وثائقي

وثيقة: النص الحرفي لكلمة الأخ نورالدين الطبوبي في الذكرى 78 لتأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل والـ100 لتاسيس الحركة النقابية التونسية

الشعب نيوز/ وثيقة - ننشر فيما يلي النص الكامل للكلمة التي ألقاها الاخ نورالدين الطبوبي الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل في الذكرى 78 لتأسيس الاتحاد ومائوية الحركة النقابية الوطنية التونسية يوم السبت 20 جانفي 2024 بقصر المؤتمرات بتونس العاصمة.

[ في مثل هذا اليوم من سنة 1946 أعلن مناضلون من النقابيين التونسيين على إنشاء منظّمة نقابية وطنية جامعة للعاملين بالفكر والساعد أطلقوا عليها اسم الاتحاد العام التونسي للشغل ليشهد لهم شعبهم ويشهد لهم التاريخ أنّهم سيغيّرون بقرارهم هذا المسار التاريخي للشعب التونسي وحتّى للشعوب الشقيقة المجاورة لنا وسيسرّعون من وتيرة الرحلة الملحمية لبلادنا نحو الحرية والكرامة وبناء مجتمع يَتُوقُ للحداثة والعدالة والتحرّر من قيود الجهل والفقر والخنوع.

استجابة لقرار شعبي

كان تأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل استجابة لقرار شعبنا بكسر أغلال الاضطهاد الوطني المجسّم في الاستعمار الفرنسي والقوى الداخلية المرتبطة به وبالانعتاق من قيود الاضطهاد الاجتماعي الممثّل في الاستغلال الطبقي للقوى العاملة التونسية والفئات الشعبية عموما الذي كان يمارسه الرأسمال الاستعماري وكبار ملاّك الأراضي من المعمّرين ومن المحليين على حدّ السواء.

كان يوم 20 جانفي 1946 لحظة فارقة في تاريخ شعبنا وشهادة حيّة على عبقرية طبقته العاملة وقدراتها على قيادة نضاله من أجل العيش في حرية وازدهار وبناء دولة وطنية مستقلّة تُصان فيها قيم الديمقراطية والعدالة والمساواة.

قبل أن آتي على ظروف تأسيس الاتحاد على أيدي الزعيم الراحل الشهيد فرحات حشّاد ورفاقه الأفذاذ أودّ أن أذكّر بأنّ الذكرى 78 لتأسيس الاتحاد تقترن هذه السنة بمائوية إنشاء أوّل جامعة نقابية وطنية تونسية على أيدي الزعيم خالد الذكر محمد علي الحامي سنة 1924 بمعيّة نخبة من أشرف شباب تونس يتقدّمهم المناضل والمفكّر الثوري الراحل الطاهر الحدّاد.

أول جامعة نقابية

ولقد كان من المفترض أن يتزامن إحياء هاتين المناسبتين ببطحاء محمد علي قلعة النضال والصمود مع تدشين دار الشغّالين في شكلها الجديد، غير أنّ بعض الاشكالات الفنية أخّرت عمليّة الانتهاء من الأشغال بما جعلنا نُرْجِئُ عملية التدشين إلى موعد آخر لن يكون بعيدا في كلّ الأحوال وسيتزامنّ بالمناسبة مع حلول مائوية إنشاء أوّل مركزية نقابية تونسية سنة 1924 وهي جامعة عموم العملة التونسيين على يد زارع البذرة النقابية والمصلح محمد علي الحامي.

أقول ذلك لأنّنا نؤمن مثلما قال حشّاد العظيم أنّ تأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل ما هو في النهاية سوى امتداد ناجح لتجربة محمد علي الحامي وأنّ مؤسّسي الاتحاد استفادوا أيّما استفادة من تجربة جامعة عموم العملة التونسية ليبقى الاتحاد العام التونسي للشغل هو الوريث الشرعي والوحيد لتجربة محمد علي الحامي ولكلّ المحاولات التي سبقتها أو التي تلتها وصولا إلى تأسيس اتّحادكم العظيم على يد الزعيم الخالد فرحات حشّاد. كما تظلّ جامعة عموم العملة التونسية الأبرز والأكثر تجذّرا ورسوخا من بين كلّ التجارب النقابية التي سبقت 20 جانفي 1946.

