركة فعلية وبآليّات واضحة وشفّافة في صياغته والاقتناع بأنّ أهدافه تتوافق مع انتظاراتها وتطلّعاتها في تحقيق العدالة والانصاف، ووضع المصلحة العليا للوطن فوق كلّ الاعتبارات.
وهذا يجرّني إلى تناول الدرس الآخر الذي علينا أخذ العبرة منه في علاقة بالأزمة مع صندوق النقد الدولي والمتمثّل في أنّ صيانة استقلالية القرار الوطني وإفشال أيّة إملاءات خارجية يبقى مرتبطا وجوبا بتماسك الجبهة الداخلية ووحدة كلّ مكوّنات الشعب وقواه الوطنية ووقوفها صفّا واحدا للدفاع عن مصالحه وتحقيق أهدافه تجنّبا لأيّ محاولة للتدخل في شأننا الداخلي. هذه الوحدة تعتبر محدّدة عند التفاوض مع الجهات الدولية بخصوص ملفّات وطنية دبلوماسية او اقتصادية أو مالية أو غيرها. فبقدر ما يلتفّ الشعب حول ملفّ أو قضيّة وطنية لها علاقة باستحقاقات دولية، تتعزّز القدرة التفاوضية للدولة ونقترب أكثر من تحقيق غاياتنا في أسرع وقت وبأقلّ تكلفة.
فكيف تمّ التفاوض بين حكومتنا وصندوق النقد الدولي؟ وكيف تمّ إعداد محتوى البرنامج الذي قدّمته الحكومة؟
لقد تمّ إعداد الملفّ التفاوضي مع صندوق النقد الدولي في تعتيم تامّ وقُدّمت التعهّدات الحكومية دون تشاور أو إشراك للأطراف الاجتماعية والقوى الوطنية الأخرى وما زلنا إلى اليوم نجهل ما تفاوضت الحكومة حوله مع الصندوق، وما زال الكتمان والتعتيم يلفّان الوثيقة الأولية الموقّعة بين الطرفين وما زال شعبنا يجهل طبيعة الوعود والالتزامات التي قٌدّمت إلى صندوق النقد الدولي والتي سيكون لها تأثير كبير على حياته ومستقبله.
لقد تخلّت الحكومة بهذا التمشّي عن السند الشعبي في إدارة هذا الملفّ وأسقطت بذلك ورقة هامّة لتعديل ميزان التفاوض مع الصندوق ووضعت نفسها في موقع ضعيف.
أيّتها الأخوات، أيّها الإخوة،
مناضلات ومناضلو الاتحاد،
لقد ركّزت كما تلاحظون على ملف العلاقة مع صندوق النقد والتمشّي الذي اعتمدته الحكومة في مفاوضاتها معه، وذلك اعتبارا أوّلا للانعكاسات الخطيرة للتعهدات المقدمة على أوضاع العمال والطبقات الشعبية وعلى مستقبل الأجيال القادمة والتي نبّه عنها السيد رئيس الدولة نفسه في كلمته بالمنستير، والتي طالما طالبنا الحكومة بالشفافية والوضوح في التعاطي مع هذا الملفّ وإطلاع الرّأي العام بمساره. منذ بداية جلسات التفاوض مع مسؤولي الصندوق بتونس وبواشنطن وأَصِلُ هنا إلى الدرس الثالث الذي أبرزته هذه القضية، ذلك أنّ إدارة ملف التفاوض مع صندوق النقد الدولي يختزل لوحده مظاهر الأزمة العميقة التي تعيشها بلادنا والأخطاء الجسيمة التي ترتكبها السلطة القائمة في معالجة مختلف مظاهرها. وفشلها في إيجاد الحلول لها وعجزها عن تجميع التونسيين لمواجهتها.
