العميد منصور الشفي يكتب عن أزمة سنة 1965: سنوات الجفاف ونزول أسعار الفسفاط وتخفيض العملة (03)
[ الشعب نيوز/ وثائقي - استجابة لطلب من أسرة التحرير، قدّم العميد الأستاذ منصور الشفي لقراء الشعب الورقية الكرام والاخوة النقابيين سلسلة من المقالات النضالية للاتحاد، نشرت سنة 2009 ،حيث كان شاهدا عن قرب على وقائعها وتطوّراتها، آملا – كما كتب - أن يساهم بعمله هذا في إبقائها حيّة في الأذهان حتى لا تندثر ويلفّها النسيان. ويضيف الأستاذ العميد: " فالفترة التي أتحدث عنها هي جزء من تاريخ هذه المنظمة العتيدة وبالتالي فهي جزء من تاريخ تونس."]
يقول الحبيب عاشور في مذكراته أن عدّة سنوات من الجفاف ونزول أسعار الفسفاط في السوق العالمية ثم تخفيض العملة دفعت هذه العوامل مجتمعة الحكومة التونسية الى اقرار التخفيض . وفعلا فبتاريخ 30 سبتمبر 1964 وامام الصعوبات المالية التي أصبحت تواجهها الحكومة وعملا بتوصيات البنك الدولي قرّرت تخفيض الدينار بنسبة 25 وقرّرت أيضا تجميد الأجور.
ولم يتردد الحبيب عاشور ومعه صديقه أحمد التليلي في المطالبة بتعويض الأجراء عن تلك الخسارة.
فاجتمعت إثر ذلك الهيئة الادارية للاتحاد العام التونسي للشغل وقررت بعد نقاش طويل التصويت بالاجماع على لائحة تطالب بتعويض الخسارة اللاحقة بالمقدرة الشرائية للعمال نتيجة تخفيض العملة.
وكانت مناسبة للحبيب عاشور في ان يتميّز موقفه عن الحكومة اذ أن موقفه هو أوّلا وبالذات الإعلان بإسم الاجراء عن مؤازرته لمصالح الطبقة العاملة وكانت المناسبة السانحة للحبيب عاشور ليبيّن للرأي العام ان موقفه مستقلّ عن موقف الحكومة وأنه طالب بالترفيع في الاجور حالا.
وقد جلب موقفه هذا سخط الحكومة عليه أو بالاحرى سخط بورقيبة وبن صالح لأنه امام خضوع كثير من فئات الشعب وصمتهم ظهر الحبيب عاشور وكأنه يقود مناهضة سياسة الحكومة ويشق عصا الطاعة في وجهها.
لقد كانت الوقفة الانتقامية التي قررتها الحكومة مع الحزب الحاكم ان اعلن هذا الأخير بعثه لشعب مهنيّة تابعة له داخل المؤسسات لتحلّ محلّ النقابات لكنها لم تصمد طويلا امام مقاومة النقابيين لها وكان مآلها الفشل.
وبدا بن صالح ساخطا على موقف الحبيب عاشور وكان يتمنّى لو قامت جماعات داخل المكتب التنفيذي بانقلاب عليه للإتيان بقيادة طيّعة تحلّ مكانه إلاّ أن الحبيب بورقيبة ظهر متردّدا في مواجهة الحبيب عاشور.
وليلة صدور لائحة الاتحاد العام المتعلقة بتخفيض العملة اجتمع أحمد بن صالح مع اصدقائه داخل المكتب التنفيذي وطالبهم بإصدار بيان يعارضون فيه بيان الاتحاد وهو ما تم بالرغم من انهم وافقوا في اجتماع الهيئة الادارية على بيان الاتحاد.
وقد أذاعت التلفزة والإذاعة بيان جماعة بن صالح الذي ندّدوا فيه بالحبيب عاشور كما قدّمت الإذاعة تعليقات كلّها سبّ وشتم في الحبيب عاشور.
من جهة أخرى إنطلقت حملة داخل الشعب الدستورية للتنديد بالحبيب عاشور وبمواقفه وتطالب برفضه من الحزب ومن الإتحاد، واستمرت هذه الحالة عدّة أشهر حتى إنعقاد مؤتمر الحزب ببنزرت في سنة 1964 ليكرّس حالة الإنقسام والتوتر والتصعيد.