* قائمة أول مكتب لجامعة عموم العملة التونسية  3 ديسمبر 1924

وها قد مرّ قرن على بعث أوّل منظّمة نقابية تونسية لحما ودما ورغم أنّها لم تعمّر إلاّ بضعة أشهر، إلاّ أنّها تمكّنت في وقت وجيز من كسب ثقة العمّال وبالتالي الانتشار بسرعة في العاصمة وفي بنزرت ومنطقة المناجم بالجنوب معتمدة على حيوية ووطنية وإخلاص قيادتها من أمثال محمد علي والطاهر الحداد وأحمد بن ميلاد والمختار العياري وفينودوري وغيرهم من أبطال الطبقة العاملة التونسية.

تحالف قاتل

ولكن وفي مطلع عام 1925 أي بعد بضعة أشهر فقط من إنشائها، تحالَف ضدّها الاستعمار الفرنسي وقيادة الحزب الدستوري القديم ونقابة الـسي جي تي الفرنسية والقوى الرجعية السياسية منها والدينية، فتمّ توظيف القضاء لقتلها في المهد من خلال إيقاف قادتها وإحالتهم على محاكمات جائرة وسجنهم أو نفيهم خارج الوطن، بما أدّى إلى نهاية مأساوية لهذه التجربة دون أن يتمكّن الاستعمار والقوى الرجعية من القضاء على الفكر النقابي وعلى المشروع الوطني للطبقة العاملة التونسية.

* صورة من محاكمة محمد علي الحامي ورفاقه سنة 1925

وها قد مرّ قرن على بعث هذه الجامعة ولا تزال ذكرى محمد علي والطاهر الحدّاد ورفاقهما متوقّدة في ضمير النقابيين ومُلْهِمة لهم في فكرهم ونضالهم وتضحياتهم من أجل الوطن وحقوق الشغالين.

لقد سبق وقلتُ في بداية هذه الكلمة كان تأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل استجابة لإرادة شعبنا في كسر قيود الاضطهاد الوطني ممثّلا بالاستعمار الغاشم والانعتاق من قيود الاضطهاد الاجتماعي والاستغلال الذي كان يعاني منه التونسيون عموما والطبقة العاملة بالأخصّ.

تغيير جذري في وسائل الاشتباك

وبالفعل كان تأسيس اتّحادكم إيذانا بتغيير جذري في وسائل وقواعد الاشتباك مع الاستعمار ومؤسّساته القمعية والاقتصادية والثقافية وغيرها. فمَثَّل تأسيس اتحادكم نقلة نوعية في نضال شعبنا من أجل الحرية ونيل الاستقلال وبناء الدولة الوطنية وتحريره من الاستغلال ومن الجهل والفقر ومن التخلّف في كلّ مظاهره وأشكاله.

فلقد توسّعت قاعدة المواجهة مع الاستعمار وامتدّت رقعتها بفضل الاتّحاد إلى الشوارع وإلى المؤسّسات الاقتصادية والإدارية الاستعمارية. كما نجح التنظيم النقابي في تعبئة العمّال التونسيين لخوض معركة الاستقلال والتحرّر الوطني والاجتماعي، ونجح الاتحاد في نقل تجربته إلى شرائح اجتماعية ومهنيّة أخرى مثل أصحاب العمل والطلبة والمرأة والفلاحين وحتّى الفنانين والرياضيين من أجل تنظيم وحشد أوسع قاعدة شعبية ممكنة لخوض المعركة الأخيرة والحاسمة ضدّ الاستعمار. بل إنّ اتّحادكم نجح كذلك في فتح جبهة جديدة ضدّ السلطة الاستعمارية وهي الجبهة الخارجية من أجل كسب التأييد وحشد الدعم من الحركة النقابية العالمية وقوى الحرية والتقدّم في العالم لفائدة القضية الوطنية ودعم المقاومة الشعبية له.

وفي هذا المجال حقّق الاتحاد نجاحات غير مسبوقة حيث نقل القضية الوطنية من المجال المحلّي إلى المجال الدولي واستطاع بالتنسيق مع الزعماء السياسيين للحركة الوطنية أن يقع إدراج استقلال تونس على أجندة الأمم المتحدة.