فالإصرارُ على امتلاك الحقيقة المطلقة والانفراد بالرأي واقصاء الرأي المخالف وَكَيْلُ الاتهامات للخصوم بالخيانة والعمالة والفساد دون اثباتات واستعداء العمل النقابي والتضييق على الحريات، لن يقود البلاد إلا إلى التشتّت والانقسام وبالتالي إلى استفحال الأزمات علاوة على خطر الرجوع إلى مربع الاستبداد والحكم الفردي والقضاء تدريجيا على المكاسب الديمقراطية التي جاءت بها ثورة 17 ديسمبر – 14 جانفي. وتداركا لكلّ ذلك، قمنا صحبة عمادة المحامين والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية ببادرة لم نسع من ورائها إلى اعتلاء مناصب أو الوصول إلى السلطة أو استعداء رئيس الجمهورية أو تحقيق أيّ مكسب مادي، كان غرضنا الاضطلاع بدورنا كقوى مدنية وطنية في اخراج بلادنا من أزمتها الخانقة وتوحيد كل القوى الوطنية التي من الممكن توحيدها حول جملة من المبادئ والأهداف لإنهاء حالة الاستقطاب والانقسام والضبابية وصولا إلى مشروع وطني يدعم مكاسبنا في مجال الحريات والديمقراطية ويطورها ويعيد لبلادنا نسق نموها ويلبي انتظارات شعبنا وشبابه بالخصوص في المساواة والعدالة الاجتماعية وسيادة القانون .
إننا بحاجة إلى وحدة حقيقية من شأنها حشد كل طاقات شعبنا في الداخل والخارج للنهوض بتونس اقتصاديا واجتماعيا وعلميا وثقافيا واستعادة مكانتها واشعاعها على المستوى الإقليمي والدولي، وأريد أن أؤكد في هذا المجال أنّ أيّة وحدة ومصالحة لا تعني التسامح مع من تورط في الإرهاب والعنف، ولا تعني غض النظر عمن مارس الفساد أو استفاد منه ولا تعني أيضا فسح المجال السياسي لمن لا يؤمن بالدولة التونسية وقوانينها وسيادتها الوطنية. فلا وحدة ولا مصالحة مع من تورّط في الإرهاب والعنف أو من يدعو إليه، ولا وحدة أو مصالحة مع من تورّط في الفساد أو استفاد منه ولا وحدة ولا مصالحة مع من يعادي الدولة التونسية ولا يعترف بسيادتها أو من لا يدين لها وحدها بالولاء التامّ ولذلك كان شعارنا على خلاف الكثيرين: " المحاسبة فالمصالحة".
الاخوات والأخوة،
مناضلات ومناضلو الاتحاد،
تعلمون جيدا أن الاتحاد تفاعل إيجابيا مع مسار 25 جويلية 2021 واعتبر تلك اللحظة فرصة تاريخية لدفع مسار الثورة نحو تحقيق طموحات شعبنا وقواه العاملة في الحرية ونيل حقوقه الاقتصادية والاجتماعية والمشاركة الفعلية في وضع السياسات وصياغة البرامج التي تنهض بالبلاد وتطور من مستوى معيشته وترسم مستقبله ومستقبل الأجيال القادمة. كان تفاؤلنا كبيرا وآمالنا عريضة في تفادي الأخطاء التي حفّت بتجربتنا الديمقراطية الناشئة وإزالة ما علق بها من شوائب ونقائص وتجاوزات من خلال تقييم موضوعي للمنجز وإدخال ما يستوجبه دفع المسار الديمقراطي من تصحيح ومن إيلاء المسألة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية العناية التي غابت في العشرية التي سبقت 25 جويلية 2021 والتي ما زالت غائبة للأسف إلى يومنا هذا. وقد تقاسم معنا هذا الاعتقاد العديد من القوى والشخصيات الوطنية ومن ضمنها المنظمات المشاركة في صياغة المبادرة الوطنية للحوار التي من المقرر تقديمها للسيد رئيس الدولة وذلك على أمل إطلاق حوار شامل من أجل الاتفاق حول إصلاحات حقيقية بديلة عن تلك الإصلاحات المزعومة التي تضغط باتجاهها الدوائر المالية الدولية والقوى المرتبطة معها محليا والتي تستثيقها الحكومة الحالية وتبحث عن إرضائها.
غايتنا في ذلك اصلاح منظومة التعليم والتربية بما يضمن مدرسة عمومية توفّر تعليما مجانيا ذا جودة عالية وتربية تكوّن أجيالا قادرة على التفكير والنقد والابتكار وإعمال العقل مدرسة تعزّز قيم المعرفة والعلوم وتحفظ كرامة المربين وترفع عنهم الغبن والحيف والشعور بالضيم وبالمناسبة فقد حان الوقت لقرار سياسي جريء ينقذ السنة الدراسية قبل فوات الأوان ويفي المربين حقوقهم ويلبّي مطالبهم.
