وثائقي

مذكرات العميد منصور الشفي (26): خلاف احمد بن صالح مع الجميع، الغاء التعاضد وتغييرات في كل المجالات

الشعب نيوز/ وثائقي - في هذه الحلقة من مذكراته، يتحدث الاستاذ منصور الشفي عن احتدام الخلاف بين أحمد بن صالح ماسك الخمس وزارات من جهة وبقية عناصر السلطة بمن فيهم الرئيس الحبيب بورقيبة وعن قرار عودة الحبيب عاشور الى الاتحاد صحبة رفاقه المبعدين في جويلية 1965.

فبتاريخ 22 اوت 1969 ارسل أحمد بن صالح الى الحبيب بورقيبة، الذي كان في فترة نقاهة بالحمامات، نص مشروع قانون يتعلق بتعميم التعاضد في القطاع الفلاحي ليقع إمضاؤه من طرفه وليمر لمكتب مجلس الأمة لمناقشته والمصادقة عليه.

وفي يوم 25 اوت استدعى الرئيس بورقيبة الوزير احمد بن صالح الذي حاول اقناعه بوجوب امضاء القانون لكن بورقيبة قرر في نهاية المقابلة عرض المشروع على مجلس الجمهورية(1) الذي اجتمع يوم 2 سبتمبر للبت في الموضوع وقد قرر المجلس بأغلبيته رفض المشروع. وانذاك انذر الرئيس الحبيب بورقيبة الوزير بن صالح بأن عليه ان يتبع رأي الاغلبية.

أحمد بن صالح يحتكر الحصة التلفزية

وفي يوم 6 سبتمبر نظمت التلفزة الوطنية حوارا حول الموضوع شارك فيه الوزير الاول انذاك المرحوم الباهي الأدغم (2) بطلب من الرئيس الحبيب بورقيبة كما طلب ان يرافقه أحمد بن صالح ليشرح الباهي الأدغم بحضوره قرار مجلس الجمهورية عدم الاسراع في تعميم النظام التعاضدي والتنصيص على تعايش القطاعات الثلاثة (3) لكن احمد بن صالح استحوذ على الكلمة وألقى خطابا شرح فيه للشعب خطته والتي قال إنها يجب ان تستمر.

بطبيعة الحال كان بورقيبة يشاهد تلك الحصة التلفزية التي أدارها عبد العزيز العروي (4)وكان غضبه على بن صالح شديدا فقد اعتبر ان ذلك التصرف منه يمثل تحديا لشخصه فأصدر بتاريخ 8 سبتمبر بلاغا أعلن فيه تقسيم وزارة الاقتصاد الوطني الى ثلاث وزارات لم تسند اي واحدة منها لبن صالح وكان ذلك شبه اعلان عن ازاحته، وقد كانت الفرحة الشعبية عارمة وذبحت الذبائح في العديد من القرى تعبيرا عن هذه الفرحة وبقي بن صالح وزيرا للتربية القومية فقط وفي 23 سبتمبر صدر مرسوم جمهوري قضى بالتخلي عن التجربة التعاضدية.

بعد صدور البلاغ الحكومي المؤرخ في 8 سبتمبر 69 والقاضي بتنحية بن صالح من وزارة الاقتصاد وتقسيم الوزارة، حيث عين حسان بلخوجة (5) وزيرا للتجارة والصناعة وعبد الرزاق الرصاع (6) وزيرا للتخطيط والمالية وعبد الله فرحات (7) وزيرا للفلاحة، اجتمع الحبيب عاشور واحمد المستيري (8) للتحادث حول الاحداث الاخيرة.

وفي اليوم الموالي ذهبت شخصيا للقاء الاستاذ البحري قيقة (9) في المقهى الذي تعوّد الجلوس به فإقترح عليّ ان نزور الحبيب عاشور واحمد المستيري فذهبنا الى نهج المختار عطية حيث كان يقع مكتب احمد المستيري وتحديدا الى مكتب وكالة الاسفار التي كان يملكها الحبيب عاشور حيث علمنا ان الحبيب عاشور موجود بمكتب المستيري فتوجهنا مباشرة الى هناك وعندما دخلنا للمكتب كان صوت الحبيب عاشورعاليا  وهو يصرخ يبلغنا الى خارج غرفة المكتب ولما دخلنا لم ينقطع عاشور عن الكلام وفهمنا ان موضوع هذا الزعيق هو ان احمد المستيري عندما التحق بمكتبه بعث في طلب استقدام الحبيب عاشور لمكتبه.