العقل المدبّر للمقاومة السلمية والمسلّحة

ولقد أقضّ هذا الانجاز مضجع الحكومة الفرنسية آنذاك التي أدركت أنّ العقل المدبّر للمقاومة السلمية والمسلّحة على الجبهة الداخلية ومهندس جبهة المواجهة الجديدة خارجيا خاصّة بعد اعتقال الزعامات السياسية في جانفي 1952 هو الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل فرحات حشاد.. فكان قرارها باغتياله يوم 5 ديسمبر 1952.

 

ولقد جاء اغتيال حشّاد بعد سلسلة من أعمال القمع الدموية للاضرابات وللاحتجاجات التي نظّمها الاتحاد في كلّ أنحاء البلاد للمطالبة بالاستقلال. وتشهد معارك صفاقس والنفيضة وجبل الجلود ومناجم قفصة والجريصة على ما قدّمه الاتّحاد والطبقة الشغّيلة التونسية من تضحيات في سبيل ذلك حيث سقط فيها المئات بين شهيد وجريح ومئات آخرون من المعتقلين يتقدّمهم الزعيمان النقابيان والوطنيان الحبيب عاشور الذي ظلّت رصاصات الجيش الفرنسي التي أصيب بها في معركة 5 أوت 1947 في جسمه حتّى وفاته واحمد التليلي الذي أنهى كما تعلمون حياته منفيّا في الغربة.

ولقد مثّل نيل الاستقلال التامّ في 20 مارس 1956 النصر الأكبر للاتّحاد وللشعب التونسي بعد أن تُوّجت كلّ هذه التضحيات والنضالات بالاعتراف بحقّ الشعب التونسي في السيادة والحرية وتقرير المصير.

مشروع الدولة الوطنية

إنّ خروج الاستعمار من بلادنا ونيل تونس لاستقلالها السياسي لا يعني زوال الاستعمار والتبعية لأنّ الاستقلال الحقيقي والكامل هو ذلك الذي يحقّق للشعب سيادته كاملة على ثرواته ويوفّر للوطن الأمن في أبعاده الشاملة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا ويمكّن التونسيات والتونسيين من متطلّبات العيش الكريم في كنف الحرية والعدل والقانون.

وعلى هذا الأساس انفرد الاتحاد مقارنة ببقية مكوّنات الحركة الوطنية بمشروع الدولة الوطنية لما بعد الاستقلال وبتصوّر عملي للنمط التنموي لتونس بعد تحريرها من ربقة الاستعمار وذلك من خلال البرنامج الاقتصادي والاجتماعي الذي طرحه منذ سنة 1954 عندما بدأت بشائر الاستقلال تظهر في الأفق التونسي.

ذلك هو اتّحادكم العظيم مجاهد من أجل تحرير الوطن من نير الاستعمار ومناضل من أجل حماية الاستقلال وترسيخه ومشارك من موقع طلائعي في بناء الدولة الوطنية ومؤسّساتها وصياغة قوانين وقواعد تقدّم شعبنا وتنعّمه بالعدل والأمن والازدهار.

وأنتم تعرفون حجم المؤامرات التي عانى منها الاتحاد طيلة تاريخه الطويل وما تعرّض له من قمع دموي رهيب ومن تعذيب في دهاليز الداخلية ومحاكمات جائرة وسجون رهيبة وطرد من العمل سواء زمن الكفاح الوطني أو بعده في أزمات 1965 و1978 و1985.