وطيلة تلك الفترة كانت علاقة الصداقة بين الحبيب عاشور وأحمد التليلي تتمتّن ويزداد أصدقاء بن صالح داخل المكتب التنفيذي عزلة وتبرز في المقدّمة قيادات من الصفّ الثاني أمثال الهادي القارصي وابراهيم مالوش وسعيد قاقي وسعيد الحداد وعبد الرزاق أيوب وعلي الشتيوي والهادي الحداد ومسعود كليلة والحبيب بن غزيّة ومحمد عزالدين كاتب عام جامعة البريد، لتؤطر آلاف النقابيين الذين كانوا مستعدين للتضحية من أجل الدفاع عن استقلالية منظمتهم وحرمتها وكان عدد المنخرطين بالاتحاد قد بلغ في تلك الفترة مائة وعشرين الفا وكان الحبيب عاشور يشاهد تعاظم نفوذ أحمد بن صالح داخل الحكومة والحزب وكيف أن أحمد بن صالح والحبيب بورقيبة يريدان بسط هيمنتهما على كل الحياة السياسية فتمّ اخضاع المنظمة الطلابية لسلطة الحزب ومثّل إنعقاد مؤتمرها في أوت 1963 مناسبة للفرض بالقوة قيادة موالية على رأس إتحاد الطلبة وأُقصي منه ومن قيادته كل صوت معارض، ولقد اعتقد الحزب بعد ذلك أن الدور الآن على إتحاد الشغل.
لكن أمام المحاولة القوية للسلطة للسيطرة على المنظمة الشغيلة أظهر الحبيب عاشور صمودا قويا للدفاع عن المنظمة ووجد من أحمد التليلي السند القويّ له. وقد كانا يقولان انهما غير مستعدّين للتنازل عن الإرث العظيم لحشاد وأن تصديهما ومن ورائهما جماهير النقابيين سيحطّم كل محاولة للسيطرة على الإتحاد.
مذكرات العميد منصور الشفي عن أزمة سنة 1965: أمين عام سابق يرتقي الى الوزارة والخلاف يحتدم (02)
في الفترة (1957-1963) التي كان فيها أحمد التليلي أمينا عاما للاتحاد عيّن الرئيس بورقيبة أحمد بن صالح (وهو أمين عام سابق للاتحاد 1954-1956) وزيرا للصحة أي منذ سنة 1957 ثمّ بعد عدّة أشهر أي منذ سنة 1958 أصبح كاتب دولة للصحة والشؤون الاجتماعية ثمّ منذ بداية من سنة 1961 أصبح وزيرا للمالية والتخطيط (وكان الوزير يسمّى آنذاك بكاتب دولة) وبدأ منذ سنة 1962 تطبيق سياسة التعاضد.
وبعد فترة الهدوء التي سبقت الاعداد لمؤتمر الاتحاد لسنة 1963 سعى بن صالح الى طمأنة الحبيب عاشور الى درجة ان انصاره كانوا من الداعين الى انتخاب الحبيب عاشور أمينا عاما للاتحاد بدأ بإظهار نيّته في ضمّ تعاضديات الإتحاد الى التعاضديات الجهوية التي بعثها في كامل ولايات الجمهورية وطالب بضمّ تعاضديات الإتحاد الى تلك الهياكل التابعة للدولة، وقد أصرّ الحبيب عاشور ومعه أحمد التليلي على مقاومة رغبة بن صالح الأمر الذي مثل مصدر توتّر مستمرّ بلغ حدّ العداوة.
وأوغر أحمد بن صالح صدر الرئيس بورقيبة على الحبيب عاشور على أساس انه لا يريد الانصياع الى إرادة الدولة ولا يريد أن يسمح بمراقبة تعاضديات الإتحاد والاشراف عليها من طرف الاتحاد الجهوي للتعاضد.
كما أقنع أحمد بن صالح الرئيس بورقيبة بأن قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل تغضّ النظر عن سوء التصرّف ببعض هذه التعاضديات وأن تجربة الدولة في إرساء النظام التعاضدي لا تسمح بوجود هذه التعاضديات الموازية.
وتناسى بن صالح انه في فترة الحملة الانتخابية لانتخاب الحبيب عاشور أمينا عاما للاتحاد كان هو من جهة وأنصاره في الاتحاد من جهة أخرى يشيدون بحسن سير تعاضديات الاتحاد وكان بن صالح يقول عنها انها نموذج يجب ان يحتذى به.
وانضمّ الحبيب بورقيبة الى موقف أحمد بن صالح من تعاضديات الإتحاد حتى انّه أصبح يندّد بها في خطبه ويقول انها يجب ان تخضع لتسيير الدولة لأنها تعاضديات تسودها الفوضى وغير مسيّرة تسييرا قانونيا صالحا وكان يقول عنها في خطبه: «وهي تعاضديات لا أراك اللّه مكروها» وكانت هذه العبارة تضحك الحبيب عاشور فكان يرددها باستمرار ويضحك منها.
تلك التجاذبات بين أحمد بن صالح وزير الاقتصادي القوي وبين الحبيب عاشور الامين العام القوي ايضا خلفت اجواء متوترة بينهما غداة مؤتمر 1963 وأثر ذلك بطبعه على التحالفات داخل المكتب التنفيذي للاتحاد فانضمّت جماعة بن صالح وهم أساسا صالح القلعاوي ومحمود بن عزالدين وحسونة بن الطاهر من المكتب التنفيذي الوطني وسليمان الزواري من الاتحاد الجهوي للشغل بتونس ومحمد الريّ الكاتب العام لنقابة الرصيف الى صديقهم الوزير بن صالح وتحالف الحبيب عاشور مع أحمد التليلي او بالأحرى تمتّن التحالف بينهما للوقوف معا من اجل صيانة استقلالية الاتحاد والدفاع سويا عن مكاسبه، وفي هذا الجوّ المشحون وبتاريخ 30 سبتمبر 1964 حصلت عملية تخفيض العملة.
