وثائقي

أكتوبر1948: فرحات حشاد كما عرفته… بقلم أحمد المناعي.

في أوائل شهر أكتوبر من سنة 1948 زارنا في دار جدي عدل الإشهاد المرحوم محمد صالح فرحات بالوردانين خالي عبدالله مصحوبا بصديق كان يناديه فرحات وظننت لأول وهلة انه من العائلة لتشابه الأسماء. كان الرجلان طويلي القامة وظهرا لي عملاقين نحيفي الجسم وسيمين يلبسان الزي الإفرنجي، لا يفرق بينهما إلا أن خالي كان عاري الرأس وضيفه يلبس شاشية.

أيامها لم يكن الضيف يدخل الدار فقد كان ذلك شبه حرام إضافة إلى أن الديار في الوردانين وفي قرى الساحل عامة لم تكن تشتمل على غرفة لاستقبال "البراني".

كان بمحاذاة الدار حانوت ظل لعقود مكتبا لجدي عدل الأشهاد ورثه عن أبيه صالح فرحات الذي كان هو الآخر عدل إشهاد. ففي ذلك الحانوت كتبت كثير من عقود الزواج والطلاق والبيع والشراء والقسمة والميراث وبطاقات الولادة والوفاة أي كل الأعمال المنوطة بعهدة عدل الإشهاد وقتها والتي ورثتها اليوم البلديات والمحامين إضافة لعدول الأشهاد.

كانت أرضية المحل من تربة ملبدة كالتي تستعمل في ذلك الزمان في بناء الجدران والتي يقع رصها "بالداما" بحيث تثبت وكأنها من إسمنت. أما المكنسة فقد كانت من "المثنان" وهو نبات بري له كثير من الاستعمالات الطبية ويستعمل أيضا للكنس.

كنت أهيئ المحل وأفرش المطارد - حصير من "السمار" - أما الحصيرة فكانت تصنع من الحلفاء فإذا بالرجل يسألني: وين تقرأ يا رجال؟؟؟

فأجبته – في الجامع عند سيدي المدب قوقو… ورد علي مؤنبا ومحتجا: ااااااه لا. يجب أن تذهب إلى المدرسة.

وجاء أبي وأوصياه أي خالي وضيفه بتسجيلي في المدرسة. وتم ذلك بالفعل من الغد وكانت أجمل هدية لطفل في عمري فقد أراحني من الجلوس على الحصير في أجواء قاعة محاذية لمسجد سيدي إبراهيم مكتظة تجمع الأطفال من كل الأعمار ومن "مشخيط" المؤدب المقعد ومن البرغوث والذباب والأوساخ ومن أشياء أخرى كثيرة وكريهة.

في يومي الأول، في المدرسة، أجلسني المدير سي صلاح الدين المعتمري بجانب يوسف ابن عمي عبد السلام وهو الذي أعطاني صوابع الطباشير الملونة. ومكنني من محاولة الكتابة على لوحته في انتظار شراء لوحة من الغد، يوسف كان يصغرني بسنة، ولا أدري كيف سبقني الى المدرسة، فعمي عبد السلام كان أميا مثل أبي وككل أعمامي.

صديق خالي الذي فتح لي أبواب النور هو المرحوم فرحات حشاد الذي عاود زيارتنا عديد المرات في السنوات التالية إلى الحد الذي استأنست به وأصبحت أناديه عمي فرحات.

كان يأتي مع خالي دون سابق إعلام، فلم يكن هناك تلفون لدى الخواص ولا حتى تلفون عمومي. كان الصديقان الحميمان يأتيان على متن حافلة "أستاس" التي تربط الوردانين بسوسة مرتين أو ثلاث مرات في اليوم. بعد الاستقلال تحولت "أستاس" الى شركة "الحبارة"... ثم إلى شركة النقل بالساحل بعد ذلك بسنوات.

كنت، بعد أن أفرش المطارد، آتي لهما بما حضر من الأكل، وفي كثير من الأحيان، ما حضر هو فقط خبز الشعير أو خبز القمح والزيت في " تبسي" يليق بالمقام والزيتون. ومباشرة بعد ذلك تبدأ أمي في إحضار العشاء.

جانفي 1952

يوم 22 جانفي 1952 كان يوما مشهودا في حياتي وحياة سكان الوردانبن والتونسيين. فقد استشهد أربعة من شباب الوردانين في مظاهرة في سوسة علمت فيما بعد أنها وقعت للاحتجاج على اعتقال الزعيم. شيئا فشيئا تغيرت حياة الناس وتغيرت مواضيع اهتماماتهم ومشاغلهم ودخلت مصطلحات جديدة في سهراتهم. الاستقلال والكفاح والزعيم والفلاقة ….

وذات يوم من شتاء سنة 1952 عندما كنا في القسم ننتظر ناقوس الخروج بفارغ الصبر، قدم المرحوم عمران موسى يصيح فينا من النوافذ: اخرجوا.. اخرجوا... فرحات حشاد قتلوه… كنت الوحيد من بين رفاقي الذي يعرف حشاد، لكننا خرجنا جميعا وتفرقنا في الشارع تلبية لنداء عمران موسى الذي عرف بزعيم الشباب في الوردانين منذ بداية سنة 1952 ومظاهرة سوسة .