لماذا يفرط عاشور في الصراخ؟

ولما جاءه، عرض عليه امضاء نص بيان حرره بمفرده دون ان يتناقشا في محتواه فغضب الحبيب عاشور غضبا شديدا وقال له كيف يسمح لنفسه بأن يطلب منه الامضاء دون مناقشة مسبقة وكان يحتج على هاته الطريقة في التعامل معه. فأراد البحري قيقة التدخل لكي لا يترك الخلاف يتطور ويشتد فما كان من احمد المستيري ودون اي مبرر الا ان إنفجر في وجه البحري قيقة وقال له: (وانت ماذا أتى بك الى هنا وما هو دخلك في الموضوع؟ من فضلك لا تتدخل بيننا)، وفهم البحري قيقة ان ذلك يعني طردا له، ودون ان ينبس بكلمة خرج مسرعا ولم يحاول لا أحمد المستيري ولا الحبيب عاشور ارجاعه.

 إستأت كثيرا لذلك الصنيع والتقحت بالبحري قيقة فوجدته قد رجع الى المقهى وبمجرد أن رآني حتى بادرني بالقول: (لماذا أتيت، لماذا لم تبق معهما؟ فأجبته بأني غضبت مما تعرّض له، فقال لي وهل وقعت مهاجمتك انت؟ لا يهمك أمري فسنتحدث في ذلك فيما بعد، ارجع انت ولا تترك الامر يتطور بينهما الى غير رجعة. فإستجبت لطلبه ورجعت للمكتب فوجدت الحبيب عاشور يقول للمستيري وهو في قمة غضبه: " ألم تكفنا ديكتاتورية بورقيبة حتى نعاني الآن من دكتاتوريتك" فأجابه المستيري " وليكن في علمك ايضا اني غير مستعد مطلقا للتعامل مع صديقيك الهادي نويرة (10) ومحمد المصمودي (11)"  فأجابه الحبيب عاشور (هذان صديقيي وانا غير مستعد للتخلي عنهما مطلقا).

فنهض الحبيب عاشور وتوجه الي بالقول: (هيّا نخرج من هنا فلم يعد لي ما أفعله معه).

وحصلت قطيعة مؤقتة بين الرجلين (وأقول مؤقتة لأنه سيتاح لهما التعامل مع بعضهما فيما بعد خاصة في نطاق اللجنة العليا المكلفة من طرف الرئيس بورقيبة بدراسة اوضاع الحزب وتقديم مقترحات له وقد ترأسها احمد المستيري وكان الحبيب عاشور عضوا بها وسأتعرض لهذا الموضوع في إبّانه) وبعد يومين من تلك الخصومة ارسل احمد المستيري رسالة الى الحبيب بورقيبة نشرتها جريدة لاكسيون (لسان الحزب) بتاريخ 11 سبتمبر 1969 جاء فيها (ان القرارات الهامة التي اتخذتموها والمتعلقة بالتوجه الاقتصادي والجهاز الحكومي والاداري قد بعثت فرحة عامة في كامل البلاد وانا أجدد عبارات تصريحي الذي أدليت به بتاريخ 29 جانفي 1968 حول مشاعري نحو شخصكم وتمسكي بمبادئ الاشتراكية الدستورية والتي حددها مؤتمر بنزرت واني أغتنم هاته الفرصة لأعبر عن اعجابي امام هذا الموقف الشجاع والذي جمع حولكم كل المناضلين المخلصين وبتساميكم فوق الخصومات الشخصية وصراعات الفرقاء فإنكم تبقون الحكم الاسمى الذي يعمل كرجل دولة مدرك وواع بواجباته نحو الامة وبمسؤولياته امام الله والتاريخ وتقبلوا، مع تمنياتي بالصحة الطيبة، أحرّ عبارات الاحترام).

احداث تتسارع دون ترتيب

وقد وجه الحبيب عاشور رسالة للرئيس بورقيبة نشرتها جريدة لاكسيون بتاريخ 14 سبتمبر 1969 جاء فيها (عند رجوعي يوم الجمعة من سفري الى الخارج تأثرت احسن تأثر بعودة الثقة الى نفوس جميع طبقات الشعب بفضل قراركم الشجاع بتقويم مسار اقتصاد البلاد طبقا لمقاربتكم المعتادة للمشاكل وعلى ضوء الواقع التونسي وان الطبقة الشغيلة التي وقفت دوما الى جانبكم ايام النضال من اجل تحرير الوطن فإني متأكد انها سوف تبذل اليوم كل جهودها في سبيل تنمية اقتصادنا وتقبلوا سيدي الرئيس تمنياتي بالشفاء العاجل وأسمى عبارات التقدير والاحترام).