مذكرات العميد منصور الشفي عن أزمة سنة 1965 : ثلاثة تيارات نقابية وعدة مؤسسات اقتصادية (01)
انعقد المؤتمر التاسع للإتحاد العام التونسي للشغل أيام 29 و30 و31 مارس 1963 .واسفرت إنتخابات المكتب التنفيذي للإتحاد عن فوز الحبيب عاشور وعضده الايمن آنذاك رابح محفوظ وعبد العزيز بوراوي من مجموعته ومن مجموعة أحمد بن صالح وزير الاقتصاد والمالية صالح القلعاوي وهو موظف بوزارة المالية ومحمود بن عزالدين وحسونة بن الطاهر الذي كان في نفس الوقت رئيس جامعة المناجم إلى جانب أحمد التليلي.
مقدّمات الازمة
وبالتالي فقد كان بالمكتب التنفيذي ثلاثة تيارات: تيار العاشوريين ويضم رابح محفوظ (الذي أسندت إليه مهمة النظام الداخلي) وعبد العزيز بوراوي (الذي اسندت اليه امانة المال)، وتيار البنصالحيين ويضمّ صالح القلعاوي ومحمود بن عزالدين وحسونة بن الطاهر وتيّار أحمد التليلي وهو أقوى تيارات الاتحاد فهو وان كان بمفرده داخل المكتب التنفيذي الجديد الا ان جامعات نقابية قوية مثل جامعة المهن المختلفة وعلى رأسها ابراهيم مالوش وسعيد قاقي وجامعة السكك الحديدية جعلت من تيار أحمد التليلي أحد أهم تيارات الإتحاد العام.
وكان واضحا للجميع أن أحمد التليلي يميل الميل المطلق الى ترشيح الحبيب عاشور أمينا عاما للاتحاد لأنه في نظره يمثل النقابي الاصيل وهو الذي كان أقرب الناس اليه في النضال من أجل استقلالية الإتحاد.
القطاع الاقتصادي
وبجانب منصب الامانة العامة للاتحاد احتفظ الحبيب عاشور لنفسه بالاشراف على القطاع الاقتصادي الذي كان مشرفا عليه في المكتب التنفيذي السابق وأهمية هذا القسم كانت متأتية بالخصوص من تنامي تعاضديات الاتحاد التي تأسس بعضها منذ سنة 1960 (الى جانب بدء بناء نزل اميلكار) والتي بلغت في فترة الامانة العامة للحبيب عاشور سبعة عشر تعاضدية تشغّل حوالي الأربعة الاف عامل.
والى جانب هذه التعاضديات تكوّنت قبل فترة من تولّي الحبيب عاشور الامانة العامة وبتضافر جهوده مع جهود الامين العام في الفترة السابقة أحمد التليلي «بنك الشعب» الذي اصبح فيما بعد وإثر دخول الحبيب عاشور للسجن «بنك الجنوب» وافتك من الاتحاد بمجرد قرار من وزير الاقتصاد والمالية أحمد بن صالح (أصبح اليوم التجاري بنك) كما تكوّنت تعاضدية التأمين الاتحاد (آمي حاليا).
12 خبيرا
وكان أحمد التليلي في أواسط عهدته الاخيرة على رأس الامانة العامة للاتحاد قد بعث مكتب دراسات اقتصادية واجتماعية عيّن على رأسه الاقتصادي اللامع البشير سالم بلخيرية (والذي مازالت مؤسساته تعمل الى حدّ الان) والى جانبه وتحت اشرافه انتدب عبد الرزاق شريط (دار شريط في توزر حاليا) وفخر الدين الكاتب وعدّة اشخاص اخرين للعمل معه وكان عددهم في حدود إثني عشر.
ولما كان بعث مكتب الدراسات مكلفا جدا ولأن الاتحاد كان يدفع من ماليّته أجورا شهرية هامة تم الاتفاق بين الحبيب عاشور وأحمد التليلي على إنهاء عمل المكتب الدراسات واستبقى منه عبد الرزاق الشريط ليكلّف ببعث «بنك الشعب» وكلّف فخر الدين الكاتب ببعث شركة التأمين.
وقد أصبحت المؤسستان تعملان منذ بداية سنة 1963 وكان الامين العام للاتحاد حسب القانون الاساسي لكلتا المؤسستين هو رئيس مجلس الادارة لكلّ منهما ويتركب مجلس الادارة من ممثلي الجامعات النقابية.