آراء حرة

الاتفاقية الناعمة : قراءة في فصول مذكرة التفاهم الممضاة مع الاتحاد الأوروبي بتاريخ 16 جويلية  2023

بقلم الاستاذ أنيس هنانة

امضت تونس بالأمس (الاحد 16 جويلية 2023) مذكرة تفاهم مع الاتحاد الأوروبي بحضور جيورجيا ميلوني ، رئيسة وزراء إيطاليا، و التي يمكن اعتبارها مهندسة ووسيطة لامعة في إمضاء هذه المذكرة. وقد تم الكشف عليها بعد الامضاء عليها من الطرفين التونسي و الأوروبي.

هذا، و قد تضمنت هذه المذكرة خمسة أبواب مسبوقة بمقدمة عامة تمتد على ثلاث فقرات قصيرة. هذه الأبواب لا تكتسي نفس الأهمية على اعتبار أن نقطتين فقط يستحوذان على أكثر من نصف المذكرة وهما المتعلقتان بالمسالة الطاقية ( في علاقة بالطاقات البديلة) وخاصة مسألة الهجرة، في حين كانت النقاط الأخرى مقتضبة ، مقتصرة على عموميات ونقاط مبهمة، خاصة فيما يتعلق بالجوانب الاجتماعية.

افتتحت هذه المذكرة بمقدمة عامة تذكر بالروابط التاريخية بين تونس و الاتحاد الأوروبي القائمة على "الشراكة ووحدة التحديات" ( كل ما وقع اقتباسه من نص الإتفاق وضع بين ظفرين و قد قمت بالترجمة )..  هل هي حقيقة أو مخاتلة أو لغة خشبية؟ ....كي تذهب مباشرة نحو صلب الموضوع آلا وهو " تقوية الشراكة الاقتصادية و التجارية بغية معاضدة الاصلاحات الاقتصادية التي قررتها تونس و الضرورية لتحقيق التوازنات الاقتصادية"...

إذن'، منذ البداية نستخلص أن الإتفاق يندرج في إطار التسريع بما يسمى الاصلاحات وهو ما يحيلنا إلى تلك التي وضعها صندوق النقد الدولي كشرط أساسي للإفراج عن أقساط القروض التي وعد بها..

في الفقرة الثالثة من هذه المقدمة، يمكن أن نقرأ أن هذا الإتفاق يهدف إلى " تقوية التعاون لمقاومة وتقليص جحافل الهجرة غير الشرعية وإنقاذ الأرواح البشرية استنادا إلى الميثاق المشترك في أعلى مستوى الممضى في 11 جوان 2023."..بماذا يقضي هذا الميثاق وعلى ماذا يحتوي؟...

بعد المقدمة العامة، نجد الباب الأول الذي يتحدث عن جانب " استقرار الموازنات الاقتصادية" ويحتوي على ثمانية أسطر فقط!!!... حسب ما ورد في هذا الباب، فإن الاتحاد الأوروبي يكرر استعداده على " الإشراف والتوجيه في دعم تونس في جهودها الرامية إلى إعطاء ديناميكية للنمو الاقتصادي بهدف إرساء نمط نمو دائم ومتنوع، وذلك من خلال سياسات مناسبة تضم الاصلاحات الاجتماعية والاقتصادية التي تنوي تونس اعتمادها و القيام بها"..لعل أهم ما يجلب الانتباه في هذا المقتطف هي مصطلحات "سياسات مناسبة" و"إصلاح/'إصلاحات " المتواتر في النص، وهو ما يدعو للتساؤل حول نوعية هذه الإصلاحات وماهية السياسات التي سيقع انتهاجها لتحقيق هذه "الإصلاحات "...

يؤكد النص بعد ذلك بأن التفاصيل الاجرائية سيقع " مناقشتها لاحقا في الثلاثي الثالث لسنة 2023" ثم يقول النص: " إن الاتحاد الأوروبي سيقوم بالمرافقة في علاقة بهذه الإصلاحات خاصة في نطاق دعم الميزانية، مع العلم أن قيمة الدعم بعنوان 2023 سيقع صرفه كاملا"... كل الأفعال في النص الاصلي مصرفة في المستقبل، دون تحديد قيمة هذا الدعم و كيفيته وهو متروك لجلسات لاحقة...

