ثقافي

"أبصرهم" لزكرياء الشائبي.. محاولة لإعلان استقلال الفوتوغرافيا عن هامش الكتابة

عبد الجليل معالي يكتب للشعب نيوز- بمجرد الإمساك بكتاب "أبصرهم.. صنائع برّ قبلي" للفنان زكرياء الشائبي، تشعر أنك إزاء تقاطع عجيب لفنون كثيرة ومباحث متعددة؛ الصورة والشعر والخط العربي والفلسفة وكلها تتحالف لتحاول التعريف بجملة صنائع وحرف في "برّ" قبلي. ومن صفحة الغلاف ينتابك شعور بأن صاحب المنجز مهموم بفكرة أن الصورة يمكن أن تتحول إلى نص كامل الأوصاف.

صدر كتاب "أبصرهم.. صنائع برّ قبلي" في فيفري من العام 2019، وهو كتاب مع القطع الكبير، يمتد على 178 صفحة.

في الكتاب مفاصل خمسة مركزية. الأول هو الغلاف وهو عمل مخصوص يحتاج لوحده إلى قراءة خاصة ومتأنية. المفصل الثاني هو تقديم الكاتب لمنجزه الجريء وحمل التقديم وسم "قلتُ"، وانقسم إلى مستويات أربع: الأول اقتراف فوتوغرافي على فعل حرفي. والثاني سؤال. والثالث أنثروبولوجيا بصرية. والرابع صورة وكلمة. المفصل الثاني هو المقدمة العميقة التي اختطّها الكاتب والفيلسوف سليم دولة وحملت عنوان "زكرياء الشائبي قناص الصور: فن البورتريه والكاميرا القؤول (ارتسامات عابرة حول أثر فني باق)". المفصل الثالث والأهم هو الصور التي أودعها زكرياء في المتن وكانت عصب الكتاب ومحوره الرئيس. والمفصل الخامس، وكان بمثابة جسارة مضافة إلى ما حفل به الكتاب من مغامرة، هو الأبيات الشعرية التي انتقاها الكاتب لمصاحبة الصور التي التقطتها كاميرا الفوتوغراف، ويمكننا أن نضيف إلى هذا المفصل الخطوط العربية التي رُسمت بها العناوين والتي أبدعها الفنان ياسر جرادي.

الحقيقة أن الكتاب جدير بالكثير من التأمل والتفكير، وينتج الكثير من علامات الفضول: هل هو كتاب يسردُ صورا أم معرض لوحات أودعه صاحبه في كتاب؟ ماذا يمكن أن ينتج هذا "التحالف" بين فنان في حساسية زكرياء الشائبي، وفيلسوف في عمق سليم دولة، وشاعر في تمكن وجودة جمال الصليعي، وخطاط وموسيقار وملحن وعازف من قبيل ياسر جرادي؟ لماذا اختار زكرياء عنوانا بتلك الصيغة المتشحة بملامح تاريخية وأنثروبولوجية؟ ولماذا أسبغ الكاتب على كتابه وصف المغامرة الفوتوغرافية؟

الغلاف:

كان واضحا وعي زكرياء الشائبي بأهمية غلاف الكتاب، وكذا حرصه على أن تكون الصفحة الأولى واقعة في منتصف المسافة بين الغموض والوضوح. كل عناصر الغلاف كانت مختارة بعناية وتقصّد: العنوان والصورة الرئيسية التي تتربع على مساحة واسعة على يمين الصفحة. وعلى يسار المساحة حَرصَ مصمم الغلاف على ألا يعتدي العنوان واسم الكاتب والمشاركين فيه، على بقية تفاصيل الصورة الفوتوغرافية، ولذلك ظلت بقية تفاصيل الصورة صادقة دون تصنع.

مفيد الإشارة إلى أن العنوان "أبصرهم.. صنائع بر قبلي"، يوحي بأن صاحب الترجمة الفوتوغرافية اشتغل عليه كثيرا. إذ أن لفظ "أبصرهم" يحمل معاني تتجاوز دلالات النظر بالعين، بل تمتدّ إلى معاني الإدراك والتعلم والإرشاد، ولعل زكرياء الشائبي تعمد أن يدسّ في صيغة الأمر في عنوانه معاني العناية والصون والحماية، أي أنه يدعو إلى العناية بتلك الصنائع التي التقطتها عدسته. في الجزء الثاني من العنوان "صنائع برّ قبلي" نتلمّسُ وجودا واضحا لكتب التاريخ وانشغالات الأنثروبولوجيا، ولا نظن الشائبي كان غافلا عن كون مصطلح "الصنائع"مصطلح خلدوني بالأساس، يربطه ابن خلدون بتطور العمران "وعلى مقدار عمران البلد تكون جودة الصنائع للتأنق فيها حينئذ، واستجادة ما يطلب منها بحيث تتوفر دواعي الترف والثروة" (تاريخ ابن خلدون- الجزء الأول- الصفحة 401).

