ثقافي

تقنيات الرّواية في أحلام أخرى ممكنة لصباح بن حسونة نموذجا

الشعب نيوز / إلهام بوصفارة مسيوغة  - 

- مفهوم الكتابة : 

إن الحديث عن تقنيات السرد في الرواية يرتبط بمفهوم كل كاتب للكتابة . ماهي الكتابة عندي و عند صباح بن حسونة و غيرها من الكتّاب ؟ لا بد أن نتفق حول مسألة مهمة جدا تتعلق بمفهوم الكتابة عند الروائي رغم أن الكتابة مفهومها متعدد و منفتح بقدر تعدد الكتابات .

و في المنظور الحديث ، لم تعد الكتابة مجرد تقنية في خدمة اللغة ، تقنية لتدوين الكلام وتثبيت المنطوق أو المتصوّر، وإنّما هي إعادة بناء للوعي لأنّها تعزّز الإحساس بالنّفس، وبمركزية الأنا، والشعور بالآخرين، فهي عند دريدا حيلة للإقامة في هذا الوجود والتموقع في العالم.

وفي النقد الغربي ارتبطت الكتابة بالمتعة، وهذه المتعة في اللّغة، وتقترن تحديدا بلذّة الجملة، أو الجملة- الجسد على حدّ عبارة بارت. والجملة- الجسد في رواية صباح هي الجملة القادحة لفعل الكتابة:  "ها أنّي صرت أسكن قرب الله، لو مددت إليه يدي لأمسكها" (ص8)، جملة على بساطة كلماتها، هي الجملة المحفّزة على الكتابة، هي القادح الأوّل للإنشاء، لكنّ الكاتبة ابتدعت لجملتها- الجسد قوادح أخرى فنّيّة سابقة أو بالأحرى مثيرات تأطيريّة مطلقة لتنزيلها في فضاء روائيّ متخيّل: وهو المكان والزمان: "ذات خريف غائم وجدت نفسي في أحد ربوع هذا الوطن المنسيّة. وحدها الصدفة أخذتني إلى هناك"، والقادح الأكبر هو الصدفة التي أخذتها هناك.

هل الكتابة تكون بالصدفة؟ هل هي فكرة تأتينا صدفة أم تأتي بعد تراكمات وإلحاح شديد وبحث مطوّل؟ هل حقا ذهبت إلى المكان صدفة فألهمها جملة ألهمتها بدورها تفاصيل رواية؟ تقول: " باغتتني الجملة ووقعت موقعا فريدا من نفسي، سكنتني وتناسلت في ذهني نصوصا وأفكارا".

ما الكتابة؟ هل هي قدر تُساق إليه سوقا فتستسلم له الكاتبة صاغرة؟ أم هي رغبة تحكمنا وتستبدّ بنا فلا نستطيع لها ردّا؟ الكتابة عند صباح "بحر إمّا أن نغرق فيه أو نُغرقه فينا"، تعريف بليغ راق لي تحليله، وما البحر؟ هو ماء. وما الماء؟ هو الحياة، إذن الكتابة حياة. فهل الكتابة مجرّد إدراك للحياة أم إنتاج لحياة أخرى ممكنة؟ ولعلّ الجواب تضمّنه عنوان الرواية تورية: فالكتابة هي إنتاج أحلام أخرى ممكنة، والرواية تكتسب أهمّيتها من كونها تعدّ ديوان العرب اليوم فهي أكبر فضاء نثريّ يمكن أن يسع هموم الحياة بآفاتها وأحلامها الممكنة. الرواية أرض نعيش فيها حياة ثانية بل ساحة وغى نزلت إليها صباح بن حسونة مدجّجة بالسّلاح والعتاد المتمثّل في التقنيات الفنّيّة.