دفاعا عن الاستقلالية النقابية

كل هذه الحلقات القمعية من مسلسل محاولات إخضاع الاتحاد وضرب استقلالية قراره وإثناء النقابيين عن الدفاع عن مكاسب الوطن والشعب وعن حقوق الأجراء والفئات الشعبية المفقرة والمهمشة باءت بالفشل بفضل وحدة النقابيين وإيمانهم بوطنهم والتفاف الشغالين حول منظّمتهم وبفضل رسوخ المبادئ التي تأسّس عليها العمل النقابي ببلادنا منذ أكثر من قرن من الزمن. فمعركة 1965 خاضها الاتحاد دفاعا عن حرية العمل النقابي ورفض هيمنة الحزب الحاكم عليه آنذاك... ومعركة 1978 تمحورت أساسا حول رفض هيمنة الدولة على المجتمع المدني ودفاعا عن استقلالية القرار النقابي وعن حقّ الشغّالين في توزيع عادل لثمرات النموّ. أمّا معركة 1985 فكانت ضد التفريط في المكتسبات الاقتصادية والاجتماعية والتربوية التي دفع ثمنها شعبنا بالكثير من التضحيات والتي أرادوا تصفيتها في ذلك الوقت تحت عنوان الإصلاح الهيكلي للتفريط في العديد من المؤسّسات العمومية والتخلّص من آلاف العمّال والتقليص من الإنفاق الاجتماعي في التعليم والصحة والسكن الاجتماعي بالخصوص.

* قائمة اول مكتب تنفيذي للاتحاد العام التونسي للشغل جانفي 1946

لقد قاوم النقابيون موحّدين صلب الاتحاد العام التونسي للشغل وخاضوا، مدعومين من القوى التقدّمية والمدنية، كلّ هذه المعارك والتي هي في النهاية معارك من أجل نموذج تنموي وطني يكرّس السيادة الوطنية واحترام الحريات العامّة والفردية ويحقّق المساواة والعدالة الاجتماعية صلب دولة قوية يُقدَّس فيها القانون وتصان فيها المؤسّسات الديمقراطية.

لم يتنازلوا عن حب الوطن

لقد خُضنا كلّ تلك المعارك وقدّمنا قوافل من الشهداء ومن المساجين ومن الذين استشهدوا وأصيبوا بأمراض وإعاقات جرّاء التعذيب ومن الذين عانوا مع أسرهم من التجويع ومن الطرد من العمل ولكنّهم لم يتخاذلوا ولم يتنازلوا عن حبّ وطنهم والإخلاص لشعبهم. تماما مثلما خُضنا مع شعبنا وشبابه المناضل في كلّ جهات البلاد معارك ثورة الحرية والكرامة 17 ديسمبر - 14 جانفي من أجل إنهاء الحكم الدكتاتوري والحكم المطلق الذي لم يؤدّ في النهاية إلاّ إلى الأزمات وإلى استفحال الفساد واستشراء الانتهازية.

وإذا ظللنا دوما لا ننسى أنيس الكعبي في حبسه لأكثر من 356 يوما دون محاكمة وكل النقابيين الذي يتعرضون للمحاكمات الكيدية باستمرار،  فإننا اليوم نحذّر من التضييق على العمل النقابي ومن شيطنة الاتحاد وملاحقة النقابيين وتلفيق القضايا ضدّهم، مؤمنين برسوخ بأنّ الاتحاد كان وسيظلّ صمّام أمان للوطن وقلعة منيعة تحفظ مكتسبات الشعب وتصونها ضدّ كلّ من يحاول النيل منها في الدّاخل أو الخارج. وإنّ هذا الاتحاد لو لم يولد حرّا لما كان له أن يضطلع بهذه الرسالة المقدّسة ولذلك فإنّه سيظلّ حرّا مستقلاّ مناضلا وديمقراطيا.

إنّني وفي نفس الوقت الذي أؤكّد فيه على وجوب احترام الحقوق والحريات عامّة والحريات النقابية خصوصا وأشدد على استقلالية القضاء وعدم توظيفه لتصفيات الخلافات السياسية  الحرص على علوية القانون وصيانة الديمقراطية فباعتبار كل ذلك شروطا أساسية لصيانة مكاسبنا الوطنية والشعبية والدفاع عنها وتحقيق التنمية المستدامة وضمان الاستقرار والتقدم.