نريده إصلاحا جبائيا يقيم العدل بين جميع الشرائح الاجتماعية، اصلاحا جبائيا محفّزا للاستثمار وخالقا للثروة، اصلاحا جبائيا يوفر للدولة من الموارد ما يعزز من دورها التعديلي ومن استقلاليتها ويحول دون التداين المفرط وارتهان القرار الوطني لدى الدائنين
نريده إصلاحا لمنظومتنا الصحية بما يضمن جودة العلاج بالمؤسسات العمومية لكل التونسيات والتونسيين ويحول دون هجرة كفاءاتنا الطبية إلى الخارج بحثا عن ظروف عمل وعيش أفضل.
نريده إصلاحا للمنظومة الفلاحية ببلادنا بما يوفر لشعبنا أمنه الغذائي ويبعد عنا شبح التبعية الغذائية والجوع والعطش.
نريده أيضا إصلاحا حقيقيا للقضاء بما من شأنه أن يعزز من استقلالية السلطة القضائية ويُبَسِّط ويُسَرِّع إجراءات التقاضي ويضمن المساواة بين جميع التونسيات والتونسيين أمام القانون بعيدا عن كل أشكال الفساد او التدخل في شؤون القضاء من أية جهة كانت.
نريده إصلاحا لتعميم الحماية الاجتماعية وحماية صناديق الضمان الاجتماعي من شبح العجز والافلاس وتوفير أفضل الخدمات للمضمونين الاجتماعيين وذويهم.
نريده إصلاحا للإدارة التونسية ولقطاعات النقل والطاقة والبيئة ولمنظومة التكوين المهني والتشغيل نريده إصلاحا يوفّر العمل اللائق والعيش الكريم لشبابنا حتّى لا يضطرّ للإبحار في قوارب الموت بحثا من خلال الهجرة غير النظامية على ظروف حياة أفضل وهروبا من حالة اليأس والإحباط والتهميش.
هذه هي الإصلاحات الحقيقية التي ينتظرها شعبنا والتي ما انفك الاتحاد العام التونسي للشغل يطالب بها منذ عقود طويلة وتمت مجابهته بكلّ أشكال القمع بما في ذلك اللجوء إلى القتل والاعتقالات والسجون والمحاكمات الصورية لتدجينه وإخماد صوته تأبيدا للخيارات الليبرالية وإمعانا في سياسات القمع والاستغلال والحيف والتمييز الجهوي.
كنّا نأمل إذن أن تكون لحظة 25 جويلية إيذانا بالشروع في إنجاز هذه الإصلاحات وتجنيدا لكلّ طاقات شعبنا لإنجاحها ولكنّنا صُدِمنا مرّة أخرى باستمرار هذه السلطة مثل سابقاتها في انتاج نفس المنوال التنموي بنفس الآليات وبنفس الارتجال لنصل في نهاية المطاف إلى نفس النتائج ولنجد أنفسنا مرّة أخرى واقفين على أبواب الجهات المانحة واستعطاف بعض الدول على المساعدة للحصول على قروض لن تزيدنا سوى إثقالا في تعميق لمديونيّتنا وتهديدا لاستقلالية قرارنا الوطني وتستغل ظروف الأزمة لاستعمال مسألة الهجرة لابتزازنا في قضايا الهجرة ولتفرض علينا شروطا مجحفة ومذلّة في مجال التبادل الاقتصادي والدعم المالي.
إنّ ما دفعنا للقيام بهذه المبادرة المشتركة هو حرصنا على أمن البلاد واستقرارها وحماية استقلالها والتوحد حول مشروع وطني متكامل لإخراج البلاد من أزمتها الخانقة ومن عزلتها الإقليمية والدولية وإنقاذها من شبح الإفلاس.
وأكّدنا تبعا لذلك أن إطلاق هذا الحوار أصبح مسألة حياتيّة بالنسبة لوطننا وشعبنا بما يستوجب توفير المناخ المناسب لمشاركة واسعة فيه وهي مشاركة لا تكون حقيقية وفاعلة إلاّ باحترام الحريات وتوسيع مجالاتها وصيانة حرية التعبير والصحافة والحرص على استقلالية القضاء واحترام حرية العمل النقابي.
