حجز الاجور قرار جائر كشف مرة أخرى الاستهانة بالمرأة المعلمة كاضعف حلقة في المنظومة
الشعب نيوز/ ريبورتاج صبري الزغيدي - لم يشهد قطاع التعليم الاساسي في تونس توترا واحتقانا مثلما يعيشه خلال هذه الفترة بسبب المظلمة التي سلطتها وزارة التربية على المعلمين وصراعها مع الجامعة العامة للتعليم الاساسي.
فحتى في عهود الاستبداد السابق ةورغم لن الفتيل اشتعل اكثر من مرة بين الطرفين لكنه لم يبلغ درجة احتجاز رواتب المعلمين وإعفاء مديري مدارس من مهامهم.في اتجاه التجويع والاخضاع وفرض الاذعان بالقوة.
سبب الخلاف هذه المرة يعود الى شكل نضالي غير مسبوق تمثل في حجب أعداد التلاميذ على ادارات المدارس ومن خلاله على الوزارة كحركة احتجاجية من المعلمين للمطالبة بحلّ عدد من الملفات المهنية والاجتماعية العالقة منذ فترة طويلة.
قرار احتجاز الرواتب أثار موجة غضب عارمة في اوساط المعلمين والمعلمات الذين يواصلون احتجاجاتهم، واعتبروا ذلك قطعا لأرزاقهم وضربا لرغيف خبزهم في ظل أزمة اقتصادية واجتماعية غير مسبوقة تعيشها البلاد وارتفاع مهول في الاسعار وندرة المواد الاساسية.
قرار مسؤول
ومعلوم أن الهيئة الادارية القطاعية قررت، الاحد 23 جويلية الجاري، رفع قرار حجب الاعداد، وهو قرار مسؤول، جاء من زاوية مسؤولية الطرف النقابي في حماية مصالح منظوريه ومكاسبهم وحقوقهم المادية والمعنوية، وجاء في اطار استراحة المحارب من أجل التقييم والتقويم ورسم الخطط النضالية الملائمة في المرحلة القادمة.
في المقابل فان القرار الوزاري ا، إن نُفّذ، سيكون له تأثيرات سلبية على المعلمة - المرأة- أكثر من المعلم - الرجل - بالنظرالى ان المرأة العاملة في تونس تُعتبر الحلقة الاضعف في السلسلة المهنية والشغلية، بما أن لها مسؤوليات داخل أسوار المدرسة الى جانب مسؤولياتها العائلية، ليُعمّق هذا القرار من وضعيتها الاجتماعية الرديئة أصلا، وليزيد من المعاناة التي تعيشها المرأة العاملة في تونس.
أحلام( اسم مستعار فضلت عدم الكشف عن اسمها الحقيقي)، تعمل مدرّسة في احدى المدارس العريقة بولاية صفاقس منذ أكثر من 15 سنة، متزوجة ولها طفلان (7 و4 سنوات)، زوجها عاطل عن العمل منذ أكثر من سنتين، بالتالي فإن أحلام هي العائل الوحيد لعائلتها، وهي الوحيدة التي تتحمّل المسؤولية في كل شؤون المنزل...
أحلام تتحدث عن قرار احتجاز مرتبها من قبل وزارة التربية لأنها التزمت بالقرار النقابي الداعي لحجب أعداد الامتحانات قائلة للشعب نيوز بمرارة:" لقد نزل عليّ خبر القرار كالصاعقة، أنا انتظر هذا المرتب الهزيل الذي يقنطع منه البنك 500 دينار قبل أن اناله، وهو أصلا لا يكفي حتى لخلاص معاليم كراء المنزل ومصاريف الاكل والشرب، وتعلمون ان الاطفال لهم شهواتهم خاصة في فصل الاصطياف، دون ان اتحدث عن زوجي العاطل عن العمل الذي يجب ان اقف الى جانبه وأعينه في محنته حت يتخطّي الظروف الصعبة التي يعيشها هذه الفترة".
أحلام أكدت انها كانت في مستوى مسؤولية تعليم التلاميذ المنوطة في عهدتها ومنضبطة في عملها، وقدمت هذه السنة مجهودا كبيرا لتضمن التحصيل العلمي اللازم لتلاميذها، ولم تبخل بأي قطرة عرق تجاههم، وكانت مرافقة ومؤطرة لهم طيلة السنة الدراسية رغم مشقّة المهنة ومتاعبها والتزاماتها العائلية الاخرى.