النقابيون تصدوا للاصلاح الهيكلي

وما دمت اتحدث عن أهمية  ضمان كل الحريات ومنها الحرية النقابية فلأذكّر على سبيل المثال بحرص النقابيين منذ بداية تطبيق ما سمّي ببرنامج الإصلاح الهيكلي في أواسط الثمانينات على التنبيه إلى خطورة تصفية القطاع العام ولم يكتفوا بذلك بل شنّت القطاعات الإضرابات والاحتجاجات للتصدّي لعمليات التفريط والتفويت وطالب الاتحاد بالتحقيق في العديد من عمليات الخصخصة المشبوهة إلاّ أنّ النقابيين جوبهوا آنذاك بالتشويه والقمع وبالاتهام بالتواطئ مع الخارج وصولا إلى أزمة 1985 وما تلاها من اعتقالات ومحاكمات للمسؤولين النقابيين وفي مقدّمتهم الزعيم الحبيب عاشور الأمين العام للاتحاد، لذا فإنّنا نتمسّك مبدئيّا بالموقف الرسمي الذي دعا إلى أهمّية المحافظة على المؤسّسات العمومية والنهوض بها وإصلاح أوضاعها والتحقيق في ما يمكن أن يكون قد شاب عمليات التفويت فيها من تجاوزات وفساد وإهدار للمال العام.. وعملية الإصلاح هذه لا يمكن أن تتمّ إلاّ بصفة تشاركية ومن خلال حوار حقيقي وعمل مشترك للوصول به الى نتائجه المرجوة.

إنّ المجال لا يسمح باستعراض كلّ ما أنجزه الاتحاد لفائدة الوطن والشغّالين ومن أجل نشر قيم الحرية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، فكتب التاريخ كفيلة بتأريخ ذلك بلا حساب، غير أنّي أريد قبل أن أمرّ إلى موضوع الساعة أن أؤكّد على:

خمس نقاط مهمة

أوّلا: تجديد رفضنا المطلق لاستهداف الحقوق والحريات والإلحاح في المطالبة بسحب المرسوم 54 الذي وُضع لتكميم الأفواه ومنع النقد ومحاكمة الأصوات الحرّة. كما نعبّر عن رفضنا للمحاكمات الكيدية التي طالت النقابيين والإعلاميين وبعض السياسيين. ونجدد مطالبتنا بقضاء مسقل وعادل وناجز يؤدي فيه القاضي واجبها ومسؤولياته بعيدا عن الضغوطات والابتزاز والترهيب.

ثانيا: تشبُّثِنا بالهويّة الاجتماعية للدولة وبتعزيز دورها التعديلي للقضاء على الفقر وحماية الفئات الهشّة ودفاعنا عن المرفق العمومي وعن حقّ شعبنا في التقدّم والرفاه الاجتماعي، سنبقى حماة للمؤسّسة العمومية، داعين إلى إصلاحها والمحافظة على ديمومتها ونجاعتها وقدراتها حتّى تواصل تأدية خدماتها لفائدة عموم المواطنين وسنظلّ متمسّكين بحقّ الشعب التونسي في أن يقدِّم له المستشفى العمومي في كلّ ولاية ومعتمدية أفضل الخدمات الطبية والعلاجية وحقّه في تعليم جيّد ومجاني.

ثالثا: تمسّكنا بالحوار الاجتماعي وبحقّ المفاوضة الجماعية الحرّة والطوعية وإلغاء المنشور عدد 21 الذي واصل تكريس ضرب الحقّ النقابي وحقّ المفاوضة الجماعية إيمانا منّا ألاّ تقدُّمَ ولا تنمية دون حوار اجتماعي مسؤول وجدّي وشفّاف.

رابعا: نضالنا المستمرّ من أجل حقوق الجهات والقطاعات ومن أجل حماية المقدرة الشرائية للعمّال وعموم الأجراء في مواجهة الغلاء والارتفاع الجنوني لأسعار المواد الاستهلاكية والخدمات ومن أجل مراجعة الجدول الضريبي بإصلاح المنظومة الجبائية الحالية غير العادلة ومحاربة التشغيل الهشّ والمطالبة برفع الأجر الأدنى والتمسّك بتطبيق جميع الاتفاقيات المبرمة وخاصة اتفاقيتي 6 فيفري 2021 و15 سبتمبر 2022 والمراجعة الدورية لتحسين الأجور وحماية حقوق المتقاعدين.

