قراءة في حركة 25 جويلية التصحيحية ( 1) : تأويلات متباينة للدستور
بقلم سالم الحداد/ باحث ومؤرخ
إن 25 جويلية2021 حدث مفصلي في تاريخ الثورة التونسية ككل الثورات العميقة التي تحتاج إلى تصحيح مسارها بعد مسافة زمنية تكون فيها عرضة للانحرافات، لذا على نُخبنا أن تتعامل معه بروح نقدية دون السقوط في الترذيل المجاني للآخر أو التمجيد الجزافي للفاعلين الجدد. علينا أن نفهم لماذا وقع؟ كيف وقع؟ ماهي تداعياته في المستقبل المنظور والمتوسط والبعيد؟ ماذا علينا أن نفعل لدعم مسيرة التصحيح؟
تحت جمر الأحداث أجازف بتقديم هذه المقاربة علّها تساعد على إدراك ما حدث بل على تصور ما سيحدث، وصولا إلى الجمهورية الثالثة، فكيف ستكون خارطة الطريق الممهدة لإرساء قواعدها؟ فالأمم الحية لا يهمها ان تعرف الماضي كيف كان إلا بقدر ما يساعدها ذلك على معرفة ما يجب أن يكون.
مرت تونس خلال عشر سنوات بأزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية حادة ومتصاعدة انحرفت بمسار الثورة فأفضت إلى حركة 25 جويلية 2021التصحيحية تُرى فيم تتمثل سردية هذه الحركة؟ ما هي رمزية 25جويلية؟ هل ما حدث هو مجرد انقلاب؟ أم انقلاب دستوري؟ أم إجراء استثنائي دستوري؟ ما هي العوامل الحافزة لمغامرة التصحيح؟ ما هي نتائجها المباشرة؟ كيف كانت ردود الفعل الوطنية والمحاور الإقليمية والدول النافذة؟ هل انتهى النظام البرلماني؟ ما هي إشكالات حركة التصحيح؟ هل نحن أمام الجمهورية الثالثة؟ أي نمط ديمقراطي سيختار الشعب؟
I ــ رمزية 25جويلية
صار يوم 25جويلية يحمل رمزية للتحول فقد وقعت 4 تحولات انطبعت في ذاكرة المجتمع لا تمحي بسهولة. ففي 25 جويلية 1957 تحوّلت تونس من نظام ملكي إلى نظام جمهوري رغم الأساليب غير الإنسانية التي وقع توخيها مع العائلة المالكة، وفي 25 جويلية 2013استشهد المرحوم محمد البراهمي وقبله المرحوم شكري بلعيد وفي 25جويلية 2019 توفي المرحوم الباجي رئيس الجمهورية. وكان يوم25 جويلية2021 لحظة مفصلية في تصحيح مسار الثورة اعتبرته المنظومة الحاكمة انقلابا فهل كان كذلك؟
II ــ هل هو مجرد انقلاب؟أم انقلاب دستوري؟أم إجراء استثنائي دستوري؟
لست مؤهلا للخوض في مفاهيم الانقلاب الدستوري وقراءات الفصل 80. لقد كفانا فقهاء القانون الدستوري بحثا بل تحوّلت هذه المفاهيم المستعصية علميا في الجامعات إلى مجال للنقاش في المقاهي والحوانيت والمنازل فضلا عن الأحزاب والجمعيات والمنتديات، وهذا مكسب من مكاسب الثورة بعد 55 سنة من الأمية السياسية. لكن سأستعرض بعض التجارب الانقلابية التي وقعت في تونس وفي الوطن العربي والتجارب التي مارسها الإسلام السياسي أو التي كان ضحية لها.
