لماذا تنزعج الجزائر من توجه تونس إلى الخليج وهي التي انتظرت وعودها عامين كاملين؟
إذا كانت الجزائر تريد البحث عن "حماية مجالها الحيوي" في الإقليم فلن يكون ذلك سوى بالاستثمار والمشاريع والخروج من مربع الوعود.
لا يُعرف إن كانت مهمة وزير الخارجية التونسي نبيل عمار إلى الجزائر قد أفضت إلى نتيجة ملموسة، فالرجل التقى الرئيس عبدالمجيد تبون ولم يأخذ معه صورة ولم يتم بث اللقاء في وسائل الإعلام الرسمية الجزائرية عدا خبر قصير منسوب إلى مصدر جزائري يقول إن تبون التقى عمار ولم يذكر تفاصيل عن فحوى الرسالة التي بعثها له قيس سعيد أو موضوع المباحثات.
وقال بيان لوزارة الخارجية التونسية إن عمار التقى نظيره الجزائري أحمد عطاف وأنهما “اتفقا على ضرورة استنباط آليات تعاون ثنائي جديدة تستجيب إلى التطلعات المنتظرة لقيادتي البلدين والشعبين الشقيقين بما يُسهِمُ في إدخال مزيدٍ من الديناميكية على التّعاون الثنائي التونسي الجزائري”.
واضح أن شيئا لا يمر بين البلدين، وأن المبعوث التونسي الذي ذهب لإذابة الجليد لم يفلح في ذلك، وهو ما يفسره التكتم الإعلامي الجزائري عن الزيارة، في موقف قد يكون يهدف إلى التقليل من نتائجها وسقف التوقعات بشأنها، خاصة أن هذا الإعلام شهد انفلاتا في انتقاد تونس في الفترة الأخيرة.
انفلات بضوء اخضر
ولا شك أن هذا الانفلات ما كان ليحصل لولا وجود ضوء أخضر من جهة ما داخل السلطة، فأغلب هذا الإعلام مرتبط بها ولا يمكن أن ينفذ أجندة خاصة من مثل استهداف تونس التي قال تبون مرارا إنها حليف مهم.
الحملة الجزائرية على تونس سلكت طريقا مغايرا، فلم تستهدف قيس سعيد في ذاته، ولا انتقدت بشكل مباشر تحركات تونس الإقليمية لبناء علاقات جديدة، ولكن ذهبت إلى اتهام كلاسيكي جزائري يُلقى بوجه من يختلف مع النظام في الداخل والخارج، وهو الارتباط بالصهيونية.
تحدث هذا الإعلام عن أن الجارة واقعة في شراك “مخطط التطبيع مع إسرائيل الذي يستهدف محاصرة الجزائر، ومحاولة الاستثمار في الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي تمر بها تونس، من أجل ثنيها عن مواقفها التقليدية من القضية والضغط عليها لإبعادها عن عمقها الإستراتيجي المتمثل في الجزائر”.
هذا الأسلوب يوحي بأن تونس" دولة قاصر"، وأن ثمة من يفكر لها ويجرها إلى التطبيع. وهذا أسلوب جزائري قديم في النظر إلى تونس وكأنها لا تقدر على التحرك بمفردها، وأنها إذا ابتعدت عن الجزائر فإن “الاستعمار” هو من يصوغ مواقفها.
لا تطبيع ولا هم يحزنون
لا شك أن تهم التطبيع لا يمكن أن ترمى على تونس، فخلال عقود ماضية كان النظام الجزائري يسحب هذه الورقة في كل حملة ضدها، لكن في النهاية يكتشف الناس أنه لا وجود لتطبيع ولا هم يحزنون، وتونس تحافظ على موقف متوازن من البداية في الموضوع الفلسطيني، واضطر الجميع للحاق بها واعتماد مقاربتها أرضية لمسار السلام.
يمكن أن تدخل الجزائر لانتقاد قيس سعيد من زاوية أخرى غير موضوع التطبيع، لأن التونسيين يعرفون الرجل ومواقفه في الموضوع، هذا أولا.
وثانيا أن تونس فيها ما يكفيها من أزمات ومشاكل ما يجعل اهتمامها موجها إلى البحث عن الحلول وليس اجتراح قضية جديدة لا اتفاق حولها ويمكن أن تضفي إلى تعقيد الأزمات. كما لا توجد مؤشرات عليها، لا لقاءات، ولا تسريبات، ولا تصريحات، سوى اتهام جزائري جاهز منذ الستينات يطلق في كل اتجاه.
وثالثا أن الجزائر كان يمكن أن تقف إلى جانب قيس سعيد وتدعمه بالتمويل والاستثمارات بما يمنع “مخطط التطبيع مع إسرائيل”، ويفشل مساعي الجهات التي “تجر” تونس وتسعى لإبعادها عن “عمقها الإستراتيجي المتمثل في الجزائر”.