أما مصطلح "برّ قبلي" فقد كان بديلا ماكرا ومُتعمدا من صاحب الكتاب عن "ولاية قبلي" أو "منطقة قبلي" ذلك أن هذه الألفاظ تذكّر بالتقسيم الترابي والإداري والسياسي الذي تبرعت به الدولة الوطنية الحديثة، أما مصطلح "برّ" الذي يشير إلى مجال جغرافي واسع ومحدد في آن، فهو حافل بالإشارات التاريخية التي توحي بدورها بالعراقة والقدم والتأصّل في المكان. "برّ قبلي" عند زكرياء الشائبي هو أكثر قدما من الولاية ومن سواها من التقسيمات الإدارية البيروقراطية، وكأننا بصاحب الكتاب يريد القول أن المنطقة التي ذهب إليها بعدسته منطقة ضاربة في القدم، وحاضرة في التاريخ وإن أهملتها السياسات التنموية الرسمية، بل إن حرصه على الاحتفاء بصنائع ذلك البرّ من خلال نصوصه الفوتوغرافية، هو ضرب من رد الاعتبار لتلك الصنائع ولأهل ذلك البرّ، أصحاب الاستقرار القديم، الذي ولّد حضارة عريقة، أنتجت بدورها صنائع أصيلة.

تقديم الكتاب: "قلتُ وقالَ"

حاول زكرياء الشائبي في تقديمه للكتاب أن ينتصر فكريا ومبدئيا للفوتوغرافيا، انطلاقا من تساؤل "اقترفه" منذ البداية: هل قدرُ الفوتوغرافيا أن تبقى على ظهر الأدب أو على هامش الكتابة عموما؟ وانطلاقا من السؤال الاستهلالي واصل تقديم قناعته القائمة على أنه بإمكان الصورة أن تكون نصا متفردا كامل الأوصاف، وترتقي من كونها مجرد "وجبة سريعة جاهزة على مكاتب الكتاب والكتبة والقراء والمتفرجين ومتعهدي الحفلات والفعاليات". وإذ أعلن زكرياء انتقاما للصورة من الأدب ومن الكتابة ومن النص، فإنه أوحى أنه يحثُّ القارئ على تقبل نصه "المنفلت" من عقال التعريفات المعتادة. مغامرة زكرياء هي أن هذا الكتاب ينهضُ أساسا على الصورة وحدها، وإن استعان فيه بنصوص وأشعار وخطوط عربية، حيث تتحول هذه المكونات إلى مداخل وأبواب يهتدي بها القارئ للوصول إلى فهم أعمق للصورة.

وجود نص للفيلسوف التونسي سليم دولة بعد تقديم زكرياء الشائبي لكتابه، أوحى بوجود وعي مشترك بأن فكرة إنجاز كتاب يعتمد- أساسا- على الصورة تحتاج تأصيلا فلسفيا يتجاوز التبرير الفكري الكسول، ليرتقي إلى محاولة تلمس الإحداثيات الفنية التي "اجترحها" صاحب الكتاب. لذلك كان التقديم الحامل لعنوان كثيف "زكرياء الشائبي قناص الصور: فن البورتريه والكاميرا القؤول (ارتسامات عابرة حول أثر فني باق)"، من جنس الدراسة التي تبحث في كل ما يحيط بفن الصورة وحساسية الكاميرا وتقصّد الفنان. تفطن سليم دولة إلى التنوع الماثل في الكتاب من الأنثروبولوجيا الثقافية إلى الأرشفة التاريخية، إلى الاجتماعي السويولوجي وصولا إلى حضور الرمزي السيكولوجي، ليخلُصَ إلى أن زكرياء "في هذا العمل جعل من الصورة البورتريه إطار إسناد أكيد ضد النسيان العفوي والتناسي المتقصّد" لمهن وحرف وصنائع تأثرت بالمكان وأثرت فيه، بل كانت شواهدَ على تاريخ المنطقة (برّ قبلي) التي سدد لها زكرياء "عينه الرقوب".

المتن: صنائع ووجوه

قسم زكرياء نصوصه الفوتوغرافية إلى فصول تستعرض الصنائع التي دلفت كاميرا الفنان إلى عوالمها. العنبر وليف النخل والسعف والحديد والورق والصوف والزيتون والخشب والطين والجلد والوبر، كانت محامل برع أصحاب صنائع بر قبلي في تحويلها إلى أعمال فنية أو استخدامات حياتية. والملاحظ أن كاميرا زكرياء نجحت في إيجاد التوازن بين التركيز على المواد وبين الانتباه إلى وجوه الفاعلين، بل إننا نتلمس صلة واضحة بين الفاعل والمادة، والصلة مشتقة من المكان ونراها جلية في سمرة الوجوه ودقة النظرات وما تركته تلك الصنائع على الأصابع والأيادي من خشونة وتجاعيد.