وبتاريخ 8 نوفمبر 1969 شكل الرئيس بورقيبة حكومة جديدة لم يكن بن صالح من بين اعضائها وقد خاطبه الرئيس بورقيبة هاتفيا وقال له (شدّ دارك وما تتحركش) وفرضت على بن صالح هكذا اقامة جبرية وبتاريخ 9 نوفمبر 1969 اجتمع الديوان السياسي للحزب برئاسة الباهي الأدغم الامين العام للحزب وقرر طرد احمد بن صالح من الحزب.

وبتاريخ 10 نوفمبر 1969 اجتمعت الهيئة الادارية للاتحاد برئاسة البشير بلاغة (12) وأرسلت برقية للرئيس بورقيبة لتعرب له عن ولائها له وعلى مساندتها للقرار المتخذ من طرف الديوان السياسي.

وبتاريخ 17 نوفمبر 1969 وبعد ان سلم بورقيبة ادارة شؤون الدولة للباهي الأدغم سافر الى باريس حيث بقي هناك للتداوي طيلة ستة اشهر ونصف بداية من 17 نوفمبر 69 الى غرة جوان 1970 وكان محاطا بحاشيته وبالخصوص بزوجته وسيلة ومحمد المصمودي سفير تونس بفرنسا والذي كان قد اصبح منذ بداية نوفمبر امينا عاما مساعدا للحزب كما اصبح الهادي نويرة ايضا أمينا عاما مساعدا وفي هاته المرحلة الجديدة بدا هذان الشخصان كأقوى اعضاء الديوان السياسي وكان بينهما توافق تام واستمر هذا التوافق لمدة طويلة.

واثناء اقامته بفرنسا قرر الرئيس بورقيبة دعوة الحبيب عاشور للرجوع على رأس المنظمة الشغيلة وكلف الباهي الأدغم بإتمام ذلك. لكن الباهي الأدغم تردد كثيرا حتى ان الهادي نويرة ومحمد المصمودي هدداه بالاستقالة من الديوان السياسي وأخيرا نفذ الباهي الأدغم ما كان قرره الرئيس بورقيبة.

وقد روى الحبيب عاشور في مذكراته قصة رجوعه على رأس الاتحاد فقال (وفي يوم من الايام ناداني الهادي نويرة لمقابلته وكان في تلك الفترة محافظا للبنك المركزي وعضوا بالديوان السياسي وأخذنا نتحدث عن الاوضاع بالبلاد وقد وصف نويرة الحالة بأنها كارثية وبحكم منصبه وطبيعة عمله فقد كان اعلم الجميع بأوضاع البلاد وعندما خيّل لي ان المقابلة انتهت قال لي: (اسمع يا حبيب لقد أرسل لي الرئيس بورقيبة علالة العويتي(13)  وقد طلب مني بأن أقول لك بأن تعود الى الاتحاد وهو قال ذلك للباهي الأدغم فهل أعلمك بذلك؟).

شروط العودة الى الاتحاد

كانت هاته أول مرة اسمع فيها هذا الموضوع وبعد بضعة ايام، دعاني الباهي الأدغم لمقابلته في قصر الحكومة بالقصبة وقال لي  " لقد طلب مني بورقيبة بأن اتصل بك قصد رجوعك الى الاتحاد وقد طلب مني للمرة الثالثة بأن استدعيك لهذا الغرض واعتقد ان هذا الخبر سيفرحك وأريد منك جوابا لأبلغه الى الرئيس" فأجبته " انت تعلم الظروف التي تمت فيها ازاحتي من الاتحاد وكل اصدقائي النقابيين أزيحوا معي دون اي احترام لهم ولماضيهم وطلبت لذلك أجلا للتفكير في الموضوع فقال لي اننا سنلتقي من جديد بعد ثمان وأربعين ساعة ومن جهتي فقد جمعت في منزلي حوالي ستين شخصا من رفاقي النقابيين واعلمتهم بمقابلتي مع الهادي نويرة ومع الباهي الأدغم وقررنا قبول الرجوع الى الاتحاد مع الشروط التالية:

1) استقلال الحركة النقابية

2) تمكيننا من الرجوع الى المنظمة حالا

3) تكوين مكتب وقتي للاتحاد تكون مهمته تجديد الانتخابات من القاعدة الى القمة.

