وثائقي

مذكرات العميد منصور الشفي(24): أحمد التليلي يرفض، رغم مرضه وحاجته في المنفى، أموالا عرضها عليه الباجي قايد السبسي

الشعب نيوز/ وثائقي - نعود الى سلسلة جديدة من مذكرات المحامي الاستاذ منصور الشفي وفيها يتحدث بالخصوص عن عودة الزعيم احمد التليلي الى تونس بعد اقامة قسرية في المهجر اثر توتر العلاقة بين السلطة والاتحاد نتيجة قضية الباخرة.كما يتطرق الى ابعاد احمد بن صالح عن الوزارة بعد فشل تجربة التعاضد التي ميزت عشرية الستينات.

كتب الاستاذ منصور الشفي : في أواخر شهر جانفي 1967 سافر المرحوم الحبيب عاشور لسويسرا لزيارة صديقه وحليفه المرحوم أحمد التليلي وقد بقي معه خمسة أيام كانت لهما خلالها عدّة محادثات لتقييم الحاضر والحديث عن المستقبل وعند رجوع الحبيب عاشور لتونس حدثني مطوّلا عن أحمد التليلي وكان مغتما جدّا لسوء حالته الصحية.  

و قد تحدث المرحوم احمد التليلي عن تلك الزيارة فقال : (عند عودة الحبيب عاشور الى تونس وبعد نصف ساعة من نزوله من الطائرة، هاتفني الممثل الدائم التونسي في جنيف ليقول لي بأن لا أتغيّب طوال الأسبوع وأن أنتظر زيارة وزير الداخلية الباجي قائد السبسي الذي يريد رؤيتي. وفي يوم 31 جانفي قابلت الوزير في مقرّ البعثة التونسية الدائمة حيث تناقشنا لمدة تسع ساعات في الصباح والمساء وكان موقفي واضحا وهو التالي ان بلادنا مستقلة منذ احدى عشر سنة كما ان لها دستورا معمولا به كان قد أمر به بورقيبة نفسه وقد أقسم على احترامه وحمايته).

الوعي بالمسار اللادستوري   

ثم واصل احمد التليلي: (ان مطلبي بسيط يهدف الى الوعي بالمسار اللادستوري الذي اتخذته الحكومة ثم بعد ذلك تعود الأمور الى حالتها الطبيعية تدريجيا فأنا لا أطلب تصريحا علنيّا يفقد الرئيس ماء الوجه بل تكفي بعض الأفعال ليعرب عن نواياه في هذا الاتجاه. إجمالا فقد قدمت للوزير عديد المقترحات التي تسمح له بعرض لوحة شاملة للرئيس. ومن الغد التقيت مدة نصف يوم في نفس المكان مع نائلة بن عمار أخت وسيلة زوجة الرئيس وتناولنا نفس المواضيع تقريبا التي وقع تناولها مع الوزير والممثلين الدبلوماسيين للرئيس).

ثم أضاف كاتبا (سأقابل الهادي نويرة يوم 28 فيفري حيث سيأتي من تونس للنظر في الحالة الإقتصادية للبلاد عامة فهو محافظ البنك المركزي وبالتالي فهو على علم بكل التفاصيل التي تهم وضعية البلاد كما أقابل كذلك نائلة عمار التي ستعود الى جنيف).* 

دفاع حار عن الديمقراطية

وعن المقابلة مع أحمد التليلي، ذكر الباجي قائد السبسي في كتابه(1) عن الرئيس بورقيبة: (إن الرسالة التي بعث بها أحمد التليلي للرئيس في 25 جانفي 1966 من أعماق منفاه والتي كانت دفاعا حارّا من أجل إعادة بعث الديمقراطية داخل الحزب قد ألبت ضدّه قوى شديدة، ورغم ذلك فقد استطعت وببادرة خاصة مني أن أقوم بدور لأنهاء هذا المنفى. ففي شهر فيفري 1967 وعندما كنت في سويسرا من أجل زيارة خاصة إتخذت مبادرة لمقابلته وكان سفيرنا رضا باش بوّاب قد أعلمني أن التليلي يريد هو أيضا التحادث معي وكان منهكا ومريضا وطيلة حديثي الطويل جدّا معه وفي جوّ من الثقة التامة إستطعت إزالة تخوفاته الهامة ليعزم على الرجوع الى البلاد وسط أهله وذويه،