- تقنيات الرواية 

* الكاتب و الشخصية : 

 

في سياق النّشأة لا وجود لخطّة سرديّة، بل كما أسلفنا انطلقت العمليّة من جملة-جسد، ووُلد العنوان "صرتُ إلى الله أقرب" قبل المتن. ثم تقول "كتبتني الشخصيّات عوض أن أكتبها"، فالشخصيات مخلوقات فاعلة، نخلقها ثم تتمرّد علينا في ملعبها. فهذه الشخصيّة الذات المتحدّثة بأناها لم تقنع بالمدى القصير، وراحت تلحّ على الكاتبة وتضغط وتضغط صباحا مساء على ذهنها، كي تتيح لها مجالا أوسع، إنّها تطمع في أن تكون شخصيّة روائيّة، وكان لها ذلك " استحوذت على تفاصيلي اليوميّة فاستسلمت صاغرة". ثم تلبّست الشخصيّة البطلة بالكاتبة وأفسدت لها مخطّطاتها وأبطلت اختياراتها لتقيم عالمها المخصوص، فاختارت البطلة هويّتها وعائلتها ووضعيّتها ومن يحيط بها، وحدّدت شبكة علاقاتها، تمليها على الكاتبة وتسير بها نحو نهاية مجهولة، والأهمّ أنّها اختارت ذاكرتها واختارت أزمتها النفسية (العقم وألم الوحدة والخيانة الزوجية)، فكانت الحكاية كالآتي:

أحلام امرأة تزوّجت عن حبّ، ولمّا حملت أرغمها زوجها على التخلّص من جنينها، فأصابها العقم، ولأنّ الزوج أراد الإنجاب طلّقها وتزوّج من أخرى. وهي بدورها تزوّجت من كاتب وناشر وسيم معروف، اسمه إسماعيل الرّاوي، واختارت أن تستقرّ في بيته الريفيّ الكبير القريب من الربوة، ما أجبر زوجها على التنقّل يوميّا بين المدينة والرّيف بحكم عمله. وحول هذه الربوة تشكّلت الأحداث: حياة جميلة القرية وجارة أحلام، تتزوّج من المنذر بعد أن طلّقته ابنة عمّته عفاف بسبب خيانته لها مع جارتها، وتنجب منه طفلين. يرى إسماعيل جمالها فيغويها بلقائه.

. تراهما أحلام خلف الربوة، فتنبّه زوجها المنذر بأن ينتبه لزوجته ويعتني بها. تستبدّ به الغيرة والشكّ فيقتلها خنقا ثم يضعها على أرضيّة المطبخ ويغتصب جثّتها ثم يضرم فيها النّار. جريمة لم ينجح في إخفائها، يُزجّ به في السجن، تاركا طفليه وردة وأخاها عند جدّيهما. تكبر وردة وتتعلّق بأحلام التي زادتها خيانات إسماعيل لها انكسارا، وتزيدها أسئلة وردة وجعا. ثم تتعرّف على الربوة إلى نجمة وهي ترعى شويهات أمّها. نجمة أستاذة الإنجليزية التي عادت إلى قريتها بعد تجربة مريرة مع يحيى الذي خذلها بعد حملها منه وهي عذراء وأرغمها على الإجهاض. ثم تتعرّف إلى سارّة صديقة نجمة، في حفل تكريم لإسماعيل، سارّة كاتبة مبتدئة، متزوّجة من رجل سكّير غليظ الطباع لتقع بين ذراعي إسماعيل الصّيّاد. 

لكن، لم تعد الحكاية هي الأهم في الرواية بل كيفيّة الرواية، كيف يروي الكاتب الحكاية؟ فابتنت المؤلّفة لشخصيّاتها خطّة سرديّة متداعية واختلقت لها مكانا وزمانا، فكانت الأحداث بين البحر في المدينة والربوة في الريف، وجعلت لها أصواتا في السّرد بمساحات متفاوتة.

* الخطة السردية و زمن القص ( الترتيب الزمني ) 

الخطّة السرديّة هي منطق تنظيم وقائع الحكاية مهما كانت طبيعتها، وهو منطق يقوم على الترابط السببي لبناء العلاقات بين الشخصيّات، وهي في ممارستنا لفنّ الرواية أوّل مرحلة نضعها في أذهاننا ومنها تتناسل خيوط الشبكة السرديّة. هكذا كان الأمر في رواية أحلام أخرى ممكنة.