أولا ــ الانقلابات على المستوى الوطني
تعرضت تونس خلال حكم بورقيبة إلى محاولتيْ انقلاب: الأولى فاشلة والثانية ناجحة
1 ــ الاولى الفاشلة : سمّاها أصحابها بحركة التصحيح وسماها النظام مؤامرة. قام بها إطارات الجيش والمقاومون، على اثر معركة بنزرت 1962 متهمين بورقيبة بالتضحية بهم في معركة خاسرة لاسترجاع زعامته المتآكلة، ذهب ضحيتها العديد من رموز الكفاح الوطني شنقا والعديد من القيادات العسكرية الكفأة رميا بالرصاص
2 ــ الثانية الناجحة: أطلق عليها أصحابها التحول وسُميت بالانقلاب الدستوري لأنها استندت إلى الفصل 56 من دستور1959 الذي يُخوّل لرئيس الحكومة تولي الحكم في حالة شغور الرئاسة لاستكمال العهدة. نهض بها الوزير الاول معتمدا المؤسسة الصحية التي أثبتت عجز بورقيبة على الحكم والمؤسسة القضائية التي شرّعت الانقلاب والقوات الحاملة للسلاح التي نفذته، فكان الانقلاب أبيض دون دماء، فأُطلق عليها الانقلاب الناعم حيث لم تسل فيها الدماء وأنقذ بها ابن علي حكم بورقيبة المنهار وضخّ فيه دما جديدا جعله يستمر 23 عاما أخرى، وتصور عامة الشعب انه سيُحدث تغييرا إصلاحيا لكن تبيّن ان حكم ابن علي هو استمرار لحكم بورقيبة وان تغيرت التسمية من المجاهد الأكبر ومحرر تونس إلى صانع المعجزة الاقتصادية ،والفرق بينهما يكمن في أمرين:
أــ أن حكم بورقيبة :كان أقل فسادا لكنه أشد استبدادا سالت فيه الدماء بغزارة طال كل من عارضه من القوميين واليسار والنقابيين والمطالبين بلقمة العيش والإسلاميين بل المخالفين له من الدستوريين.
ب ـ إن حكم ابن علي كان متوغلا في الفساد لكنه اقل استبدادا إلا مع الإسلاميين الذي يرى فيهم خطرا يهدد نظامه فعمل على إقصائهم حسا ومعنى.
ثانيا ــ الانقلاب على المستوى العربي
1 ــ الإسلام السياسي فاعل في الانقلاب العسكري: تجربة السودان
سنة 1989 استولت الجبهة القومية الإسلامية على الحكم قي السودان في انقلاب قاده الضابط عمر البشير والشيخ حسن الترابي، أقصى الخصوم السياسيين واستمرت طوال ثلاثة عقود في الفترة بين 1989 و2019.وانتهى حكمهم إلى تقسيم البلاد والتفريط في جنوب السودان واتهام محكمة الجنايات الدولية لعمر البشير بالإبادة الجماعية في" دار فور" وإفلاس الدولة مما اضطر الحكومة الحالية إلى الخضوع للشروط الدولية والموافقة على تسليمه والاعتراف بالكيان الصهيوني
2 ــ الإسلام السياسي ضحية الانقلاب العسكري: تجربة مصر
كان الإسلام السياسي في صيغته الإخوانية في مصر ضحية انقلاب عسكري في بداية جويلية2013 قاده الضابط عبد الفتاح السيسي ضد حكم الإخوان المسلمين بقيادة محمد مرسي ،ذهب ضحيته ألاف من الإخوان بين قتيل وجريح ومعتقل في اعتصام بميدان رابعة العدوية، وقد عُزل الرئيس المنتخب وسجن ومات في سجنه وهوعمل مدان ولا يمكن تبريره. وصاريُرمز إليه بأربعة أصابع لكن الإسلام السياسي لم يستفد من هذه التجارب ولم يقم بمراجعات سياسية أولم تكن له القدرة على فعل ذلك.ولم يخرج عن هدف التوقع والغنيمة.
III ــ تجاوزات الإسلام السياسي لروح الدستور
كانت النهضة هي الحمامة المطوقة في الشرعية الانتخابية الأولى وهي التي صاغت أغلب فصول الدستور، لكنها كانت أول من اخترق روحه قبل صياغته ووظفه لخدمة أهدافه السياسية وتجسد ذلك بوضوح في:
أولاـ تسليم السجين البغدادي المحمودي لنظام تحكمه السلفية الجهادية.
ثانياـ عقد مؤتمر أنصار سوريا الاستعماري بتونس لشرعنه تدمير الدولة السورية وتمرير مشروع الشرق الأوسط الجديد
IVــ الدستور بين أيدي الإسلام السياسي والثورة المضادة
كنت من المتابعين لأنماط الخطاب السياسي في تونس وهي يعكس إلى حد بعيد مواقف الأطياف السياسية من بعضها ولأول مرة أسمع السيد نور الدين البحيري وهو يترحم على الحبيب بورقيبة ويدعو له بعد أن كان هذا الطيف يدعو عليه طوال عقود ويتهمه بمحاربة الإسلام . فهو الذي بنى الدولة التي صارت مهددة بعد25 جويلية 2021 فما سرّ هذا التحول المفاجئ؟
أولا ــ لابد أن أشير إلى أن بورقيبة لم يبن الدولة فهذه عمرها 3000 سنة منذ قرطاج وإنما عمل على إعادة صياغتها بما يتلاءم مع نرجسيته وحكمه الفردي فافتعل الشرعية التاريخية لتغييب الشرعية الانتخابية
ثانيا ــ كان الطيف الإسلامي يدعو عليه لأنه حال دون وصوله للسلطة بل عمل على إقصائه من الساحة الوطنية حسا ومعنى
ثالثا ـــ صار الطيف الإسلامي يدعو له لأن بورقيبة صار آلية لحشد المغفلين الذين مازالوا يستبطنون زعامته ثم لأن الإسلام استنسخ تجربته في السلطة وهو ما يسميه علماء النفس والاجتماع << عقدة إعجاب الضحية بالجلاد>>.