إننا ونحن نحتفل اليوم بعيد العمّال العالمي لنؤكد ونكرّر إيماننا الراسخ بأنه لا خيار لتونس سوى الحوار لفضّ مشاكلنا داخل البيت الوطني حوار ينبني على التمسّك التامّ بالخيار الديمقراطي وضمان حق الجميع في التعبير والتنظّم والمشاركة بعيدا عن كلّ أشكال التفرّد بالرأي واستعداء العمل النقابي أو ترذيل وتخوين أصحاب الرأي الآخر وبعيدا عن كلّ تدخّل خارجي مهما كان شكله أو مأتاه.
أكرّر القول بأنّه لا خيار أمام التونسيين سوى الحوار والتعايش المشترك وتغليب المصالح العليا للوطن لأن بديل الحوار والتوافق لن يكون سوى مزيد الانقسام ومزيد التبعية ولن يؤدّي إلاّ إلى تدهور أكبر للتوازنات الاقتصادية للبلاد وإلى الانهيار المتصاعد للمقدرة الشرائية للعمال ولعموم الأجراء وإلى تفاقم معدلات الفقر والبطالة والهجرة السرية وهروب كفاءاتنا للخارج، مع ما يمكن أن ينجرّ عن كلّ هذا من أخطار على كيان الدولة ومؤسساتها وعلى السلم الاجتماعي ببلادنا.
الاخوات والأخوة،
مناضلات ومناضلو الاتحاد،
أصدقاؤنا الأوفياء،
إننا في الوقت الذي نسعى فيه للقيام بواجبنا الوطني تجاه بلادنا وشعبنا وخاصة في هذه الظروف العصيبة فإننا ماضون في نفس الوقت على نهج الدفاع عن حقوق الشغيلة التونسية من عمال وأجراء بالفكر وبالساعد والدفاع عن مصالحهم ومطالبهم المشروعة في أجور عادلة وظروف عمل لائقة تفسح أمامهم مجال الابداع والتميز وتطوير القدرات التنافسية للمؤسسات الوطنية.
وسنبقى مصرين ومجندين لحماية مكاسب الشغالين والدفاع عن حقوقهم المادية والمهنية ودعم نضالهم ضد كل أشكال الاستغلال وهضم الحقوق وعدم انفاذ قوانين الشغل والحماية الاجتماعية.
كما سنواصل نضالنا من أجل أن تحترم الحكومة الاتفاقيات التي أبرمتها مع الطرف النقابي بما في ذلك تطبيق الاتفاقيات المبرمة ومراجعة الأجور وفق ما تمّ الاتفاق حوله لتقييم دوري للتضخّم والنموّ ومراجعة سنوية للأجر الأدنى المضمون وللحقّ في المفاوضة الجماعية الحرة ووقف الملاحقات والإجراءات التعسفية لترهيب النقابيين والاحترام الكامل للحقّ في الإضراب وفق ما تنصّ عليها الاتفاقيات الدولية ذات العلاقة بالحقوق والحريات النقابية. ومن الضروري أيضا الترفيع في منحة العائلات المعوزة ومراجعة جرايات التقاعد التي هي دون الأجر الأدنى.
ولتكن رسالتنا واضحة في هذا المجال. إن سياسة التضييق على الحرية النقابية واتباع نهج استعداء الاتحاد والعمل النقابي والزج بمناضلي الاتحاد في السجون وحياكة الملفات من قبل بعض الوزراء المعادين للعمل النقابي وشن الحملات المسعورة ونشر الأكاذيب وهرسلة النقابيين لن ترهبنا ولن تجعلنا نتراجع عن الدفاع عن استقلالية منظمتنا وعن الحريات ولن تنجح في الضغط علينا للتخلي عن حقوق العمال والطبقات الشعبية الكادحة أو الرضوخ لخيارات وسياسات لا شعبية تتعارض مع مصلحة الوطن والشعب التونسي.
لقد خَبِرَ الاتحاد هذه السياسات وعرف مناضلوه سواء زمن الكفاح الوطني أو بعد نيل الاستقلال شتى أنواع العسف والقمع والتنكيل من اغتيالات وسجون ونفي وتعذيب إلى حد الموت وتوظيف للقضاء لفبركة محاكمات جائرة، ولكنه كان يخرج بعد كل محنة وإثر كلّ حملة تستهدف كيانه ووحدته واستقلالية قراره أكثر قوة وأكثر تماسكا وأكثر قدرة على تأطير الشغالين وقيادة نضالاتهم نحو مكاسب وحقوق جديدة.