هذه قراءة في الباب الاول، قبل التطرق إلى الباب الثاني الذي يعنى بالاقتصاد والتجارة و يمتد على صفحتين(2و3) .. هذا الباب سنتناوله بالتحليل ومساءلة للنص في محاولة لاستقراء مختلف النقاط التي يتضمنه ومعرفة ما يوجد وراء السطور ...  

الباب الثاني: الاقتصاد و التجارة.

اهتم الباب الثاني من مذكرة التفاهم بمجال الاقتصاد والتجارة، حيث نص على أن "الاطراف المعنية تعمل على تقوية التعاون الاقتصادي والتجاري بغية تطوير المبادلات التجارية للبضائع والخدمات وإرساء مناخ أعمال مشجع وجالب للاستثمار و التنمية الدائمة ".. هذه الجملة ليست بجديدة في إطار اللغة الخشبية، لكن السؤال: كيف سيتم كل ذلك في ظل اختلال توازن القوى  الاقتصادي و التجاري بين أوروبا و تونس؟ ..

.يتحدث النص كذلك عن "تحديث العلاقات التجارية و الاستثمار بين الاتحاد الأوروبي و تونس بهدف تحسين شروط الدخول إلى الأسواق.." هل في ذلك تمهيد و إعداد الأرضية لما يسمى "السوق المفتوحة" الواردة في مشروع الاليكا الذي فشلت أوروبا في تمريره؟ وهل أن لتونس القدرة على المنافسة واكتساح الأسواق الأوروبية؟ سأترك الإجابة لأهل الاختصاص....

يتحدث النص كذلك عن دعم الصندوق الأوروبي للتنمية المستدامة لقطاعات بعينها تقوم على مبدأ " التنافسية والقطاع الخاص، وتحديث آليات التوزيع ومراقبة السوق والبحث على التمويلات، وتهتم بقطاع المياه والفلاحة بصفة مستدامة ، كما يهتم بتطوير التكنولوجيا الموجهة إلى الاقتصاد الدائري والطاقات المتجددة وتحضير وانتاج الهيدروجين المتجدد واعتماد معايير الاتحاد الأوروبي في القطاعات الاستراتيجية المعنية بالتصدير."...

ما فهمته من ذلك هو أن تونس ستكون المختبر والأرضية  للأنشطة التي ينوي الأوروبيون القيام بها والاستفادة من نتائجها، وهنا يحق لنا أن نتساءل:" أي دور سيكون للدولة التونسية في كل هذا باستثناء توفير المواد الأولية وتوفير الظروف  المناسبة؟ لعل خبراء الاقتصاد لهم أكثر قدرة على فهم وكشف أبعاد ما ورد سابقا...

فيما بعد، ينقسم هذا الباب إلى خمسة عناوين وهي: الزراعة / الاقتصاد الدائري / الانتقال الرقمي/ النقل الجوي/ الاستثمارات...سنأتي على كل هذه العناوين بالتفصيل... 

الباب الثالث: الانتقال الطاقي الأخضر 

يتطرق الباب الثالث من مذكرة التفاهم الممضاة إلى مسألة الطاقات المتجددة والنظيفة، حيث يفتتح الباب كما يلي: " على اعتبار وعينا بالثراء الذي تزخر به تونس في مجال الطاقات المتجددة وفي سبيل المصلحة المشتركة من أجل تحقيق أمان في مجال الإنتاج والإمداد الطاقي بين كلا الطرفين، فإن تونس والاتحاد الأوروبي يعملان على إرساء شراكة استراتيجية في ميدان الطاقة لتقوية النمو في مجال الطاقة الخضراء النظيفة وخلق مواطن شغل." ... بطبيعة الحال، المسألة الطاقية مهمة جدا للاتحاد الأوروبي على اعتبار أن تونس هي مجال سهل ورحب لاستغلال الموارد الطاقية....

