كمال العيادي(الكينغ) الى البشير القهواجي :خذ كتفي واستند عليها، فعكَازي أحتاجه، لأسندكَ معي، وأتوكَأ عليه
" دعكَ من كلِّ ما يُشاعُ عنيّ, وهو صحيحٌ على كلّ حالٍ, من أنّني مِزاجيٌّ وأشطُّ في المُبالغةِ ولا ينبغي التّعويل كثيراً على ما أصرّحُ بهِ في نُصوصي وخربشاتي وأنّني أتحرّكُ في رواقِ الحياةِ بروحٍ مُستفزةٍ كلّ الوقتِ تقريباً, وجسدٍ نحيلٍ, لم يُبارك اللهُ في نبتةٍ فيه أكثر ممّا باركَ في مُضغتيْ قلبهِ ولِسانهِ.
ودَعكَ من أنّني غير أمينٍ في القَيسِ والعَدِّ ولا في المِيزانِ, كلّما تعلّق الأمر بالقيروانِ. وأنّني أزيدُ كثيراً, وبشكلٍ مفضوحٍ في مِساحتها وأمدّد ببذخ في طولِ أسوارِها وقِبابِها وأبوابها وأقواسها ولا ألتزم إطلاقاً بمُقرّرات كُتب التاريخِ والجُغرافيا حين يتعلّق الأمرُ بحدودِها التاريخيّة أو الجُغرافيّة.
ودَعكَ من أنّني أضلّل العابرين كثيراً وأقّدم لهم بياناتٍ مغلوطةٍ تماماً كلّما كتبتُ عمّا حباها اللّه بهِ من خيراتٍ وضيعاتٍ عامرةٍ ورزقٍ وفيرٍ وكُنوز مدفونةٍ في زوايا لم تُوجد في يومٍ من الأيّامِ, وأنّني أقدّمها دائماً وكأنّها عروس من الجّمان ترفلُ في أثوابٍ من الزّبرجد والعنبرِ والماسِ واللؤلؤِ, وهي التي لا يكادُ حالها يخفي على قريبٍ أو بعيدٍ, وهي التي عانت وتُعاني منذ قرنٍ من الزّمان من الإهمالِ والنّسيانِ والجُحودِ واللامُبالاةِ, وأنّ نِصفَ شبابها عاطلٌ عن العملِ وبلا موارد رزقٍ, وأنّ معاملها ومصانعها تُعدّ على أصابعِ اليد الواحدةِ أو أقلّ.
وأنّ الحُفرَ فيها أكثر من المُشاةِ في شوارعها, وأنّها مُغبرّة, مُتورّمة, منهوكة, موجوعة, مُهانة, ذليلة من كثرة الوحل والزّبالة والخصاصة وكثرة الغُبارِ والناموسِ والفقرِ والحاجةِ والإذلالِ والضيقِ والاختناق صيفا, وهي الغارقة في الوحلِ الآسِنِ ومياه المجاري الحائضة حين تفيض بنزقٍ وتتطاولُ على مدينة المقابر والزّوايا العجوز شتاء..وأنهّا..يا لو أنّني أكملتُ في وصفِ حالِها, لأجهشتَ قبلي بالبُكاءِ على أحوالِها, ولأشفقتَ عليها من تلاقي كلّ هذه المصائب والمِحن وفساد الحُكّام والظّلم والرزايا عليها, وهي التي لم تتعوّد بدلالٍ, وهي التي لم ترفل في عُرسٍ ولم تُشنشِنْ يومًا برنّةِ الخُلخالِ. وهي التي لا يخطر حجم وجيعتها وصبرها وعزّة نفس طينها وأهلها على بالٍ.
فهذا جزء من سور باب الجلاّدين ينهار مع أوّل سحابة تمطر القيروان… وتخطف أرواح ثلاثة أبرياء، بسبب الإهمال واللامبالاة و عدم الاكتراث لنداءات أهل القيروان من الخبراء منذ سنوات طوال…
وهذا الشاعر القيرواني الكبير محمد الغزّي يرحل عنّا، فنكتفي بتثبيت نصب صغير متواضع وعلى عجل، لذرّ الرّماد على العيون. وكان الأجدر أن يطلق اسمه على أحد الشوارع أو الأنهج بالقيروان، أو تسمية دار الثقافة باسمه، وهي دار الثقافة الوحيدة بالمدينة، والتي مازالت تحمل اسم اسد بن الفرات، وهو قائد حربي دمويّ، جاء القيروان يافعا وعاش بها بضع سنوات ورحل عنها…
وهذا الشاعر والمسرحي الكبير البشير القهواجي يعاني أمرّ حنظل العيش وقسوة ظروف الحياة، وكلّ دخله الشّهريّ هوّ مبلغ ثلاثمئة دينار، تحتاج عالم رياضيّات لتوزيعها على ثلاثين يوما وتغطية حاجياته من سكن وهاتف وفواتير ماء وكهرباء وملبس وغطاء وطلاء وورق لقصائد الرّثاء… وهو يعيش بيننا، ويتمنى الموت الكريم، ينقذه من مذلّة السّؤال وشفرة سكين عزّة النّفس.
فلك الله يا قيروان… فحزنك عظيم… وموجع… والأشدّ من ذلك، أن يهان أبناؤك الشعراء والمبدعين… لك الله يا سيّدة المدن ومنبع الإبداع والإلهام…فخذ كتفي يا بشير القهواجي، واستند عليها، فعكَازي أحتاجه، لأسندكَ معي، وأتوكَأ عليه."
* الصورتان: البشير القهواجي وكمال العيادي (الكينغ)
* من ملف خاص بالمبدع البشير القهواجي، اعداد محمد الهادي الوسلاتي، الشعب الورقية عدد 1791 بتاريخ الخميس 28 مارس 2024.