مذكرات العميد منصور الشفي(14) عن ازمة 1965: جلسة مخصصة لقضية الباخرة بحضور الصحافة العالمية
في يوم 7 جويلية 1965 أصدر القاضي الهادي بوزيان قرار إحالة الحبيب عاشور على محكمة ناحية صفاقس من أجل هضم جانب قاضي التحقيق أحمد شراقة وذلك لقوله لرابح عطية مدير شركة إحياء جزر قرقنة «اعط لها السيد (أي أحمد شراقة) الأوراق التي يريدها». وبقينا ننتظر تعيين القضية أمام حاكم الناحية ولم يحصل ذلك التعيين الاّ بتاريخ 30 ديسمبر 1965. أمّا بقيّة القضايا التي كان متعهّدا بها القاضي أحمد شراقة فقد صدر قرار الختم فيها بتاريخ 31 أوت 1965.
قرار بالمحاكمة
وقد قام الحبيب عاشور بإستئناف قرار ختم البحوث وعينت القضية أمام دائرة الإتهام التي كان يرأسها رئيس محكمة الإستئناف الصادق الآجري والذي كان من اليوسفيين القدامى، وقد تعامل مع القضية بكل حذر خشية أن يذكر بماضيه.
وقد صدر قرار دائرة الإتهام بتاريخ 4 ديسمبر 1965 قاضيا بإحالة الحبيب عاشور وفخرالدين الكاتب ورابح عطية على المحاكمة. وبعد حفظ تهم التدليس والسماح بسياقة باخرة بدون رخصة، بقي الحبيب عاشور محالا من أجل إرتكابه لجريمة المشاركة في إصدار شيك بدون رصيد وتجهيز سفينة فاقدة لبعض الأوراق القانونية
وبتاريخ 30 ديسمبر 1965 حضر الحبيب عاشور وكان مرفوقا بي وبالأستاذ محمد بن للونة أمام حاكم ناحية صفاقس الذهبي العباسي وقد كان آنذاك هو حاكم الناحية الوحيد بصفاقس بالنسبة للقضاء الجزائي أما بالنسبة للقضاء المدني فقد كان الرئيس الهادي بن الصادق الذي أصبح في نهاية مسيرته القضائية الموفقة رئيسا لمحكمة التعقيب هو المتعهد به.
الصور: المحامي محمد بللونة والوزير محمد المصمودي
مسيرة محام شجاع
ولابدّ لي هنا أن أفتح قوسين لأعرف القرّاء الكرام بالمحامي الشجاع الحاج محمد بن للونة، شارك في النضال الوطني منذ شبابه وانتمى مثل أخوته عبد الرحمان وأحمد للحزب الحر الدستوري الجديد وكان ثلاثتهم من أبطال النضال بالساحل وبالعاصمة.
وبعد الاستقلال، انتخب محمد بن للونة عضوا بالمجلس التأسيسي وقد قام بدورهام في صياغة فصول الدستور وبعد ذلك وعندما أصبح محمد فرحات رئيسا للمحكمة الشعبية التي حاكمت اليوسفيين عيّن الرئيس الحبيب بورقيبة محمد بن للونة وكيل الدولة للمحكمة العليا وقد كانت له مرافعات متطرفة ندم عليها، فيما بعد، شديد الندم خاصة بعد أن طالب بعقوبة الإعدام للطيب الزلاق وتنفيذ الحكم فيه.
وقد استفال محمد بن للونة من المحكمة العليا وأصبح من أكثر المتشددين في الدّين وعاد لمباشرة المحاماة وفي سنة 1967 انضمّ لنا للدفاع في قضية اليسار التونسي (آفاق وبعض الشيوعيين) وأسس مرافعته على التنديد بكلّ شجاعة بالتعذيب..
وفي سنة 1972، أصبح وزيرًا للعدل وإثر خلاف بينه وبين الرئيس بورقيبة، أقاله من الحكومة فأنتخبه المحامون عميدا لهم في عملية تحدّ لبورقيبة. وفي سنة 1978 وقف للدفاع عن القيادة الشرعية للاتحاد وقد نشب أثناء المحاكمة خلاف بينه وبين رئيس محكمة أمن الدولة فأصدرت المحكمة قرارًا بعزله من المحاماة لمدّة سنتين وقد كان بن للونة قريبا جدّا من محمد المصمودي (السفير ووزيرالخارجية 1970-1974) وصديقا له.
وأعود للمحاكمة فأقول: انّنا لم نكن نعلم شيئا عن القاضي الذهبي العباسي وكان الإنطباع العام لدى محاميي صفاقس أنّه عديم الشخصية وأنّه سيقضي بالإدانة كما طلب منه. لكننا فوجئنا عند إفتتاح الجلسة بأنّ القاضي قد خصّص جلسته كاملة لقضية وحيدة هي قضية الحبيب عاشور وكان في القاعة جمهور غفير وقد ساعد إيجاد مكروفونات بالقاعة هذا الجمهور على متابعة المحاكمة.
نقل مصور
وكان العديد من الصحافيين الأجانب ومن مبعوثي وكالات الأنباء العالمية قد حضروا إلى صفاقس لمتابعة المحاكمة وخصّصت لهم مقاعد في جانب القاعة وقد تعرفت يومها على صحفيين كثيرا ما قرأت لهم أمثال ميشال دوري الذي أصبح فيما بعد ولعدّة سنوات مراسلا لصحيفة لوموند وجوزات بن ابراهيم وهي صحافية لامعة كانت على جانب كبير من الجمال وذات ثقافة واسعة وهي ذات أصول يهودية وانتقلت بعد فترة إلى فرنسا حيث أصبحت صحافية بصحيفة لونوفيل أبسرفاتور.
وقد تمّ تصوير المحاكمة وتسجيلها من طرف الإذاعة وجريدة العمل لسان الحزب الاشتراكي الدستوري وعلمنا فيما بعد أنّ الحبيب بورقيبة قد أحضر جمعا من المسؤولين بقصر قرطاج لمشاهدة فيلم المحاكمة.