وقبل ان نفترق إقترحت عليه ان أسلمه مبلغا بسيطا من  المال لمساعدته على التغلب على الضائقة المالية التي كان يمر بها والتي تبدو وأنها ثقيلة الوطأة عليه، ولكنه وبكل إصرار رفض عرضي متمسكا بانه يريد المحافظة معي على علاقات شخصية فقط بدون ان تدخل فيها الدولة ولا مال الدولة، ومع ذلك فقد كان هذا المبلغ الذي عرضته عليه من مالي المتواضع والشخصي وقد ذكرته بأن علاقاتنا هي فوق كل شبهة وانني كنت الى جانبه عندما وقع طلب حكم الاعدام عليه)

وأشار الباجي  الى انه كان محامي التليلي في القضية التي أحيل فيها على المحاكمة العسكرية أيام الاستعمار والتي طالب فيها وكيل الدولة تسليط حكم الإعدام على أحمد التليلي) ، ولكن التليلي وبكل عزة نفس رفض قبول المال.

إستقامة المناضل الصلب

ويضيف الباجي قائد السبسي في كتابه المتميز المذكور: (وبعد رجوعي الى تونس بادرت بإعلام الرئيس الذي كان في إستراحة بالوسلاتية بمبادرتي وقلت له ان التليلي لا شيء له ضدك ولكن يجب ان نسلم بان له إستقامة المناضل الصلب وأنه وهو في الحالة التي هو عليها يجب ان يتمكن من الرجوع الى وطنه وسط أهله وذويه وقد استمع لي بورقيبة بكل صرامة مع شيء من التوتر ثم انتهى الى قبول حججي ومنطقي وقال (لعل فيها خير)

ومع ذلك فان رجوع أحمد التليلي الى تونس بعد بضعة اسابيع من ذلك التاريخ( 25 مارس 1967 ) قد أطلق العنان لحملة شديدة ضدّه كانت حملة معادية وأحيانا حقودة علما وأنه معارض بشدّة لتجربة التعاضد القسري والتي كانت آنذاك على أشدّها وهاته الحملة قد شملتني أيضا عندما علم بدوري في رجوع أحمد التليلي .

وعند إنعقاد أجتماع الديوان السياسي للحزب استجوبني احمد بن صالح (2) والحبيب بورقيبة الإبن(3) وقد أجبتهما بأني أتحمل مسؤولية التونسيين مهما كانت آراؤهم وحسب وجهة نظري فإن مكان المناضلين هو في تونس وليس في الخارج وهاجمت وندّدت بالحملة ضد أحمد التليلي والتي لا تشرف رفاقا له في النضال وكان الباهي الادغم هو الذي كان مترئسا للجلسة فإضطرّ الى محادثة الرئيس في الأمر وكان موقف الرئيس بان اعلم الجميع بانه كلفني بإرجاع التليلي لتونس وان هاته المهمة هي من مشمولاته وقد فهمت من ذلك ان الرئيس أراد بذلك إعطاء مصادقة لاحقة على ما قمت به ببادرة شخصية منّي ولكنه فيما بعد ذلك وعندما كنّا وحدنا لامني على وصفي لإحتجاج الآخرين  بالحملة الحقودة)

أزمة قلبية حادة

اعتبر من جهتي أنه كان من الواجب على ان أكرّم وطنيا صادقا واصيلا وان أعطيه الحق في الموت في بلده وقد كان أسفي هو أني لم أتمكن بالرغم من إلحاحي الشديد من جعل الرئيس بورقيبة يقابله قبل موته إذ لم يطل الوقت حتى خرّ صريع المرض وقد دفن بعد عامين يوما بيوم من وفاة صديقه الطيب المهيري(4) يوم 29 جوان 1967 في نفس مربّع المناضلين من مقبرة الزلاج وختم هكذا مصيرهما المشترك)، وانتهى هنا كلام الباجي قائد السبسي أحد محبّي أحمد التليلي.