والحقيقة أننا خرجنا دون تظاهر أو صياح أو شعارات فعمران لم يتعود على تنظيم المظاهرات والاحتجاجات وقد كنا خائفين من أبائنا فهرب كل واحد منا إلى دار أحد أقاربه.أنا هربت إلى دار عمي محمد عند خالتي فاطمة التي كانت تحبني كثيرا.

يومها حزنت وحزن كل أفراد العائلة فالشهيد ليس بالغريب عنا وإن لم يكن يعرف شخصيته سوى أخي محمود فهو الذي رافق يومها زوجته وأطفاله من سوسة إلى رادس مقر سكناهم.

عطلة الشتاء

في اليوم الأول لعطلة الشتاء قال لي أخي محمود أن خالي عبدالله يريدني أن أقضي العطلة مع أطفال حشاد واصطحبني إلى رادس حيث بقيت نصف شهر أقضي النهار في دار حشاد في بئر الطراز ألعب مع نورالدين الابن الأكبر والذي كان يصغرني بسنتين ونصف ومع عبد الناصر... وتعرفت على أمهم الفاضلة أم الخير. ومع المغرب أرجع إلى دار خالي نهج البريد بالقرب من مركز البريد.

في تلك الفترة كان الخالان محمد وعبدالله يستأجران شقة تقع في الطابق العلوي لفيلا على ملك امرأة فرنسية. كانت الشقة صغيرة تشتمل على أربع غرف واحدة لكل زوجين وثالثة للأكل والجلوس والرابعة للضيوف والأهل من الوردانين وهي الغرفة التي قضى فيها فرحات حشاد ليلته الأخيرة وهي التي آوتني مع آخرين في تلك العطلة.

وذات يوم أخذونا للسينما... وكان الاكتشاف العظيم.

كنا في قافلة من المصاحبين يومها, كانت هناك صفية زوجة خالي عبدالله والسيدة أختها وعمي مصطفى الفيلالي زوج هذه الأخيرة وكنت أعرفهم كونهم من العائلة. وكان معنا رجلان لا أعرفهما. وفي لحظة ما وبينما كان الجمع متجمهر أمام شباك التذاكر انسحب أحد الرجلين إلى الركن المقابل وتوجه إلى الحائط ورأيته يقوم بحركتين شبيهتين بحركة الديك عندما يشرب.

كنت طفل العاشرة ونيف والطفل فضولي بطبعه وسألت الخالة صفية: علاش "هذاكَ" يعمل كيف السردوك؟؟؟ وأجابتني هذاك محمود (المسعدي) عندو هاك البلية.. قاعة السينما لا تزال حيث عرفتها لأول مرة في نهج جمال عبد الناصر.

وتجدد اللقاء في السنة التالية في الذكرى الأولى لاستشهاد حشاد ثم في شهر جويلية سنة 1954.

قي هذه المرة لم أكن في دار حشاد في بئر الطراز وإنما مع نور الدين ومجموعة من الرجال في قاعة مدرسة الفتاة المسلمة بنهج المر بتونس العاصمة.

كنت ألعب مع نورالدين حول الطاولة وفوقها وتحتها وعلى الكرسي وأحيانا نكتب على السبورة… وكان هناك رجال في وسط القاعة مجتمعين حول طاولتين أو ثلاث يتحدثون ويكتبون …كنت أعرف بعض هؤلاء الرجال إما لأنهم أقارب أو لأني عرفتهم يوم اصطحبونا للسينما قي سنة 1952. كان هناك عبدالله فرحات ومصطفى الفيلالي ومحمود المسعدي "الذي كان يعمل مثل السردوك عندما يشرب".

تشكيل اول حكومة

في سنة 1955 عندما تشكلت أول حكومة استقلال ذاتي ونشرت صور أعضائها تعرفت على الشخصيات التي كانت حاضرة في المدرسة عام 1954 .كان هناك الثلاثة المذكورين أعلاه وأحمد بن صالح وعز الدين العباسي.

بعد سنوات طويلة من ذلك الحدث العظيم علمت أن الاجتماع الذي حضرته مع نور الدين حشاد هو المؤتمر الثالث للاتحاد... وفي سنة 2021 فقط أخبرني الصديق والمناضل الكبير السيد أحمد الكحلاوي أن مكان انعقاد ذلك المؤتمر كان مدرسة الفتاة المسلمة بنهج المر بتونس العاصمة. فله جزيل الشكر.

التقيت بالمرحوم محمود المسعدي في المرتين المذكورتين في 1952 و1954 وبعد ذلك بعشرين سنة في عام 1974 بعد أيام من إقالته من الوزارة في باريس.

رحم الله كلّ الذين ذكرتهم.

بقلم أحمد المناعي

(من صفحته الخاصة على فايسبوك)