ثم يواصل النص:" هذه الشراكة الاستراتيجية ستساهم في تقوية الأمان في مجال التزود الطاقي وستوفر للمواطنين والشركات طاقة نظيفة ذات نسبة ضعيفة من الكربون وذلك بأسعار تفاضلية."... مما يعني ضمنيا أن سوق الطاقة سيخضع لمنطق المنافسة مما يجعلنا نتساءل عن مصير شركات حكومية مثل شركة الستاق... ثم يؤكد النص أن المساعدة الأوروبية تأتي طبقا لما التزمت به تونس دوليا في ندوة باريس من تخفيض نسبة انبعاثات الكربون إلى حدود 2050 نظرا للتغيرات المناخية.

ثم يأتي ما يلي: " إن الطرفين يسعيان لتطوير إنتاج الهيدروجين المتجدد والمواد المستخرجة منه مثل الامونياك في تونس، التي يمكن أن تلبي احتياجاتها الداخلية والطلب الخارجي، مع الأخذ بعين الاعتبار ضرورة حماية مواردها المائية." ... بالنسبة لي، فإن ما ورد في هذه الفقرة خطير جدا لأن ما اعلمه هو ان الامونياك مادة سامة و خطيرة و ملوثة جدا للبيئة. لماذا يسعى الأوروبيون إلى إنتاجها في تونس؟

كما أن إدراج نقطة ضرورة حماية الموارد المائية تؤكد على أن إنتاج الهيدروجين يستنزف هذه الموارد المائية النادرة والشحيحة اصلا. هل أن الطرف التونسي على دراية بذلك؟...

يعرج النص فيما بعد على نقطة أخرى فيقول:" إن الطرفين لهما النية في دراسة إمكانية تقوية التعاون في مجال التزود بالتكنولوجيا الطاقية النظيفة وإنتاج الكهرباء بطريقة مفيدة للطرفين." ... تبقى نية الطرف الأوروبي هي الأساس!!! و يبدو أن الطرف التونسي له ثقة عمياء في هذه النوايا!!!...

يواصل النص:" إن الطرفين اتفقا على أن أهداف الشراكة الاستراتيجية للطاقة تتطلب تعبئة شاملة للموارد المالية بما في ذلك الضمانات التي يجب أن تكون مصحوبة بإصلاحات لازمة تكون في إطار تشريعي مناسب يكون شفاف، مستقر وواضح كي تتمكن تونس من جلب الاستثمارات وتطوير التجارة في قطاع الطاقات المتجددة " ...  إذن، بعبارة اخرى، يشترط الاتحاد الأوروبي تغيير المنظومة القانونية السائدة في مجال الطاقة واستحداث بنية تحتية حتى تقوم بتمويل المشاريع في مجال الطاقة، كما أن الأوروبيين يريدون ضمانات قانونية في هذا المجال... أليس ذلك شرطا مجحفا يكرس الاستعمار الطاقي خاصة إذا علمنا أن الأوروبيين يقايضون المساعدة المالية بضرورة تغيير التشريعات في مجال الطاقة بشكليخدمهم اكثر، مع العلم أن التشريعات الحالية كانت دائما في صالحهم؟ ألم يتفطن مفاوضونا إلى ذلك؟....

يواصل النص فيقول بأن الطرفين يسعيان الى:"- أخذ الإجراءات اللازمة في إطار استكمال التمويل بغية إمضاء اتفاق حول تمويل مسند تحت عنوان : آليات التواصل المشترك مع أوروبا بقيمة 307 مليون أورو." ... كيف سيكون هذا التمويل خاصة و أنه مشروط، حيث أن الطرف الأوروبي يتحدث عن اتفاق تمويل لا يمكن امضاؤه إلا بعد استكمال كل الشروط التي فرضها؟.. ثم يؤكد النص على أن الطرفين اتفقا كذلك على:" - أخذ بعين الاعتبار  البعثات والمرافقة التقنية والمالية اللازمة بغية ضمان استغلال أقصى عندما يدخل هذا المشروع المشترك حيز التنفيذ وذلك بإعداد المستلزمات التي تسبق بداية الاستغلال ( الأراضي، التراخيص، التواصل) لتسهيل الاستثمار في مجال الطاقات المتجددة."...