فالساردة تفنّنت في سرد ما يحدث، تسرد عن الشخصيّات أو تدعها تروي عن نفسها، أو تختفي لتتركها تتحاور فيما بينها، مستعملة مجموعة من التقنيات لتلعب فنّيّا، فتقدّم أو تؤخّر حدثا على حدث كما هو في بداية فصل حياة حيث استهلّته بأزمتها مع المنذر في أوجها: " في تلك اللّيلة احترقت حياة وزوجها يشعل في قلبها لهيب كلماته قبل أن تلتهمها ألسنة النّار" (ص29)، ثم شرعت تحدّثنا عن طفولة حياة وصباها وكيفيّة تعرّفها على المنذر في آخر الفصل: "حياة كانت يتيمة الأدب والأمّ، تعيش مع زوجة أخيها ولم يكن بينهما ودّ" )ص33(. وتجمل ما يراه جانبيّا في الحكاية وتفصّل السرد فيما تراه مشوّقا ومثيرا كما حدث في مشهد قتل حياة: ما يزال جسدها ملقى على أرضيّة المطبخ الباردة... التصق بها وقد تلبّسها الموت. عمد إلى يديها يحرّكهما في اتّجاهه... أدار الجسد الهامد نحوه ووضع يدها اليمنى في يده اليسرى فارتجف كمن مسّه تيّار" (ص53)، فتخفّف من سرعة القصّ أو ترفع منها وفق اختياراتها، فهو اللّعب الممتع بتقنيات الاسترجاع والاستباق والتفصيل والإجمال والحذف والإسقاط.. وهو ما يطلق عليه النقد الحديث بمقولة زمن القصّ. (كما وضّحها تودوروف في كتابه: communication: الترتيب والمدّة والتواتر) رغم أنّ الكاتب غير مطالب بمعرفة هذه التنظيرات فهي من مجال الناقد. والدّرس النقدي هو الذي يستنبط هذه الحدود والمفاهيم من ملفوظ الكاتب وطرائقه في السرد وليس العكس. فالترتيب الزمني يبقى من صنع السّارد، وهو لعبة فنّية يكسّر فيها السّارد أو المؤلّف الضمني زمن القصّ مرارا فيستحضر أحداثا ماضية ويخلخل المسار الخطّي للسرد.

* هيئة القص : ( من يروي؟) 

تقنية السّارد، تطوّرت جدّا في عالم القصّ، إذ كثيرا ما يلجأ الرّوائيّون إلى تنويع السّارد في العمل الواحد، فتتقاسم السرد عدّة أصوات على غرار ما نجده في هذه الرواية. فالشخصيّات الروائية الرئيسية استأثرت بمساحات نصّيّة تروي فيها الحكاية وتتقاسم فيما بينها فعل القصّ: ديمقراطيّة المؤلّف في توزيع الأدوار على فواعله وشخصيّاته وصوت السّارد في القصّ، يظهر من خلال لعبة الضمائر التي تمثّله: وقد يحدث أن يراوح السّارد بين ضمير المتكلّم وضمير الغائب: "زوجي رجل مهمّ. كاتب معروف يدير دار نشر وتوزيع تأخذ كلّ وقته. طوّقها بذراعيه ثم قبّلها... أعرف أنّه يحبّني..." (ص16)، فتارة يسرد بضمير الغائب تأكيدا أنّه ليس الشخصيّة وأخرى يترك الرواية لشخصيّاته فيطبع السرد بأنفاسها، وتحضر بأنواتها، مزاحمة السّاردة.

وتلك مهارة فنّية في اللّعب بالتقنيات تدلّ على أنّ الكاتبة تجيد التعامل مع عالمها المرويّ وتمنح هذا العالم استقلاليّته وقدرته على نسج علاقاته دون تدخّل الكاتبة ، فأبدعت شخصيّات حيّة قادرة على النطق بصوتها وغير خاضعة لسلطة الكاتب وسطوته.

وهذه العلاقة بين السارد وشخصيّاته في تقاسم وظيفة السرد غالبا ما تربك المسرود له، فللكاتب دور الوسيط بين السارد أو "المؤلف الضمني" الذي ينظّم الخطاب والشخصيّات ، وحتّى ميشال فوكو "في محاضرة شهيرة بعنوان "ما هو المؤلّف؟" 1969 قال إنّ المؤلّف الضمنيّ وظيفة تمكّن من تنظيم عالم الخطابات، وهو الصورة التي يحصل عليها القارئ، بل "الشخصية الثانية" للكاتب ليصل إلى درجة من الموضوعيّة والحياد (هذا المصطلح يعود إلى وين بوث Wayne Booth (1921 – 2005) في كتابه الشهير The rhétoric of fiction وهو مرجع كلاسيكي أساسي في العالم لطلّاب الأدب)

* شاعرية اللغة و لغة القص  : La Poétique 

الجميل في هذه الرواية هو انزياح الذات الكاتبة فيها عن اللّغة السرديّة المألوفة، إذ تجري مجازات وتعبيرات استعارية فاعلة في خلق المعنى.

