وثائقي

مذكرات العميد منصور الشفي(17) عن أزمة 1965:   نائب الحق العام يقرأ مرافعة لم يكتبها فيسقط مغشيا عليه

أعود إذن لموضوع المحاكمة لأتابع أنّه صدر قرار دائرة الإتهام التي كان يترأسها الرئيس الأوّل لمحكمة الإستئناف بصفاقس الصادق الآجري والذي قضى بإحالة الحبيب عاشور على المحكمة الابتدائية بصفاقس لمقاضاته من أجل ارتكابه جرائم المشاركة في إصدار شيك بدون رصيد وتجهيز سفينة فاقدة لبعض الأوراق القانونية.

وتلقى الحبيب عاشور بعد أيّام استدعاء للحضور يوم 12 جانفي 1966 لدى المحكمة الجناحية بصفاقس التي ستنظر في التهم الموجهة إليه والتي سبق ذكرها.

ترجمة كل الملفات الى الفرنسية

كانت الملفات قد وضعت على ذمتنا في الوقت المناسب وقد قام بترجمتها الى الفرنسية المرحوم عمر بوزيد الذي شغل منصب الكتابة العامة للإتحاد الجهوي للشغل بصفاقس وهو في نفس الوقت رئيس كتبة محكمة الإستئناف بصفاقس وتمكنا في وقت مناسب من تسليم المحامي نيكولاي نسخة مترجمة الى الفرنسية من ملف جملة القضايا وعهد بالقضية لرئيس المحكمة الابتدائية بصفاقس المنصف الحمزاوي والذي لم يكن يجلس في العادة الاّ في القضايا المدنية لكن بصفة إستثنائية طلب منه الوكيل العام محمد فرحات أن يتعهّد بالملف ويقضي في القضية كما طلب من وكيل الجمهورية بصفاقس بولبابة بن يحيى إلقاء مرافعة النيابة العمومية وكانت مرافعة مكتوبة.

ولئن عرف عن المنصف الحمزاوي أنّه أقدر أبناء جيله من القضاة وأبرزهم الا أنّه ذو مزاج متعجرف وطبع عصبي حادّ وينصاع للتعليمات التي تصدر له.

فبعد ان تلا المنصف الحمزاوي قرار دائرة الإتهام، بدأ بإستنطاق الحبيب عاشور الذي كان بحالة سراح ثم قام بإستنطاق محمد البعتي سائق الباخرة ومنصور حميدة اللذين كانا بحالة إيقاف ثم رابح عطية وفخرالدين الكاتب.

وركّز رئيس المحكمة عند استنطاقه للحبيب عاشور على السؤال ـ لماذا وقع تأخير تاريخ الشيك حيث لم يكن مؤرخا بيوم صدوره - فأجاب الحبيب عاشور أن ذلك كان ليترك الوقت الكافي لمدير شركة التأمين للرجوع إلى تونس والإتصال بمدير البنك لتذكيره بالإعتماد الممنوح من البنك لشركة إحياء جزر قرقنة (سومفيك).

وبالرغم من أننا قدمنا بالجلسة شهادة من بنك «الشعب» (بنك الجنوب سابقا، أو التجاري بنك حاليا) تثبت وجود القرض الممنوح لشركة إحياء جزر قرقنة وأنّ الإعتماد قابل للتصرّف فيه وأن ما كان موجودا بالبنك بحساب (السومفيك) يتجاوز الخمسين ألف دينار الاّ أنّ المحكمة لم ترد الإقتناع بذلك.

مجبر على القاء مرافعة النيابة

وبعد الإستنطاق الذي أجراه رئيس المحكمة، أعطيت الكلمة للأستاذ بولبابة بن يحيى الذي كان وكيلا للجمهورية بصفاقس وبالرغم من ان صفته تلك كفيلة بأن تعفيه من الحضور بالجلسة حيث كان بإمكانه ـ كما جرت العادة ـ تكليف أحد مساعديه الاّ أنّ وكيل الجمهورية العام محمد فرحات الذي كان مكلّفا بإدارة القضية كما سبق لي أن ذكرت،  قد أجبره على حضور الجلسة بنفسه وإلقاء مرافعة النيابة العمومية.

وكان بولبابة بن يحيى لا يخفي قناعته ببراءة الحبيب عاشور، وما أن بدأ في إلقاء المرافعة التي تضمنت إدانة شديدة للحبيب عاشور حتى بدأ العرق يتصبّب غزيرا منه وأخذ وجهه يصفرّ وخفت صوته ثم سقط من كرسيه مغشيا عليه فرفعت الجلسة وحمل الرجل على عجل للمستشفى، وبعد برهة زمنية استأنفت المحكمة عملها وقدّم المساعد الأول لوكيل الجمهورية مرافعة النيابة العمومية.

ثم أعطيت الكلمة للمحامين لإلقاء مرافعاتهم، وكنت أنا أول المرافعين وكنت متمكّنا من الملف وأعرف جزئياته وألقيت مرافعة استمرّت أكثر من ساعة استقطبت الانتباه ثم تبعني بقية الزملاء.

وبعد انتهاء المرافعات أعلن المنصف الحمزاوي اختلاء المحكمة للمفاوضة وقال: ان المحكمة ترى من واجبها التقدّم بالشكر للأستاذ منصور الشفي من أجل المرافعة القيّمة التي ألقاها.

وسرّ صديقي الحبيب عاشور رحمه اللّه بمرافعتي سرورا شديدا.

4 أشهر سجنا للحبيب عاشور

لم يكن يساورنا اي أمل في الحكم فنحن نعلم مسبقا موقف الرئيس بورقيبة وإصراره على الحكم بالسجن على الحبيب عاشور وأمره لمحمد فرحات بذلك. وقد صدر الحكم بعد ظهر يوم 12 جانفي 1966 قاضيا بسجن محمد البعتي سائق الباخرة ومنصور حميدة الميكانيكي مدة عام وقد كانا بحالة إيقاف، وسجن الحبيب عاشور مدة أربعة أشهر وسجن فخرالدين الكاتب مدة شهرين (وهي المدة التي كان قضاها في السجن) ولذلك لم يقم بإستئناف الحكم، وحكم على رابح عطية بثلاثة أشهر سجن.

ورجعنا الى تونس لنوصل نيكولاي المحامي السويسري وقد أصبح له كامل الملف ثم أرسلنا بعد مدّة قصيرة نسخة من الحكم الإبتدائي مترجما وطلبنا منه بالإتفاق مع الكنفدرالية العالمية للنقابات الحرة - السيزل - تكليف أكبر اختصاصي فرنسي في القانون الجزائي البروفسير جورج لوفاسير بتحرير استشارة كتابية حول جريمة الشيك بدون رصيد التي حُوكم الحبيب عاشور من أجلها. وفعلا قام نيكولاي بتسليم هاته الإستشارة المستفيضة وكنا هيأناها لتقديمها لدى الطور الإستئنافي وقد انتهت هاته الإستشارة الى أن جريمة الشيك بدون رصيد غير وجيهة بالنسبة للحبيب عاشور.