إنّ الحملة العدائية التي تستهدف الاتحاد ومناضليه اليوم هي انتهاك صارخ للحقّ النقابي تذكّرنا بعنوان عريض لجريدة الشعب في عددها الذي صدر الليلة التي سبقت إضراب 26 جانفي 1978 والذي جاء فيه على لسان الزعيم الحبيب عاشور:
" نُريد لهم الخيرَ ويُريدونَ لنا المُحاكماتْ "
واليوم أعيد على الملأ مقولة زعيمنا وقائدنا الراحل الحبيب عاشور نريد لتونس ولشعبها الخير، ونجتهد لرصّ الصفّ الوطني ونقدّم الاقتراحات والتصوّرات لإنقاذ البلاد، وهم يعدّون لنا بالمقابل سرّا وجهرا المحاكمات ويلفّقون لنا الملفّات ويوجّهون لنا شتّى التهديدات العلنية والمبطّنة للتخلّي عن واجبنا النقابي في محاولة يائسة لإلزامنا بالصمت إزاء ما يعيشه الشغّالون من أوضاع مزرية وما تعانيه البلاد من اخطار وما يتهدّدها من كوارث.
ولكنّنا ايّتها الأخوات والإخوة لن نصمت ولن نتخلّى عن الدفاع عن رفاقنا واخوتنا ضحايا القمع وشيطنة الاتحاد، وها إنّي بمناسبة عيد العمّال العالمي أؤكّد وقوف الاتحاد ودعمه الكامل لكلّ ضحايا هذه الهجمة التعسّفية سواء الذين زجّ بهم في السجن أو الإيقاف كالأخوين الناصر بن عمارة وأنيس الكعبي أو الذين يخضعون للتتبّعات القضائية كنقابيي النقل والشؤون الدينية ووزارة التجارة وغيرهم أو الذين أحيلوا على مجالس التأديب بسبب أنشطتهم النقابية مثلما يحدث في وزارة الشؤون الثقافية لعدد من النقابيين والفنانين وهي مناسبة لأؤكّد أيضا دعم الاتحاد وتضامنه الكامل مع كلّ القطاعات التي تخوض شتّى النضالات من اجل الحقّ في المفاوضة الجماعية وفرض احترام الاتفاقيات المبرمة وتحسين الأوضاع المهنية والمادية لمنظوريهم والدفاع عن المرفق العمومي وتطويره.
كما أذكّر مرّة أخرى بأنّ الاتحاد العام التونسي للشغل لم يكن في يوم من الأيّام نقابة حرفية مهنية منعزلة عن الشأن العام. وعلى هذا الأساس فإنّ التزامنا الوطني ومسؤولياتنا إزاء شعبنا ووفاءً منّا للمبادئ التي انبنى عليها الاتحاد العام التونسي للشغل، يحتّم علينا التصدّي بنفس الإرادة والعزيمة التي تغذّت منها تضحياتنا زمن الاستعمار وعهود الدكتاتورية لكلّ ما يسيء للوطن أو ينال من كرامته، وتحتّم علينا واجباتنا تلك معارضة كلّ السياسات والخيارات التي تنتهجها السلطة والتي تقود إلى مزيد التفقير والبؤس للطبقات الشعبية وإلى ارتفاع عدد الملتحقين بأرصفة العطالة والبطالة والتهميش من شبابنا وبخاصّة منهم حاملي الشهادات والمؤهّلات.
كما تفرض علينا مبادؤنا وواجبنا النقابي رفض تحميل الأجراء تبعات الأزمة المالية والاقتصادية المتفاقمة وما انجرّ عنها من تضخّم وغلاء غير مسبوقين في الأسعار وندرة في الأدوية الحياتية وفي المواد الغذائية الأساسية التي تشكّل أساس السلّة الغذائية للعمّال وللطبقات الفقيرة عموما.
وتحتّم علينا مبادؤنا والتزاماتنا تجاه شعبنا التصدّي لكلّ أشكال انتهاك الحريات الفردية والعامة ولضرب حقوق الإنسان وتدعو إلى التضامن مع كلّ ضحايا حريّة التنظّم والتعبير والضمير إيمانا منّا بأنّ الحرية هي بوّابة العدل وبأنّ العدل هو أساس العمران والتقدّم.