 فتمتدّ إلى كائنات الحياة من حولها، ولعلّ هذه الشاعريّة في السّرد آتية من حبّها للشعر.

 فلكلّ كاتب شعرا أو سردا إيقاعه أي حركته في ملفوظه وطريقته في الاستحواذ على اللغة وإجرائها إجراء خاصّا وتصريفها وفق مزاجه وذائقته الفنيّة.  لذا ينبغي تتبّع هذه الحركة من خلال مستويات اللّغة لندرك المعاني من خلال طرائق الذات الكاتبة في إخراجها.

ولعلّ الوصف هو المجال الأصدق لتتجلّى فيه هذه الشاعريّة في اللّغة، ومواطنه كثيرة، ولكنّني تخيّرت مقطعين من الرواية لرصد حركة الذات الكاتبة في اللّغة .

في الغزل: "خدّان أسيلان قدّا من خمر معتّقة وثغر بلون الأرجوان ينفتح على حبّات من لؤلؤ منثور" (ص30) إنّها أنفاس أبي نواس وبشّار حاضرة متخفّية في ثقافة الكاتبة.

في الجنس: "وأخصبت سنابل الحبّ في قلبه وأخصبت في قلبها. أخصبت رحمها أيضا. فالسيل كان جارفا اخترق جسدها وغاص في أكثر أماكنها حميميّة وتخفّيا دون أن تدري" (ص99). إنّها قوّة الوصف دون السقوط في الابتذال اللّغوي والجرأة المنفّرة.

أمّا حين قرأت أحلام على زوجها ما كتبت، كان نصّها والله إلى الشعر أقرب: "في غياب اشتعالات أخرى أطفئ رغبتي عادة على طاولة المطبخ وأنا أترشّف قهوة بطعم الفجر المتسلّل عبر النّافذة معلنا وصوله.

في الحبّ كما في الحرب، لا يمكنك الرّجوع إلى الخلف، كلّ خطوة تخطوها تصنع ما بعدها.

على طاولة المطبخ نزعت أسلحتي ببطء متعمّد قطعة إثر أخرى حتّى صرت عارية إلّا منك.

وحدك صرت غطاء لظهري المكشوف ناصع البياض والعراء في هذه الحرب اللّامتكافئة مع الغياب"(60)

لغة شاعريّة مبهرة تضجّ بالمعاني كما قال إسماعيل، هذا السرد الموشّى بالشعر يكشف عن ذكاء فنّي شديد، وذوق راق، فصباح شاعرة وقاصّة تحسن بناء ملفوظها اللّغويّ وتجيد صناعة الذات في مختلف أحوالها وتمسك بناصية اللّغة وتحسن الاستحواذ على المشترك منها وتجريه إجراء خاصا لتحدث انزياحات جميلة مثيرة للاهتمام.

وقوّت هذه الشاعريّة بحضور نزعة التصوّف في السّرد مع فلسفة ابن الفارض ص21، وبحضور الشعر والغناء في الخطّة السرديّة: قصيدة لمحمود درويش (ص66)، وزبيدة بشير (ص90) وأغنية لماجد المهندس: "اليوم من الصبح قاعد أفكّر فيك" (ص46)

* التناص في اللغة : 

الكاتب لا يكتب إلا انطلاقا من القراءات السابقة، فكلّ نص يحتفظ، قليلا أو كثيرا، بأثر القراءات السابقة.