 * صورة نادرة فعلا يظهر فيها الطيب المهيري (يضع نظارته في جيبه) فاحمد التليلي ووراءه مباشرة حسان بلخوجة وعبدالله فرحات وبعيدا أحمد بن صالح

وقبل أن أتم حديثي عن رجوع احمد التليلي أعود للتسلسل الزمني إذ في يوم 14 مارس 1967 أصيب الحبيب بورقيبة بأزمة قلبية حادة سرعان ما تغلب عليها ، وقد أرسل له أحمد التليلي من منفاه برقية يتمنى له فيها الشفاء وكانت هاته البرقية هي بداية التفكير في رجوع أحمد التليلي الى تونس وكان قبل أيام قد جدّد له جواز سفره.

عاشور يلتقي وسيلة

وبمجرد نشر خبر مرض الحبيب بورقيبة، طلب مني الحبيب عاشور مرافقته لقصر قرطاج وقد قرّر التوجه لقصر قرطاج لأول مرة منذ سجنه سنة 65 لأن المقابلات السابقة والتي سبق لي ان تحدثت عنها قد تمت بقصر «سقانص» بالمنستير.

بقيت بالصالون الخارجي بينما أدخل الحبيب عاشور داخل القصر بدون ان يتمكن من رؤية بورقيبة وقد إحتفت به وسيلة زوجة الرئيس بورقيبة مبدية له الكثير من الإهتمام  المعلن بينهما حيث كان لها بواسطة المقربين منها الناصر مخلوف (5)  ومحمد صفر(6)  اتصالات بالحبيب عاشور واحمد التليلي كنت تحدثت عنها سابقا لأنها في هاته الفترة بدات العمل ضدّ احمد بن صالح وبالنسبة اليها فإن أحمد التليلي والحبيب عاشور ومحمد المصمودي(7) هم العناصر الأساسية لمقاومة سياسة أحمد بن صالح وقد كان سندا لها في ذلك أشخاص أعتبروا دوما من جماعتها أعني الطاهر بلخوجة (8) وإدريس قيقة (9) وحسان بلخوجة (10) .

وسأتحدث في الحلقة المقبلة عن رجوع أحمد التليلي من منفاه.

-------

*الفقرات الواردة من الرسالة منقولة عن الكتاب المتميز الذي أصدره رضا التليلي بعنوان: الديمقراطية والتنمية في فكر احمد التليلي وهو من منشورات الاتحاد العام التونسي للشغل

(1) كتاب الباجي قايد السبسي : بورقيبة الاهم والمهم صدر سنة 2009، نقله الى العربية الزميل محمد معالي

(2) أمين عام الاتحاد من 54 الى 56، صاحب تجربة التعاضد ووزير لعدة وزارات مجتمعة

(3) ابن الرئيس بورقيبة ومستشاره الخاص

(4) وزير الداخلية من 57 الى 1965، مشهور بصلابته

(5) و (6) من رجال الاعمال اعضاء اتحاد الصناعة والتجارة

(7) مناضل الرعيل الاول، سفير تونس في فرنسا، وزير الخارجية من 70 الى 1974

(8) سفير ووزير الشباب والرياضة ثم الداخلية (73 الى 1977) والاعلام 

(9) وزير التربية والصحة ثم الداخلية من 80 الى جانفي 1984

(10) رم ع الشركة التونسية للبنك، وزير الفلاحة ثم وزير الخارجية.