إنّ أيادينا ممدودة للحوار وقلوبنا عامرة بحبّ الوطن والاستعداد للتضحية من اجله وإرادتنا صادقة لتوحيد الصفّ الوطني نظاما ومعارضة وقوى مدنية واجتماعية من اجل مشروع وطني يخرجنا من الأزمة المتعدّدة الأبعاد التي نعيشها والتي قد تؤدّي بنا إلى الكارثة لا قدّر الله، وسنبقى على العهد دعاة حوار وقوّة خير وحصنا منيعا للوطن ضدّ كلّ من يسعى للنيل من استقلاله وسيادته واستقراره وتقدّم شعبه.
الأخوات والأخوة،
مناضلات ومناضلو الاتحاد،
نحيي اليوم عيد العمّال العالمي وشعبنا الفلسطيني الشقيق لا يزال يعاني وطأة الاحتلال الصهيوني الغاشم ويواجه آلته القمعية في صمود أسطوري صامدا أمام شتّى أشكال الاضطهاد في أبعاده الوطنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
ولكن مأساة الشعب الفلسطيني لا تقتصر على معاناة الاحتلال فحسب وإنّما هي معاناة أيضا للموقف الرسمي العربي المتأرجح بين التطبيع الصريح والصمت المشبوه والتعبير المخجل عن الاستياء والانشغال. وهي معاناة أيضا لعدم الاكتراث الدولي بمأساة الشعب الفلسطيني والسكوت المتواطئ عن الجرائم الصهيونية والإمعان في اعتماد سياسة المكيالين للدول الغربية التي تدّعي الدفاع عن الحريات وعن حق الشعوب في تقرير مصيرها ولكنّها لم تحرّك ساكنا إزاء مأساة الشعب الفلسطيني ومعاناته التي تستمرّ على مدى 76 سنة كاملة.
وباسمكم جميعا أجدّد موقف اتحادكم الداعم لصمود الشعب الفلسطيني الشقيق في وجه الاحتلال الصهيوني وجرائمه اليومية من تقتيل واعتقال وترحيل وهدم للمنازل ومصادرة للأراضي وخنق للاقتصاد الفلسطيني. كما نقف معه دون تحفّظ من أجل نيل حقوقه الوطنية كاملة وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، وإذ أشيد بموقف الحركة النقابية العالمية الحرّة والتقدمية من قضية الشعب الفلسطيني ودعمها لنضالات عماله وصمودهم أمام الاضطهاد الوطني والاجتماعي المزدوج الذي يعانونه فإنّني أدعو مرّة أخرى المجتمع الدولي وكلّ قوى الحرية والتقدّم لتكثيف دعم كفاح شعب فلسطين وعماله وتشديد الضغط على دولها من أجل وقف الاعتداءات المتكرّرة على شعبنا الفلسطيني الأعزل واطلاق سراح الأسرى والكفّ عن مصادرة الأراضي الفلسطينية والاستيطان بها وصولا إلى انهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.
إنّ دعم كفاح الشعب الفلسطيني من اجل التحرير والاستقلال يتطلّب تغييرا جذريّا في خطاب النظام العربي الحالي من شأنه حشد كلّ الطاقات العربية من أجل الخروج من واقع التخلّف والتبعية وتوظيف الثروات العربية الهائلة لتحقيق التكامل العربي حتّى نأخذ مكاننا المتميّز في النظام العالمي الجديد الذي هو بصدد التشكّل. وهذا لن يكون متيسّرا إلاّ متى استطعنا إعادة بناء العلاقة السائدة بين دولنا ومجتمعاتنا العربية على أساس احترام حقوق الإنسان والحريات العامة والفردية وفسح المجال أمام الإنسان العربي للتفكير والابتكار والابداع، بما يسمح بانتقال سلمي نحو دولة المؤسّسات ومجتمع الديمقراطية والمساواة والعدل.