ونظرية التناصّ جعلت النص المكتوب منفتحا، تستحيل القراءة فيه رصدا لثقافة المؤلّف، وتتبّعا للنّصوص السّابقة التي استقرّت في لاوعيه، يستحضرها لحظة الكتابة، لأنّ الأدب على نحو ما قاله الجاحظ، عقل غيرك تضيفه إلى عقلك. كتبت صباح روايتها متأثّرة بالشعر والغناء والفلسفة، ولهذا تصدّر فصولها بأقوال من الفكر الإنساني الرائد مثل هاروكي موراكامي، أليف شافاك وقواعد العشق الأربعون، دوستويفسكي، مصطفى عبد الرّحمان، محمود درويش، وهي أسماء تعدّ من عناصر الرواية، استحضرتهم ببُعد نظر كمشاركين في كتابة النص لتحصينه من تداعيات أيّ فكر مُضطرب قد يظهر في سياق مفاهيم بعض القُرّاء والنُّقاد ، بل هي استدلال حيويّ على الفكر الاجتماعي السياسي الأخلاقي الديني الذي يتبنّاه المؤلّف الضمني.

ومهما ادّعى الكاتب أنّه يكتب متحرّرا من التأثيرات النصّية أو الثقافية واللّغويّة، فإنّه لا يستطيع أن ينكر الذاكرة النصّية "mémoire textuelle "المشتركة سواء أ كانت صريحة أم ضمنيّة، التي يمكن أن يرصد القارئ آثارها في النص المكتوب، وخاصة الرواية لاتّساع مداها الورقي وتشعّب مسالكها السرديّة.

- التبادلات الحوارية 

بين الطلبة كان الحديث عن الثورة التونسيّة بلغة ثقافيّة واعية ومقنعة، بين أحلام وزوجها الكاتب، وكم استحسنت أيضا حضور بعض العامّيّة التّونسيّة في الحوار لأنّها كانت مناسبة للمستوى الفكري واللّغوي للشخصيّة: حط الكازي في كرومة راجل قبل ما تجيبلنا العار \ بناتك باروا: ملفوظ الدادة محسونة (ص33) والله لا يستاهل ظفرها، يعطي الفول للّي ما عندوش زروس: ملفوظ أحد زبائن المقهى ذوي العقول الفارغة (ص36) والله اللّي ما ترجّع فلوسك، إن شاء الله كي تخدم في المعمل تخلّص عليّ المبروك: ملفوظ المنذر لحياة (ص40)

وامتدّت التبادلات الحواريّة بينهما بالعامّيّة على امتداد صفحتين ص43 و44، وكان حوارا حارّا ما أصدقه  وما أقربه إلى الواقع التّونسيّ، ولا سيّما أنّ الملفوظ تناسب مع الوضعيّة الاجتماعية لكليهما ودرجة الوعي عند عاملة بسيطة وسائق شاحنة.

أمّا وردة فقد حمّلتها رغم صغر سنّها ما لا يحتمله وعي طفلة، فكان ملفوظها غير متناسب مع شخصيّتها وملفوظها تجاوز مستواها الفكري ورغم ضعفها في الدراسة تنطقينها بلغة بليغة: "لا يريدني أن أراها ودائما ما ينعت أمّي بأقذع الألفاظ" (ص27)، إنّها طفلة وخطابها لا بدّ أن يتلاءم مع سنّها ليكون مقنعا. 

* نهاية القص 

ولهذا تركت الروائيّة النهايات منفتحة انفتاح الأمل، مربكة إرباك الحياة للنفس البشريّة تدفعها إلى التفكير والتأمّل من جديد في وضعها، كعدم جزم أحلام في الجواب عن سؤال وردة: هل كنت تستحقّين ما فعله بك؟ وهل كانت أمّي تستحقّ موتتها تلك؟ وحتى الكاتبة نفسها لم تجرؤ على الجزم بالجواب كما أكّدت ذلك في افتتاحيّتها: أسئلة تجرّأت على إثارتها ولكنّني أشكّ في وجود من يجرؤ على إيجاد أجوبة لها، فهل تجرؤون؟ (ص10)

وتركت الصراع بين الخير والشرّ مفتوحا حتّى يتمكّن الأمل من التسلّل إلى نفس القارئ، وكذا بالنسبة إلى الشخصيّات الأخرى، حمّلتها رسائل أخرى مبشّرة بإمكانيّة الحلم من جديد.  

نهايات مختلفة، لكنّها غير قاتمة تبلغ القارئ برسالة وهي: الواقع بشع ولكن فيه أمل في التغيير (نجمة) وإمكان للحلم (أحلام) ولن يكون المصير الضياع والموت المعنويّ (وردة).. شخصيّات صادقة في معاناتها فخلقت لها الأمل في آفاقها..