وبعد ان سلمت الباهي الأدغم هاته الشروط استدعاني بعد اسبوع من ذلك وقال لي انه موافق عليها، وبنفس المناسبة دعاني الى مرافقته الى قفصة." 

[ وهنا اضع ملاحظة بين قوسين خلاصتها (ان الباهي الأدغم طلب من الحبيب عاشور بأن يحتفظ معه بالمكتب التنفيذي بعضوين كانا مع البشير بلاغة وهما عامر بن عائشة(14) ومصطفى مخلوف(15) واضاف ثالثا لم يقع اشتراطه عليه وهو الحبيب الشاوش (16).

وقد اظهر هؤلاء الثلاثة في بداية عهدتهم مع الحبيب عاشور اخلاصا كبيرا له وجدية في العمل أدهشته هو نفسه وان كان ذلك قد ظهر في فترة كانت فيه صداقة الحبيب عاشور والهادي نويرة الذي اصبح فيما بعد وزيرا أولا في أوجها وكانوا في حاجة للتقرب للهادي نويرة وقد ظهر فيما بعد انهم كانوا أعين الحزب في الاتحاد]

أعود لترجمة بقية ما جاء في مذكرات الحبيب عاشور فقال: " رافقت الباهي الأدغم الى قفصة اهم مركز منجمي بتونس وفي اجتماع هناك اعلن عن التحول الذي سيحصل بالاتحاد او بالاحرى بإعادة الوضعية القانونية الشرعية وقد كان لهذا الخبر الذي ألقاه الوزير الاول لآلاف العمال الحاضرين بالاجتماع ان بعث فرحة عارمة.وعند رجوعي لتونس وبدار الاتحاد حضر كل المسؤولين القدامى وكان يوم الاحد 18 جانفي 1970."

 في الحلقة القادمة: رجوع الحبيب عاشور ورفاقه للاتحاد  ومرحلة جديدة من النضالات.

أحالات وشروح

(1) مجلس الجمهورية كان يتركب من اعضاء الحكومة والديوان السياسي للحزب.(2) الباهي الادغم أحد مناضلي الرعيل الاول كاتب الدولة للرئاسة (الوزير الاول) والدفاع الوطني والوزير الاول من 1956 الى نوفمبر 1970.(3) القطاعات الثلاثة هي العمومي والخاص والتعاضدي (4) عبدالعزيز العروي، صحفي بارز، اشتهر بالخصوص بنقده اللاذع لعديد الظواهر وبحكايات العروي التي اخرجتها التلفزة التونسية في عدة حلقات.(5) حسان بلخوجة تولى عدة مناصب منها ادارات البنوك ثم وزارات التجارة والصناعة والفلاحة والخارجية.(6) عبدالرزاق الرصاع من اطارات وزارة المالية وقد ارتقى الى منصب وزير لعدة سنوات (7) عبدالله فرحات نقابي من البريد، تولى ادارة الديوان الرئاسي ووزارات البريد والفلاحة والدفاع الوطني.(8) احمد المستيري من اوائل اطارات دولة الاستقلال، تولى عدة وزارات وعدة سفارات منها باريس والجزائر، اختلف مع بن صالح وغادر الحكومة في 1968 وعاد في 1970، اختلف مع بورقيبة حول الديمقراطية في الحزب وغادر مرة اخرى في 1971، أنشأ حركة الديمقراطيين الاشتراكيين المعارضة في 1978.(9) البحري قيقة، محام اشترك مع بورقيبة في تأسيس الحزب الدستوري الجديد سنة 1934.(10) الهادي نويرة، محام، وزير ثم محافظ البنك المركزي من 1958 الى 1970 ثم وزير أول الى 1980.(11) محمد المصمودي من مناضلي الرعيل الاول،وزير الاعلام ثم سفير تونس في باريس، وزير الخارجية من 70 الى 1974 تاريخ ابعاده اثر امضاء قرار الوحدة بين تونس وليبيا.(12) البشير بلاغة، نقابي، والي تونس العاصمة، نصب على راس الاتحاد في مؤتمر صوري سنة 1965.(13) علالة العويتي، الكاتب الخاص للرئيس الحبيب بورقيبة. (14) عامر بن عائشة، اطار دستوري ونقابي، أبعد من الاتحاد سنة 1976، مدير مساعد في الحزب.(15) مصطفى مخلوف، غادر الاتحاد سنة 1977، الحبيب الشاوش، غادر الاتحاد سنة 1976.