اسأل مفاوضينا التونسيين: في صالح من، هذا الفصل الوارد في الاتفاق؟ ألم يضعه الأوروبيون على مقاسهم بحيث يخدم مصالحهم و يفسح لهم المجال للاستغلال الفاحش للموارد الطاقية في البلاد؟...

بعد ذلك، يؤكد النص قائلا: " إن مثل هذه التشاركية ستشمل كذلك الآليات والتشاريع اللازمة (هل سيشاركوننا كذلك في وضع القوانين والتشريعات؟!!!!!) لتمكين تونس من تصدير الطاقات البديلة و مواد أخرى للاتحاد الأوروبي." ... نفهم من ذلك أن الاتحاد الأوروبي يضع نفسه كحريف رئيسي واستثنائي لشراء الطاقة وهو ما قد يعني مسبقا أنه سيفرض ثمن الشراء وأن تونس ستجد صعوبة في اكتساح أسواق أخرى قد تكون أكثر فائدة لها،... أليس ذلك نوعا  من التقييد المجحف؟...

يواصل النص  فيقول:" إن الطرفين يؤكدان على أن الشراكة لن تدخل حيز التنفيذ إلا عندما تكون مبنية على خارطة طريق يتم إعدادها ثنائيا، تأخذ بعين الإعتبار البنية التحتية الضرورية لإنتاج الطاقات المتجددة وهو ما يتطلب تعبئة الموارد المالية الأوروبية ومشاركة المستثمرين. "... أليس في ذلك تناقضا و تنصلا أوروبيا مما ورد سابقا ووضع حواجز إضافية لتحقيق هذه المشاريع؟ ...

ثم نقرأ ختاما:" إن ورقة الطريق هذه ستسرع في تحقيق الطموحات التونسية في مجال إنتاج الطاقات المتجددة و يكون ذلك عبر تطوير نجاعة الخدمات العامة والمؤسسات العمومية العاملة في مجال الطاقة (ألم  نقل أن لهم برنامج غير  معلن في علاقة بشركة الستاق!!!!) وكذلك عبر تسهيل الإجراءات الإدارية ووضع الأسس لإدماج تونس في مجال التجارة العالمية للطاقات المتجددة، وبصفة عامة  السعي إلى حثها على  إجراء إصلاح جذري للاطار التشريعي في مجال الطاقة. "...

هذه الجملة الأخيرة من النص تنسف الكلام الناعم الذي سبقه و تكشف جليا النوايا الخبيثة للطرف الأوروبي في هذا المجال....بهذا، ينتهي الباب الثالث الذي قمنا تقريبا بترجمته بصفة كاملة مع محاولة استنطاق ومعرفة خفايا فصوله..  

الباب الرابع: التقارب بين الشعوب..

انطلاقا من الباب الرابع، تتطرق المذكرة إلى جوانب لها علاقة بالبعد الاجتماعي وتنتهي من الحديث المباشر عن الجانب الاقتصادي، وإن كان ضمنيا متواجدا.  ورغم جمال العنوان وبعده الإنساني "التقارب بين الشعوب"،  فإنه يخفي خبثا كبيرا من الطرف الأوروبي الذي أختار في هذا الباب القصير جدا (ثلاث فقرات فقط!!) الحديث عن مسائل عامة يمهد بها للباب الخامس الذي يعنى بموضوع الهجرة و يناقض العديد من الشعارات الموجودة في الباب الرابع... يبدأ هذا الباب كما يلي:" إن كلا الطرفين لديهما النية في مواصلة التعاون لدعم المجتمع المدني و إرساء حوار بين الشعوب وتوطيد المبادلات الثقافية والعلمية والتقنية وذلك عبر المرور إلى تطبيق الشراكة الثنائية الخاصة بالشباب التي أبرمت منذ 2016 وكذلك تطبيق المشاريع الأخرى للاتحاد الاوروبي في مجالات البحث والتعليم والثقافة والشباب، بما في ذلك تطوير المهارات والتنقل." ...