إحدى عشر صنعة تابعها زكرياء بعدسته، وكان حريصا على الإلمام بكل التفاصيل الركحية للصورة (صورة محمد بن بلقاسم في الصفحة 149 مفيدة في هذا التصور) إذ وسّع زكرياء مجال بعض الصور لينشئ عالما كاملا من التفاصيل يقعُ صاحب الحرفة في قلب ذلك العالم، لتقول الصورة إن ذلك الصانع ليس إلا حلقة مهمة في عناصر طبيعية وتاريخية وسوسويولجية متداخلة. ولعل الصورة التي أشرنا إليها تحمل تصورا ركحيا كاملا حرص الفوتوغراف على تناوله بكل عناصره: الحرفي بصدد إنجاز سرج جلدي للحصان، ويجلس خلفه طفل يتابع المشهد، وفي الخلفية جدار متداع، ووراءه منزل جديد قيد البناء. ولا نظن أن كاميرا الفوتوغراف قد التقطت كل تلك التفاصيل صدفة أو دون تعمد.

رافقت أبيات للشاعر جمال الصليعي منجز زكرياء الشائبي الفوتوغرافي، وليس مهما إن انتقى زكرياء هذه الأبيات بنفسه من السجل الشعري الكبير لجمال الصليعي، أو اقترحها الشاعر، لأن المهم أن هذه الأبيات كانت- أولا- ابنة البيئة نفسها التي نشأت فيها هذه الصنائع، ولأن عين جمال الصليعي ألفت رؤية هذه الصنائع وما تنتجه من مفردات حرفية. لذلك كان استدعاء أبيات جمال الصليعي موفقا في أغلب المواضع؛ "من سُمْرة الروح هيأنا ملامحنا.. فازدانت الأرض بالألوان والصور".

هنّات صغيرة:

في قراءة متأنية للكتاب يمكن تبين بعض الهنات الشكلية والبصرية التي كان بالإمكان تجاوزها، ولو أننا نفهم أن حماس زكرياء لإنجاز عمل مغاير واستنجاده بأغراض فنية وفكرية كثيرة، أنتجا بعض الأخطاء التي لا تقلل من عمق العمل وطرافته وجدّته، لكنها وجودها يمثل إزعاجا لكل من يود أن يقرأ العمل أكثر من مرة.

الهنة الأولى إخراجية، وتتمثل في أن الحرص على وضع صورة كاملة تمتد على صفحتين أدى إلى وجود جزء مهم من الصورة داخل منطقة الطيّ (صفحة 79 وغيرها). حيث كان من الممكن الاكتفاء بنشر الصورة على صفحة واحدة دون قسمتها على صفحتين.

الهنة الثانية هي أن اختيار كتابة أبيات جمال الصليعي بخط عربي كان موفقا، لكن حجم الخط ولونه وموقعه وسط الصورة، عوامل عسرت قراءة بعض الأبيات.

وفي النهاية كان بإمكان صاحب الكتاب أن يقدم تعريفا موجزا تحت اسم الحرفي أو الحرفية، تتضمن عمره (للدلالة على مستقبل الحرفة إن كان الحرفي شابا، أو تجذرها إن كان شيخا) ومنطقته (المنصورة أو دوز أو غيرها) لفهم التوزع الجغرافي للحرف في بر نفزاوة.

 

كان كتاب "أبصرهم..صنائع بر قبلي" أكثر من ترجمة فوتوغرافية، بل كان مغامرة فنية وأدبية متفردة. مغامرة لأن زكرياء الشائبي تجاسر على تأليف كتاب نصوصه من جنس الفوتوغرافيا، وحاول تخليص الفوتوغرافيا من التبعية للأدب ومن أسره، وأيضا لأن الكتاب عنى بتفاصيل تلك الحرف وقربها للمتلقي بطريقة مختلفة عن الطرق الفولكلورية التي دأبت وسائل الإعلام ونشرات الأخبار على اعتمادها. أنشأ زكرياء علاقة حميمة مع الحرف ومع الحرفيين أتاحت له ملاحظة أثر مهنهم على الوجوه وعلى الأيادي، وأثر صنائعهم على تحويل المواد الطبيعية إلى منجزات فنية، عدا عن استعمالاتها اليومية. الواحة كانت حاضرة في الكتاب بمشتقاتها الكثيرة، من سعف وليف جريد وخشب وأرض وجمال وزيتون. لذلك كله كان زكرياء في الكتاب يصور عالمه ونخلته وواحته وبستانه وأهله وتاريخه وأرضه وصدى الأهازيج والأغاني والأدعية في قريته الصغيرة الضاربة في التاريخ.