نطلب منها الكثير مقابل القليل
لكن مثلها مثل عشرات الالاف من المعلمين فهي تطالب بتحسين اوضاعها المادية والمعيشية، لأن المدرّس الذي ننتظر منه تقديم الكثير للتلاميذ عليه ان يعمل في ظروف مادية محترمة لشروط العمل اللائق.
ولخصت أحلام قصتها قائلة " ماذا سأفعل مع البنك ومالك المنزل ومع أطفالي وزوجي وديوني المتراكمة مع الناس في ظل احتجاز الوزارة لمرتبي، حسبي الله ونعم الوكيل".
فدوى، (اسم مستعار وهي بدورها فضّلت عدم الكشف عن اسمها الحقيقي)، معلمة في مدرسة بجهة "خزندار" بتونس العاصمة منذ 20 سنة.
فدوى مطلقة منذ ثلاث سنوات ولها ثلاثة أبناء (14 و10 و8 سنوات)، وهي حاضنة للأطفال بحسب قرار الطلاق.
هي تشكو منذ بداية طلاقها من خلافاتها المتكررة مع طليقها الذي لم يكن ملتزما في دفع النفقة التي أقرّتها المحكمة، وهي تعاني طوال الشهر الامرّين في تدبير شؤون المنزل والاطفال ودراستهم وما يتطلبه ذلك من مصاريف كثيرة، فضلا عن قرض البنك الذي يُقتطع شهريا من مرتبها.
وتتساءل فدوى قائلة للشعب نيوز: "كيف لمعلمة مثلي تشقى وتتعب طول النهار مع التلاميذ في المدرسة ثم مع الاطفال في المنزل ومراجعة دروسهم وتدبير شؤون المنزل من كنس وتنظيف وطبخ وايصال الاطفال الى مدارسهم، والجري بعد ذلك وراء الحافلات التي لا تأتي في مواعيدها، مع نفقة لا يلتزم طليقي في مواعيدها، كيف لمعلمة مثلي أن تقوم بكل ذلك ووزير التربية احتجز مرتبها لأنها ببساطة تدافع عن حقوقها المادية والمعنوية".
الحلقة الاضعف
قصتا أحلام وفدوى هما عينة من معاناة الاغلبية الساحقة من المعلمات في تونس اللاتي يواجهن شهر جويلية دون مرتبات، كعقاب لهن، الى جانب زملائهم المعلمين، من قبل السلطات ، بسبب اضطرارهن لحجب أعداد التلاميذ على الوزارة للمطالبة بتحسين أوضاع المعلمات والمعلمين الذين يعتبرون في اسفل سلم التأجير في تونس رغم المهنة الشاقة التي يمتهنونها.
وتجدر الملاحظة، الى أن قطاع التعليم الأساسي في تونس قطاع نسوي بامتياز إذ تمثل نسبة المدرّسات فيه حوالي 70% من عموم المدرسين بالقطاع.
وفي تصريح للاخت امال الرضواني عضوة الجامعة العامة للتعليم الاساسي حول موضوع معاناة المعلمات في ظل احتجاز مرتباتهن قالت للشعب نيوز إن المرأة المربية في تونس تعيش في مجتمع ذكوري بامتياز، وتقوم بكل ما تستوجبه المهنة وهي كذلك المسؤولة الإولى عن رعاية الأسرة والأبناء والقيام بشؤون البيت.
وأبرزت محدثتنا أنه بالإضافة إلى مشقة مهنة التدريس في تونس داخل القسم وما تلعبه المعلمة من أدوار داخل أسوار المدرسة، فهي المدرّسة وهي كذلك الأم.
تقول الاخت امال الرضواني: " إذا ما احتاج احد التلاميذ الى شيء، قستجد أن معلمته هي التي تعقد خيوط الحذاء كي لا يتعثر، وتلبسه المعطف حتى لا يمرض عند خروجه من القاعة، وهي الحريصة عليه في الساحة حتى لا يصيبه مكروه، وإن حصل فهي المسعفة له وعند عودتها للبيت تعود بحزمة من الكراسات والفروض للإصلاح وتحرم نفسها من الترفيه لتعدّ دروس الغد، إضافة الى قيامها بشؤون البيت ورعاية الأطفال ومساعدتهم على مراجعة الدروس".