كانت الثورة مفاجئة لكل الفعاليات السياسية ولم تكن مهيئة للحكم .
عندما تسلمت النهضة السلطة استنسخت تجربة بورقيبة في السلطة ويمكن الإشارة إلى تجلياتها في النقاط التالية :
أـ الاستقلال غنيمة لأنصار بورقيبة 1956والثورة غنيمة لأنصار النهضة 2014
ب ــ السيطرة على مفاصل الدولة في المرحلتين وخاصة في الوزارات السيادية الدفاع والداخلية والخارجية والعدل
ج ـــ الاستقواء بدولة أجنبية نافذة ، فرنسا لنظام بورقيبة وأمريكيا للنهضة، فالقناعة السائدة لديهما هي ضرورة الاحتماء بمظلة عالمية واقية
د ـــ التفويض للزعيم، فالشخصية الكاريزمية لا تناقش فسلطتها المطلقة تتجاوز الدستور والقوانين. هذا التمشي هو الذي يقع انتهاجه في أغلب المؤتمرات الحزبية الدستورية والنهضوية. تجلى ذلك بوضوح في مؤتمرين يعرفهما الشعب هما : مؤتمر للدستور1971 والمؤتمر العاشر للنهضة إن هذا التماثل فى الأهداف بين الثورة المضادة والإسلام السياسي هو الذي دفعها إلى الوفاق المغشوش بعد الشرعية الانتخابية الثانية سنة 2014 فقد اتفقا على تجاوز الدستور في أكثر من مناسبة أذكّر بالبعض منها العديد من النقاط :
ــ تعيين الباجي للحبيب الصيد من خارج حزبه الفائز لأنه توقع أن يكون أشد انضباطا له من محسن مرزوق الشرس
ــ الاتفاق على تكوين تنسيقية قرطاج الأولى والثانية خارج الإطار البرلماني الإطاحة بالحبيب الصيد أول رئيس حكومة غير حزبي نزيه لفسح المجال للمقربين والتي كانت سببا في سقوط النداء
ــ الاتفاق بينهما على تغييب المحكمة الدستورية طوال العهدة الانتخابية الثانية 2014 - 2019 حتى لا تحدّ من نفوذهما
ــ تمرير قانون العفو على الفاسدين متجاوزين ما نص عليه الدستور.
وما حصل بين النهضة والنداء تكرر في نسخة ثانية بين النهضة وقلب تونس.
هذه التجاوزات تجلت بشكل أوضح مع بداية العهدة الانتخابية الثالثة بين الحزام البرلماني الأغلبي والرئيس سعيد حول الإشكالات التي طرحت مع حكومة مشيشي وبالتحديد:
Aـ خلفية إنشاء المحكمة الدستورية : هل هو استكمال للمسار الديمقراطي كما يدعى الحزام الحكومي؟ أم هو للمغالبة ونزع الشرعية عن قيس سعيد لتأويل الدستور والانتهاء بسحب الثقة منه وعزله كما ترغب الأغلبية البرلمانية؟
Bــ رفض قيس سعيد أداء القسم لعناصر حكومية عليها شبهة فساد في حكومة مشيشي مما جعلها معطلة.
هكذا يتضح أن نصيب احترام الدستور والقوانين في تونس محدود جدا فالأغلبية تعتبره خرقة بالية لتنظيف الواجهات وتلميع صورتها ثم ترمي بها. حينئذ يجب أن نبحث لما وقع في تونس خارج الدستور، في العلاقات المجتمعية كيف كانت؟ كيف تعاطى معها الشعب؟ هل لها علاقة مباشرة أو غير المباشرة بما حدث؟
ملاحظة هامة : الآراء الواردة في المقال لا تلزم الا صاحبها.