وطالما أن الجزائر لديها ما يكفي من الأموال التي وهبها لها الله دون تعب ولا نصب من عائدات النفط والغاز وتنفق بعضها لـ”تنمية أفريقيا”، أو كعربون دخولها إلى بريكس، فما الذي منعها من أن تمنح قيس سعيد قرضا في حجم ما يعرضه عليه صندوق النقد الدولي، وهي يتعرف أن الرجل يتجنب هذا الخيار لتأثيراته السلبية على شعبيته.
وقتها بالتأكيد، فإن الرئيس التونسي سيجد نفسه موضوعيا حليفا للجزائر وصديقا لتبون ولا يحتاج إلى أن يتجه إلى غيره للبحث عن تمويلات.
انتظار دام عامين كاملين
الحقيقة أن الجزائر منزعجة من قيس سعيد، الذي كانت تعتقد أن وضعه لن يسمح له بأن يخرج عن طوعها. لكن الرجل، وبعد أن انتظرها لعامين، ذهب يبحث عن حلول لبلده باتجاه أوروبا وباتجاه الخليج، ووقّع اتفاق شراكة إستراتيجية مع الاتحاد الأوروبي كانت الجزائر تخطط لأن يكون عن طريقها وبالشراكة مع إيطاليا.
وما أثار الجزائر أكثر أن قيس سعيد أرسل وزيره للخارجية إلى الخليج للبحث عن الدعم والاستثمارات، وحصل على وعود جدية من السعودية والإمارات.
وتم الاتفاق على مشاريع فعلية من خلال زيارة مسؤولين خليجيين إلى البلاد، كان آخرها زيارة وزير الدولة الإماراتي الشيخ شخبوط بن نهيان آل نهيان الذي أكد خلال استقباله من الرئيس التونسي “توجيهات القيادة الإماراتية وحرصها على مواصلة مساندة تونس في عدة ميادين وتوفير الدعم الضروري لتجاوز التحديات التي تواجهها”.
وقال الشيخ شخبوط إن “الوفد الذي يرافقه في هذه الزيارة سيتولى التنسيق مع الجهات التونسية المعنية من أجل تحديد مشاريع مشتركة في عدة مجالات للبدء في تنفيذها في أقرب الآجال”.
ما الذي يدفع الجزائر إلى الغضب من الوجود الاستثماري الخليجي في تونس، وبالذات الاستثمار الإماراتي. الخوف مرده أنها لا تقدر على المنافسة.
استثمار غائب تماما
مع العلم أن الاستثمار الخليجي كان دائما الاستثمار الأهم في تونس قياسا باستثمارات دول الجوار، ولا يمكن مقارنته بالاستثمار الجزائري الغائب تماما.
وإذا كانت الجزائر تريد البحث عن “حماية مجالها الحيوي” في الإقليم، فلن يكون ذلك سوى بالاستثمار والمشاريع والخروج من مربع الوعود، خاصة أن الوقت تغير كليا، وصار العالم يتنافس على استقطاب الاستثمارات الخليجية، فما الذي يمنع تونس من أن تجرب حظها وتستعيد الاستثمار الخليجي الذي انكفأ بعد الاضطرابات التي سادت بعد ثورة 2011 وغياب أفق الاستقرار السياسي وقتها.
لا يمكن أن تلوم بلدا لأنه يبحث عن مصالحه، وينوّع شراكاته خاصة مع حلفاء تقليديين له.
لكن تبقى الجزائر هي الأقرب، وهي المرشح الأول لأن يكون الشريك الإستراتيجي. والأمر متوقف على خياراتها ومدى قدرتها على الوقوف إلى جانب “شقيقتها الصغرى” كما يقول الرئيس تبون.
ما الذي يمنعها من فعل ذلك؟
والمفارقة هنا أن الشارع التونسي يعتقد أن الجزائر هي الطرف الوحيد الذي قلبه على تونس، وأنها ستدعم قيس سعيد لضمان استقرار تونس، وفي ذلك ضمان لأمن الجزائر وتأمين لحدودها، فما الذي يمنعها من فعل ذلك، ولماذا تتركها في ظروف صعبة وتتفرج.
لا أحد يلوم الرئيس سعيد عن مسار الاتجاه إلى جهات أخرى للبحث عن حلول، فهذا الأصل في الأمور، لأن الدول تنوّع شراكاتها وعلاقاتها على أن ترتهن لأيّ جهة. وما على الجزائر سوى أن توجه اللوم لنفسها.
منذ البداية، استلمت الجزائر الرئيس التونسي ونجحت في إقناعه بأنها في صفه، لكنها ظلت من ذلك الوقت تمنيه بالوعود والمشاريع والتمويل من دون أن يحصل على شيء ظاهر بالرغم من الحفاوة التي استقبل بها في الجزائر والتصريحات التي تتحدث عن العمق الإستراتيجي والمصير المشترك.
جريدة العرب