وتضيف الاخت امال الرضواني : "إن المعلمة المسؤولة بالدرجة الأولى وفي أحيان كثيرة هي وحدها المسؤولة، تعاني المدرّسة من مشقّة المهنة وهي تتعامل مع أطفال لهم سلوكات مختلفة واهواء متنوعة في بيوتهم ويعيشون أوضاعا أسرية مختلفة تؤثر على سلوكهم داخل الفصل ومع ذلك لا يوجد أي قانون تأديبي لفرض الانضباط، وتعاني من شقاء الالتزام الأسري في عائلة تنتمي لمجتمع ثقافته ذكورية وهي في نفس الوقت مطالبة بصرف أجرها كاملا لصالح الأسرة إذ لا مصاريف خاصة بها للترفيه فهي ليست كالرجل يمكن أن تقضي بعض الوقت في المقهى مع الأصدقاء لتنسى شقاء العمل اليومي".
محدثتنا أكدت ايضا ان الاجور في التعليم الاساسي لا تفي بحاجيات المعلمة وحاجيات أسرتها، إذ في أحيان كثيرة تجدها العائل الوحيد لعائلتها الصغيرة ولوالديها وإخوتها إذا كانت تنحدر من أسرة بسيطة ومتواضعة وبحاجة للمساعدة.
للعلم فإنه منذ افتتاح مدارس الترشيح، شجعت العائلات بناتها على اختصار الطريق في الدراسة ثم العمل والزواج، ومنذ بضعة عقود وخلال هذه السنوات صارت العائلات تجبر بناتها للتوجه الى شعبة التربية والتعليم رغم حصولهن على معدلات ممتازة عند اجتياز الباكالوريا، وذلك بهدف ضمان التخرج بعد ثلاث سنوات وضمان العمل.
وتنحدرالأغلبية الساحقة من المتخرجات من هذه الشعبة من أوساط اجتماعية بسيطة، وعائلاتهن بحاجة لمساعدتهن المادية وتحمّل مصاريف اخوتهن الذين ما زالوا يزاولون تعليمهم أو حتى العاطلين عن العمل.
في الصفوف الامامية
الاحتجاجات في قطاع التعليم الاساسي تواصلت في اغلب محافظات البلاد، وستتواصل ايضا بعد العطلة وقد تبلغ حتى مقاطعة السنة الدراسية المقبلة.
وفد احتلت المرأة المعلمة الصفوف الامامية في هذه الاحتجاجات الى جانب زملائها الرجال، وفي اغلب الهتافات في المسيرات الصوت الاغلبي المسموع هو صوت النساء المعلمات.
هنّ رفعن شعارات حول الكرامة والحقوق، وندّدن بما اتّخذته وزارة التربية من إجراءات لا قانونية ولا أخلاقية غير مسبوقة، هدفها التنكيل بالمدرّسات والمدرّسين وتجويعهم ومحاولة إذلالهم من خلال حجز أجور أكثر من 17 ألف معلّمة ومعلّم وإعفاء ما يقارب 350 مديرة ومدير.
كما نددن بالتصريحات التي اعتبرنها لامسؤولة الصادرة عن وزير التربية بنعته المعلّمات والمعلمين بالمغامرين والمجرمين وتحريض الأولياء والرأي العام ضدّهم والمغالاة في التهجّم عليهم بما يسيء إلى سمعة المربّي ويزعزع الثقة في المدرسة العمومية.
مطالب لا تنازل عنها
تتلخص مطالب المعلمات والمعلمين، او ما اصطلح على تسميتهم بجيش الطباشير، في تطبيق اتفاقات التزمت وزارة التربية سابقا بتطبيقها لكنها تنكرت لها فيما بعد، وهي اتفاقات تخص تحسين الاوضاع المادية وتحسين الاجور، الى جانب مطالب بتسوية وضعبات المعلمات والمعلمين الذين يعملون بشكل هشّ واصلاح المسارات المهنية، ومطالب أخرى تهم تطوير البنية التحتية للمدارس والتصدي لظاهرة العنف المسلط على الاطار التربوي ومقاومة الانحراف في الوسط المدرسي علاوة على اصلاح المنظومة التربوية والمدرسة العمومية ككل.
لكن الظاهر، ان هذه الملفات مازالت تراوح مكانها، ولم تتحلّ السلطات الى حد الان بالارادة اللازمة لتنقية المناخ الاجتماعي المحتقن التي تشهده مدارس تونس، وهي تمارس سياسة دولة قوامها العداء للحوار الاجتماعي وللتشاركية.