كلام عام و جميل، لكن إن كانت النية سليمة، لماذا سيقع تطبيق ما تقرر في 2016 الآن في 2023, وهل سيرى النور فعلا، مع العلم أننا لا نعلم على ماذا نص هذا الاتفاق؟...

تؤكد الفقرة الثانية أن "الاتحاد الأوروبي يفكر في دعم إضافي للمجالات الآنف ذكرها خاصة في مجال التكوين التقني والمهني في إطار برامج متنقلة لتطوير مهارات اليد العاملة التونسبة في المستوى الوطني، الجهوي والمحلي. كما ان الاتحاد الأوروبي سيواصل جهوده كي يوفق بين الدول الأعضاء في إسناد "تأشيرة شنغن" للإقامات قصيرة الأمد للمواطنين التونسيين." ... بمعنى اخر، تريد أوروبا أن تستفيد من مهارات وخبرات القوى العاملة التونسية دون الإقامة على أراضيها، فتكون الإقامة قصيرة الأمد تنتهي مع انتهاء الأعمال التي يقوم بها العمال التونسيون هناك. أليس في ذلك مكرا كبيرا من الطرف الأوروبي للتمهيد لطرد المهاجرين المقيمين على أراضيها؟..

في الفقرة الاخيرة، يقول النص:" يمكن أن يتجسد ذلك عبر تعاون أكبر في مجالات التعليم والبحث والتجديد بما في ذلك الدعم الممكن توفيره لمشاركة أكثر أهمية في تطبيق البرامج الأوروبية مثل 'افق اوروبا'(مع إمكانية تقوية الدعم الأوروبي في برنامج الشراكة مع تونس في مجال البحث والتجديد)،' ايراسموس' + ( الذي من خلاله تسعى أوروبا إلى البحث وتعبئة مزيدا من الموارد ) و 'أوروبا الخلاقة '."...

ينتهي هنا هذا الباب القصير جدا كاشفا النوايا الأوروبية ووعودها الكثيرة الخالية من أي التزام مباشر.  لكن الهدف من هذا الباب هو التمهيد للباب الخامس والأخير المتعلق بالهجرة والذي سأقوم بتفصيله وترجمة العديد من مقاطعه حتى يعرف القارىء مضامينه... 

الباب الخامس والاخير: الهجرة والتنقل؛

يعتبر الباب الخامس والاخير مفصليا في المذكرة ويمتد على صفحتين تقريبا. ومن خلال هذا الباب، نلاحظ نوعا من التغيير في أسلوب الخطاب، من الطابع اللين والناعم إلى نوع من الإلزامية المفروضة على الجانب التونسي، وهو ما ستبينه المقاطع التي سنقوم بإدراجها في إطار الترجمة الكاملة لكل فقرات هذا الباب المهم و الخطير، حتى يدرك القارىء محتوى ما ورد فيه وتكون له حرية التفكير والتأويل.. ستكون لي كذلك بعض الملاحظات الخاصة ، وللتذكير فإن كل المقاطع المترجمة موضوعة بين ظفرين...

يبدأ النص كالآتي:" إن الطرفين يعلنان نيتهما بلورة مقاربة شاملة للهجرة. فهما يتفقان على أن الهجرة يجب أن تخضع لمعادلة 'هجرة/ نمو' حتى يتسنى تجسيد منافع الهجرة ودورها في النمو الاقتصادي والاجتماعي، في التقارب بين الشعوب و معالجة الأسباب العميقة للهجرة الغير شرعية. وفي هذا الصدد، فإن الطرفين اتفقا على تشجيع النمو المستدام في المناطق المهمشة ذات نسبة الهجرة المرتفعة وذلك بمعاضدة مبدأ تمكين وتشغيل التونسيين الذين يعانون من هشاشة أوضاعهم و ذلك عبر دعم التكوين المهني والبحث عن الشغل والمبادرة الفردية."... يبدو أن إعانة الأوروبيين لن تتجاوز مسألة التكوين ولا حديث عن خلق مواطن شغل حقيقية أو المساعدة في تمويلها وإرسائها!!!.. نمر...