خامسا: التذكير بموقف اتّحادنا المتمسّك بدعم الدولة للمواد الأساسية باعتباره جزءا هامّا من الدور التعديلي للدولة على أن يتمّ الحوار حول الشرائح الاجتماعية التي تستحقّ هذا الدعم وحول قيمته وطرق تأديته حتّى يتوجّه إلى مستحقّيه.

أستسمحكم، فلن أواصل اليوم الخوض كثيرا في الوضع الداخلي للبلاد، فقد سبق أن قدّمنا رؤية الاتحاد يوم 04 ديسمبر 2023 في ذكرى اغتيال الزعيم الشهيد خالد الذكر فرحات حشّاد وستكون لنا محطّات أخرى للعود على وضع بلادنا المتأزّم، لكنّي، وبحكم الوضع الرّاهن الذي تمرّ به بلادنا العربية، أودّ العودة للتشديد على دور التضامن النقابي الدولي في دعم كفاح شعبنا وطبقته العاملة وطليعتها النقابية سواء زمن معركة التحرير أو خلال معارك التنمية الاقتصادية الاجتماعية وكذلك عند نضال الاتحاد دفاعا عن استقلاليته وعن حقوق الشغالين.

الحركة النقابية الدولية  و قوى التحرر إلى جانبا شعبنا

 لقد وقفت الحركة النقابية الدولية الحرة والديمقراطية وكلّ قوى التحرّر والتقدم والعدل إلى جانب قضايا شعبنا في مختلف مراحلها التاريخية منذ مرحلة الكفاح التحريري. ونحن فخورون ومعتزّون بانتساب اتّحادنا منذ نشأته إلى هذه القوى النقابية التقدمية وانخراطها في نضالاته ضدّ الاستعمار والميز العنصري والاستغلال الرأسمالي ومن أجل الحريات النقابية واحترام حقوق الانسان.

إنّ استحضار أهمية التضامن الدولي من أجل العدل والحرية والسلم في العالم فللتأكيد اليوم على ضرورة مواصلة الهبّة التضامنية العاصفة التي شملت مشارق الأرض ومغاربها نصرة لقضية شعبنا في فلسطين وشجبا للعدوان الصهيوني الهمجي على أهلنا في غزّة وفي الضفّة الغربية. ولهذا جعلنا شعار احتفائنا اليوم بذكرى تأسيس الاتحاد تحت عنوان "الاتحاد في نصرة المقاومة في فلسطين"

فمنذ مائة وستّة أيّام تستمرّ حرب الإبادة والتطهير العرقي في غزّة مخلّفة ما يزيد عن 5 بالمائة من الشعب الفلسطيني بين شهيد وجريح ومفقود و90 بالمائة منه مشرّدا ودون مأوى. يحدث ذلك بدعم ومشاركة مباشرة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وبتواطؤ من غالبية الدول الأوروبية والأنظمة العربية.

حرب غير مسبوقة فيها كل الاسلحة

إنّ حرب الإبادة التي تُشنّ على شعبنا في فلسطين، من قبل الصهيونية والقوى الاستعمارية الأمريكية والبريطانية والأوروبية والأنظمة العربية المطبّعة مع كيان الاحتلال، هي حرب غير مسبوقة يُقتل فيها أكثر من 300 فلسطيني يوميّا منذ مائة يوم ونيف، وتستعمل فيها كلّ أسلحة الدّمار بما في ذلك الأسلحة المحرّمة دوليّا وتلعب فيها الولايات المتحدة الأمريكية دورا مباشرا عبر التسليح والتمويل والدعم الاستخباراتي وحضور مجالس الحرب وتقديم الغطاء السياسي والعربدة ضدّ كلّ القوى والدول التي تناصر الحقّ الفلسطيني وتعمل على وقف التقتيل والتدمير والحصار والتهجير.

وفي المقابل فقد استطاعت المقاومة الفلسطينية الباسلة تدمير صورة الجيش الذي لا يقهر وإذلال سمعة المخابرات التي تدّعي أنّها الأفضل في العالم وهو ما دفع بقيادات الكيان الصهيوني المتوحّش إلى شنّ حرب إبادة وإلى ارتكاب مجازر إضافة إلى تدمير البنى التحتية والمدارس والمستشفيات والمخابز والمرافق العامة والأحياء السكنية ليعيد غزّة عقودا إلى الوراء ويدفع بمئات الآلاف من سكّانها الذين هم في الأصل لاجئون منذ نكبة 1948 إلى النزوح والبحث عن ملاجئ جديدة.