* غاية القص 

إذ تحكي الرواية عن مجموعة من الفتيات المجاهدات في سبيل غد أفضل تتنازعهنّ الأحلام وتأخذهن الطموحات الى أن يقعن فريسة قدر ما: 

أحلام التي قرّبتها انكساراتها وخيباتها مع اسماعيل من اللّه حياة المقتولة المغدورة من زوجها المنذر ولا ذنب لها سوى جمالها نجمة التي خذلها يحيى حبيبها ثم انبعثت من جديد من رماد الحبّ ذاته سارّة الكاتبة المبتدئة التي أفضى بها إهمال زوجها إلى الخيانة والوقوع في شراك الصيّاد وردة ابنة حياة الجثة المحترقة، الطفلة التي كبرت رغم الذبول وفرحتها الموؤودة، وكبر معها السّؤال فقلم صباح بن حسونة، هنا عدسة كاميرا تنقل لنا بفنّيّة جميلة ولغة شاعريّة بؤرة الشّرور الكامنة في الإنسان من خلال طرح قضايا راهنة تجد فيها نفسك كلّما توغّلت في قراءة هذه الرواية:

مسألة التطرّف واللّباس الشرعي والخمار: "أكمام طويلة وجلابيب سوداء، كأكياس القمامة الكبيرة التي نضعها على قارعة الطّريق \: هل الرجوع إلى الله يكون بمنديل يلقى على الرّأس؟" (ص31 و33)

* الزواج المبكّر والعقلية البائسة (ص33) \ الزواج غير المتكافئ \ الزواج المصلحي هروبا من ظروف اجتماعيّة (ص50) \ عمل المرأة وبطالة الرجل (ص35)

الحياة الزوجية ومعاناتها وتلك الخيانات الصغيرة المؤلمة: (ص17) \ (ص45) \ (ص130) \ (ص146)

وضع التعليم في الأرياف: (ص78)

البطالة ووضع صاحب الشهادات العليا: يرعى الشويهات: تهميش طاقات الشباب: (ص75 \76)

الثورة التونسية (ص88\89): ثورة أم انتفاضة؟

البكارة أو الغشاء الاصطناعيّ ومهزلة شرف المرأة: سعداويّة الموقف: (ص110)

المحاكمات الفكرية ليحيى (ص 122)

قضيّة الكاتب المبتدئ ووضعه بين الكتّاب الكبار (ص127)

قضيّة التحرّش الفيسبوكي (ص129)

هذه الرواية فعلا، كتابة ناضجة تشي بفهم عميق للذات البشريّة (ص45، 62، 65، 69 ، 73)، في هذه الصفحات تطالعك حقّا درر وحكم وحقائق. 

والكاتبة صباح تحمل رسالة هي كشفُ الحقيقة للناس كما عبّر عن ذلك الفيلسوف الألماني (نيتشه).

فالرواية تنتمي إلى تيّار الواقعيّة النقديّة (وهذا المصطلح صاغه الناقد الهنغاري غيورغي لوكاتش في دراساته عن الأدب الواقعي الفرنسي في القرن التاسع عشر، روايات بلزاك وزولا تحديداً، وعن الأدب الروسي بعد انتصار الثورة البلشفية.)، حيث لم تقف الروائيّة عند حدّ الإدراك السلبي للواقع، بل قدّمت تمثيلاً للواقع يشير إلى احتمالات تطوّره.

هذه هي، بالضبط، رسالة الأدب والفن، إعادة إنتاج الحياة والعوالم الممكنة بالقصّ عندما يسقط كلّ شيء، ويُدمَّر كل شيء، وإعادة تشكيل الوجود أو ابتكاره لا مجرّد تصويره وتشخيصه.. يقول يوسف إدريس: "الأديب هو الذي يصهر عواطفه جميعَها في بوتقة الناس وحاجاتهم، فينفذ إلى أغوار مشكلاتهم فيصدق في الإحساس وفي التعبير عنها والمشاركة في إيجاد حلول لها ".

سُئل توفيق الحكيم لماذا تكتب؟ فكان جوابه: " لأن الفنّان لا بد ّأن يكون له وجهة نظر في الحياة وفي الناس وفي الأفكار. الفنان ليس مجّرد متفرّج. إنه متفرج وصانع لمجتمعه في وقت واحد .