يواصل النص:" إن الطرفين قد وضعا كأولويات مشتركة مقاومة الهجرة غير الشرعية و ذلك لتفادي الخسائر البشرية وكذلك بهدف تطوير الطرق الشرعية للهجرة." ... ثم نمر من الحديث عن التشاركية إلى جملة مسقطة يبدو أنها وضعت مجاملة وإرضاء للطرف التونسي. تقول هذه الجملة: "إن تونس تكرر موقفها الرافض لأن تكون بلد إقامة للمهاجرين غير الشرعيين، كما أنها تؤكد على موقفها القائل بأنها لا تحرس إلا حدودها."...

هنا سأتوقف قليلا لطرح بعض الأسئلة: لماذا لا تشاركنا أوروبا هذا الموقف ولماذا مررنا من صيغة الجمع إلى صيغة المفرد؟ ثم كيف يمكن تأويل الجملة الحصرية كما وردت في النص الاصلي وفي الترجمة في الجملة الاخيرة'؟ هل يعني أن تونس أعطت الضوء الأخضر لأوروبا لتتصرف كما تشاء في علاقة بموضوع المهاجرين الذين يغادرون تونس أو هو تذاكي تونسي سيقع تفنيده مع الأسف في الفقرات اللاحقة التي سنأتي عليها تباعا؟...

يتواصل النص: " إن هذه المقاربة ستكون مبنية على احترام الحقوق الإنسانية وهي تتضمن كذلك مقاومة الشبكات الإجرامية التي تقوم بتمرير المهاجرين وكذلك المتاجرين بالبشر و التي أعلن عنها (اي المقاربة) في افريل 2023 والتي مازالت مضامينها في مرحلة النقاش. كما تدعو المقاربة الى ضرورة التحكم الناجع في الحدود و تطوير نظام استقصاء وعودة المهاجرين غير الشرعيين الموجودين في تونس نحو بلدانهم الأصلية. " ... يبقى كل هذا في إطار العموميات دون وجود أي إجراء عملي!!!...

نواصل:" إن الطرفين اتفقا على مواصلة العمل سويا لرفع التحديات المطروحة بسبب تنامي الهجرة غير الشرعية في تونس والاتحاد الأوروبي وذلك عبر مراعاة المجهودات المبذولة والنتائج المتحصل عليها من قبل السلطات التونسية. فالطرفان اتفقا على العمل من أجل تحسين التعاون في إطار عمليات البحث والإنقاذ في البحر واتخاذ الإجراءات الناجعة لمقاومة مرور المهاجرين والاتجار بالبشر. "...

نأتي إلى الفقرة الموالية:   "إن الاتحاد الأوروبي يحاول توفير سند مالي إضافي و لازم يعنى بالإمكانيات و التكوين والدعم التقني الضروري لتحسين أداء الرقابة في الحدود التونسية "... طبعا يجب أن نفهم أن الأوروبيبن يقصدون الحدود البحرية، لكنهم تركوها معممة وغير محددة عمدا حتى يتمكنوا من تمرير الشيء الذي جاؤوا أساسا من أجله والذي سيرد في الفقرة الموالية التي يمكن اعتبارها أخطر فصل في كامل الاتفاقية.. لنقرأ معا ما يلي :" إن الطرفين اتفقا على دعم أكثر لعودة واستقبال المواطنين التونسيين الموجودين في الاتحاد الأوروبي بصفة غير شرعية إلى تونس،  وذلك في إطار احترام الحق الدولي واحترام كرامتهم وحقوقهم، كما سيعمل الطرفان سويا على ادماجهم الاجتماعي والاقتصادي في تونس، وذلك بالمساعدة في خلق مشاريع اقتصادية محددة يكون لها انعكاس على النمو المحلي وخلق الشغل.