وعلى هذا الأساس فإنّنا نحيّي كلّ بادرة من شأنها إزالة التوتّرات بين أقطارنا العربية وندعم كلّ خطوة تهدف إلى رأب الصدوع العربية المتعدّدة وتغليب لغة الحوار والعمل المشترك بينها وعلى هذا الأساس فإنّ الاتحاد يحيّي قرار السيد رئيس الجمهورية بإعادة العلاقات الديبلوماسية مع سوريا وتعيين سفير لتونس في دمشق وهو ما كان دعا إليه الاتحاد منذ اليوم الأوّل للقرار الاعتباطي القاضي بقطع العلاقات مع سوريا وندعو اليوم الديبلوماسية التونسية إلى اتّخاذ ما يلزم من إجراءات ومساعي من اجل عودة سوريا إلى الجامعة العربية ولمؤسّساتها ووقف الاعتداءات عليها والتدخّلات الأجنبية في شؤونها.
كما لا يسعني بهذه المناسبة سوى الاستبشار خيرا بالمبادرات السياسية الأخيرة الخاصّة بإنهاء الصراع في اليمن والتي نأمل أن تستمرّ وتتكثّف حتّى يعود السلام لِيَمَنِنَا السعيد وحتّى تنتهي مأساة شعبه الذي يعاني منذ حوالي العشر سنوات ويلات الحرب وآفة المجاعة وعودة انتشار بعض الأمراض والأوبئة الخطيرة.
إنّ تكلفة الحرب في اليمن خلال التسع سنوات التي استغرقتها لحدّ الآن كانت كافية للقضاء على الأميّة والبطالة في اليمن وتحويله إلى بلد قادر على تحقيق أمنه الغذائي والرفع من مستوى عيش الفرد فيه إلى عشرة أضعاف.
وغير بعيد عن اليمن تشتعل حرب داخلية أخرى في بلد عربي شقيق حيث يحتدّ الصراع على السلطة بين جنرالات الحرب في السودان تؤجّجه التدخلات الخارجية ومصالح كبرى الشركات متعدّدة الجنسيات التي تدرك أهمية حجم الثروات التي يكتنزها هذا البلد.
لقد نادت القوى المدنية السودانية منذ الإطاحة بالنظام الدكتاتوري بتحييد المؤسّسة العسكرية وتسليم الحكم لنظام مدني عن طريق انتخابات ديمقراطية ونزيهة. ونحن اليوم لا يسعنا سوى التنديد بهذه الحرب والتعبير عن دعمنا الكامل للقوى المدنية والديمقراطية السودانية في نضالها المشروع من اجل إرساء دولة القانون والحريات بهذا البلد من خلال الآليات الديمقراطية ودون تدخّل من أيّة جهة خارجية حتّى يعود الأمن والسلام للسودان ولشعبه العظيم. ونجدّد دوما دعمنا لإخواننا في ليبيا للتوصّل إلى حلّ ديمقراطي ليبي ليبي بعيدا عن قوى الهيمنة والنفوذ الدوليين يضمن للشقيقة ليبيا الاستقرار والتقدّم والازدهار، وهي مناسبة للإعلان مجدّدا أنّ ما يربطنا مع أشقائنا في مشرقنا العربي وفي مغربنا الكبير من أواصر الأخوّة والتعاون التي تستدعي التضامن ونبذ الخلاف واحترام إرادة الشعوب."
إنّ تضامننا مع شعوب وعمّال العالم لا يعترف لا بحدود ولا بعِرْقٍ أو لونٍ أو معتقدٍ، ولذلك اغتنم هذه الفرصة لأعبّر عن تضامن الاتحاد العام التونسي للشغل وعمّال تونس مع كلّ النضالات التي تخوضها الطبقة العاملة في جميع أرجاء العالم ضدّ الاستغلال وانتهاك حقوقها النقابية والاقتصادية والاجتماعية وأودّ أن أتوجّه بالخصوص لرفاقنا في فرنسا بأَجَلِّ عبارات المساندة وللنقابات الفرنسية الصديقة بأقوى عبارات التضامن في مواجهتهم البطولية وكفاحهم المتواصل منذ شهور دون هوادة ضدّ محاولات الرأسمالية الفرنسية تعديل نظام التقاعد دون تشاور مع النقابات وهو تعديل الغرض منه ضرب إحدى المكاسب الأساسية الذي ناضلت من أجله أجيال متعاقبة من العمّال وقدّمت في سبيله جليل التضحيات."
لمزيد من الأخبار حمّلوا تطبيقنا Echaabnews عبر AppGallery و فعّلوا زر الإشعارات ( Notifications) كي يصلكم كل جديدنا