ثقافي

لطفي عيسى عن بشير القهواجي: ذاك الذي يطلب فيما يخطّ الـمُحال ويبخس الأحبة أشياءهم

ما الذي يمكن أن يستحضره بعيد الدار في حق نزيلها؟ لا شيء عدا ما اندسّ في الخلد من ذكريات خَفَتَ لمعها في غبش ليل الأيام وخوالي الأزمنة.

لست على يقين من أنني قد خبرت البشير القهواجي أو سبرت طباع من أرجو له تمام التعافي وهو طريح الفراش بالمستشفى العسكري، جيدا. لذلك لا اريد أن أضع نفسي في زمرة من رافقوه أو قاسموه الأيام والأعمال أيضا. بيد أن الظن عندي أنني قد أجهدت نفسي في لقاءاتي الخاطفة معه لكي أتفادى تقلب مزاجه وعنت التصادم معه. هو يكبرني بسنوات ليست بالكثيرة، لكنها كافية لبناء مسافة أمان بيننا. كنت أعترضه أيام شبيبتي بمحاج القيروان ومقاهيها وقاعات عروضها القليلة، القامة الفارعة، وانسدال المعطف، والكتاب والصحيفة والمجلة بين أصابع رهيفة طويلة قٌدت لورق ودواة. لفافة التبغ وكثافة الشارب، غنج التقاطيع، وكثاثة الشعر.

كان زمانها يطحن أحرفا لتتحول بين يديه إلى معافى الكلم، البليغ في سبكه العميق في دلالته ومعانيه. حدثني مطوّلا عن "محاربه البربري" وعن "بيارق الله" وعن رواية "الدّمل الفوضوي"، تلك التي لم تر النور. قرأ لي أبيات مما اجترح أو ترجم إلى لغة الضاد. وأودعني بعضا من عناوين أمهات، قال أن في الاطلاع على مضامينها قدرة لا تمارى إلى رسم خُلَّبِ الآفاق.

ذلك كل ما يعنيني الاحتفاظ به بخصوص شخصية بشير الوديعة، أنا الذي أدركت شفرة مزاجه القلق، مُتنبِّها إلى جمال الرفقة التي ربطته بحمادي السكيك، وهو رجل رسم قيروانه وهو يجوب أزقتها على عجلة.

ولما التقينا صدفة بعد أكثر من عشريتين خارج أسوار مدينته التي كان يكره مفارقتها. جلسنا بما يكفي رجل غير مُستعد للجلوس مثلي بمقاهي ومطاعم معروفة، تتوسط عاصمة رثة انفرط عقد هندستها المهملة، فبدت في غاية الإهمال والقماءة، كما التقيته مرارا بمقر جريدة الحرية زمن اشرافه على كراستها البديعة. أودعته نصوصا استظرفها ونشرها بكراساته، كما رافقته حيث يهجع، لكي نراجع سوية ما التبس من صياغة بعض من فقرات نسخة النشر من كتاب "مغرب المتصوّفة".

كنت ولا أزال احترم في شخصه صرامته في تجريد المبنى والاكتفاء بواضح الدلالة وجميلها، حتى وإن صَحِبَ ذلك رَهَقًا، كشف لي وكذا للكثيرين مثلي على سوءات تمسكه الطفولي بطلب المستحيل واندفاعه الأعمى إلى تبخيس جهد صُحبة وأحبّة، قاسموه شغفه بالمعرفة الجذلى، وانتصاره المعلن لفضول المستزيدين./.

* لطفي عيسى أستاذ التاريخ الثقافي بجامعة تونس ( نشر في جريدة الشعب الورقية بعددها الصادر يوم 28 مارس 2024)