ولقد بات واضحا اليوم أنّ هذه الحرب الجديدة وما خلّفته، وما زالت، من مجازر ودمار إنّما الغرض منها القضاء على المقاومة وكلّ فكر ممانع وكلّ جهد صامد وذلك بهدف تهجير الفلسطينيين وتصفية القضية الفلسطينية نهائيا وفسح المجال واسعا أمام التطبيع الشامل مع دولة الكيان المحتلّ وتعميم اتّفاقيات أَبْرَاهَامْ على كلّ دول المنطقة كخطوة أساسية لإقامة الشرق الأوسط الجديد الذي تخطّط له الإدارة الأمريكية بالتنسيق مع الكيان الصهيوني منذ أكثر من عقد.

موقف مشرف للدولة التونسية

ولئن سبق وثمّنّا الموقف المشرّف للدولة التونسية من الحقّ الفلسطيني وإذ أحيّي في نفس السياق كلّ الدول الشقيقة والصديقة وكلّ قوى الحرية والعدل والسلام التي تقف ضدّ هذا العدوان الهمجي والتي هبّت لنصرة الشعب الفلسطيني ومساندة حقوقه الوطنية المشروعة والتي تقوم بكلّ ما هو ممكن في سبيل الوقف الفوري لهذه الحرب الإجرامية، فإنّنا نشجب بشدّة الموقف المخجل لجامعة الدول العربية وتواطؤ بعض الأنظمة العربية مع الكيان الصهيوني وخذلانها لأهلنا في غزّة والضفّة الغربية وإدارة ظهرها لإرادة شعوبها المؤيّدة والداعمة للحقّ الفلسطيني.

كما نُدين بشدّة موقف غالبية حكومات الدول الغربية وفي مقدّمتها الإدارة الأمريكية الداعم المباشر للعدوان والتي سقط عنها قناع حقوق الإنسان والمساواة بين الشعوب بعد أن أمعنت في اعتماد سياسة المكيالين كلّما تعلّق الأمر بالقضية الفلسطينية. كما ندين اعتدائها على اليَمَن رغبة في عقاب الشعب اليمني وقواها المقاومة على موقفهم الداعم للشعب الفلسطيني.

وعلى الرغم من التعتيم والتشويه في وسائل الإعلام وخاصّة منها الغربية وما عمدت إليه بعض الدول من سنّ لقرارات جزرية لمنع الاحتجاج وإعاقة التضامن مع الشعب الفلسطيني، فقد جاء رد الفعل الشعبي سواء في عواصم التطبيع أو في كبرى العواصم والمدن في العالم وبخاصّة في البلدان الأكثر تأييدا للكيان الصهيوني مدويا من خلال خروج الملايين من الجماهير في كلّ أنحاء الدنيا بما في ذلك في أمريكا وبريطانيا وفرنسا متضامنة مع فلسطين وشعبها.

ومن واجبنا توجيه تحيّة الإكبار والتقدير والشكر إلى دولة جنوب إفريقيا التي بادرت برفع قضيّة إلى محكمة العدل الدولية لإدانة الكيان الصهيوني بجريمة الإبادة الجماعية والتطهير العرقي وتوجيه التحيّة إلى رئيسها ووزير العدل فيها ومحاميها الذي أبدعوا في كشف الحقيقة الإجرامية للكيان الغاصب الذي اقتات طويلا بالمظلومية وبنى عليها فكره الصهيوني وطبّقها على الفلسطينيين عبر حروب إبادة انطلقت منذ 1947 وتكرّرت على امتداد أكثر من 70 سنة في محاولة للقضاء عليه وليحقّق فكرة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض".