إن الاتحاد الأوروبي سيدعم ويسهل تطبيق ما ورد في مذكرة التفاهم هذه في سياقات ثنائية مع الدول الأعضاء (بالاتحاد الأوروبي ) في علاقة بالعودة وإعادة الإدماج.".... لكم أن تقرؤوا هذه الكارثة التي ستحل على كل تونسي موجود في أي دولة أوروبية في وضعية غير شرعية.. والأدهى من ذلك هو أن الطرف التونسي أعطى الضوء الأخضر  للأوروبيين لطرد وإرجاع كل التونسيين الموجودين في كل دول أوروبا في حالة غير شرعية، مع وعود واهية بالإدماج والتشجيع وغيرها من الأكاذيب الأوروبية التي لم تعد تنطلي على أحد باستثناء الطرف التونسي المفاوض الذي ابتلع الطعم بسهولة مصدقا كل الترهات الأوروبية..

فكيف يقبل الطرف التونسي بمثل هذه النقطة القاتلة؟ ماذا فعلت السلطة التونسية بالمهاجرين الذين وقع ترحيلهم مؤخرا من إيطاليا عبر مطار طبرقة غير أنها تركتهم في حال سبيلهم وأعادتهم إلى نقطة الصفر؟.. يبدو أن الأوروبيين نجحوا في تمرير ما أرادوه بموافقة تونسية ترتقي حد الخنوع!!!...

نمر إلى الفقرة الموالية حيث نقرأ : "إن الطرفين اتفقا كذلك على دعم عودة المهاجرين غير الشرعيين  الموجودين في تونس إلى بلدانهم الأصلية في إطار الحقوق الدولية واحترام كرامتهم " ثم نقرأ:" إن الطرفبن اتفقا على تشجيع المسالك الشرعية للهجرة، بما في ذلك فرص العمل الموسمي وعلى تشجيع التنقل الدولي لأصحاب الاختصاصات ودعم التعاون في مستوى تطوير الكفاءات بطريقة تخدم الطرفين.".. كلام خاوي من طرف الأوروبيين يكرس فقط مبدأ الانتقائية في الهجرة وهو ما سيزيد حتما من هجرة الإطارات العليا والكوادر والأدمغة في مقابل تفقير تونس من هؤلاء !!!...

نأتي الآن إلى لفقرتين الأخيرتين:" إن الاتحاد الأوروبي يسعى إلى أخذ الإجراءات  اللازمة لتسهيل التنقل القانوني بين الطرفين وذلك بتسهيل إسناد التأشيرات عبر تقليص مدة الحصول عليها وكلفتها والإجراءات الإدارية. "... لكن يبقى إسناد التأشيرات قرارا سياديا من الاتحاد الأوروبي وهذا كلام لا يغني ولا يسمن من جوع بالنسبة للتونسيين بحيث لا يحصل على التأشيرة إلا قلة قليلة بعد رحلة عذاب شاقة ومكلفة ومضنية!!!...

ختاما، نقرأ في آخر فقرة:" إن الطرفين اتفقا على العمل على إرساء شراكة مواهب لتشجيع الهجرة الشرعية لصالح الطرفين، وذلك بحسب حاجيات تونس والدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي في علاقة بالأنشطة والمهن التي يقع تحديدها بصفة ثنائية."... بعبارة أخرى، لن تكون إلا هجرة انتقائية ووقتية تنتهي بانتهاء العمل....

وقعت المصادقة عليها بتونس في 16 جويلية   2023 في نسختين...

هنا تنتهي مذكرة التفاهم... أرجو أن تكون الأمور قد توضحت للرفاق والأصدقاء الذين طلبوا مني توضيحات حول نص الاتفاق... لكم الآن ولكل من قرأ نص هذه الاتفاقية الحرية في التقييم والتأويل... ولكني أعتقد أن الاهم هو التفكير في حلول للخروج من المأزق التي نضع فيها أنفسنا في كل مرة من أجل أجيال قادمة يبدو أننا نضع لها ارثا ثقيلا ومستقبلا معتما....