مواصلة جهد الدعم حتى تحقيق النصر

منذ اليوم الأوّل للعدوان بادرنا صحبة شركاء لنا من منظّمات وجمعيات وأحزاب في اللجنة الوطنية لدعم المقاومة في فلسطين واللجان الجهوية المنبثقة عنها، بتنظيم كلّ أشكال الدّعم والتضامن مع شعبنا الفلسطيني وأهالينا في غزّة بل إنّنا أعطينا الأولية لتجسيم هذا الدعم على حساب قضايا اجتماعية كانت مطروحة قبل العدوان وتمّ تأجيلها. وإنّي أغتنم هذه الفرصة للتوجّه بالشكر إلى كلّ النقابيات والنقابيين وطنيّا وقطاعيا وجهويا ومحليا على ما قاموا به في هذا الصدد من تنظيم لمسيرات الدعم والتضامن والمشاركة بها ومن مساهمة في تجميع المساعدات العينية عن طريق الهلال الأحمر، وأدعوهم بالمناسبة إلى مواصلة هذا الجهد وتكثيفه والاستمرار فيه حتّى تحقيق النصر واسترداد الحقوق المسلوبة مستلهمين معاني التضامن والفداء من أرواح شهدائنا وشهداء فلسطين، وسائرين على خطى الشهيد المؤسّس فرحات حشّاد الذي أصدع بموقفه وموقف الاتّحاد من اغتصاب فلسطين وكان وراء تطوّع العديد من الشباب التونسي للالتحاق سنة 1948 بصفوف المقاومة الفلسطينية وواصل النقابيون على دربه تقديم كلّ الإمكانيات المتاحة والدعم المعنوي للمقاومة الفلسطينية وللشعب الفلسطيني على امتداد عقود وعقود بلا كلل ولا ملل وبلا مَنٍّ أو تبجّح فهو واجب تضمّنته مبادئ الاتحاد وقانونه الأساسي وسطّرته مسيرة زعمائه وقادته سنبقى حافظين فيه للعهد، أوفياء لمسيرة حشّاد، مؤيّدين وداعمين ومنتصرين لقضية شعبنا الفلسطيني رافضين الاعتياد والتطبيع مع جرائم الإبادة ومظاهر التقتيل حتّى تحقيق النصر وتحرير كامل الوطن وإقامة الدولة المستقلّة وعاصمتها القدس الشريف.

خطر التغلغل الصهيوني في بلادنا مازال قائما

وفي هذا الإطار قام اتّحادكم بالاتّصال بالمنظّمات الدولية النقابية وبمنظّمة العمل الدولية منتقدا مواقفها غير المنصفة للشعب الفلسطيني الواقع ضحيّة جبروت وعنجهية محتلّ عنصري فاشي، ولحثّها على تكثيف التضامن وتصعيد التحرّكات للوقف الفوري لهذا العدوان الغاشم وفتح المعابر وفكّ الحصار والضغط لإنهاء الاحتلال ودعم صمود الشعب الفلسطيني وتمكينه من حقوقه الوطنية المشروعة كاملة. وسنواصل اتّصالاتنا مع أشقائنا النقابيين وأصدقائنا ورفاقنا بالحركة النقابية العالمية من أجل مزيد حشد الدعم للشعب الفلسطيني ولنضال طبقته العاملة وللتصدّي لآلة الدعاية الصهيونية.

أمّا وطنيا فقد تبنّينا منذ أمد طويل، ودون مواربة، تجديد الطلب الشعبي الداعي إلى سنّ قانون لتجريم التطبيع، ونؤكّد أنّنا ماضون من أجل سنّ هذا القانون ولن نقبل التبريرات الواهية والتعلّات الضعيفة، فخطر التغلغل الصهيوني في بلادنا تحت أقنعة التبادل التجاري والأكاديمي والثقافي ليس جديدا وسيظلّ قائما مادام هذا الكيان الغاصب موجودا ومادام هناك من يساعده ويسعى إلى فكّ عزلته وتُغريه منافع التعامل معه، إنّ سنّ قانونا يجرّم التطبيع في بلادنا سيساعد على تعميق عزلة الكيان المحتلّ وسيدعم صمود الشعب الفلسطيني ويشدّ أزر المقاومة.

 

العزّة لتونس والمجد للشهداء.. والنصر للمقاومة والحرية لفلسطين.

عاش الاتحاد العام التونسي للشغل حرا مستقلا ديمقراطيا مناضلا