هل بلغ مشروع وجود الكيان مرحلة العد التنازلي مع معركة طوفان الأقصى؟
الشعب نيوز/ تونس – تختار كل ثورة تحريرية اسلوبها المناسب للتصدي للمستعمر. فقد استعمل غاندي المقاطعة الاقتصادية لمقاومة بريطانيا المهيمنة على العالم اقتصاديا وتراوحت آليات منديلا بين الاحتجاج السلمي والصدام الدموي في شوارع المدن، أما في الجزائر وتونس والمغرب فقد لاذ المقاتلون برؤوس الجبال والشعاب والوهاد حيث لعبت الطبيعة دورا فاعلا في النضال الذي كان يتراوح بين التجلي والتخفي.
في فلسطين، اعتمدت منظمة التحرير الفلسطينية على توجيه ضربات خاطفة وموجعة لمؤسسات الكيان الصهيوني من داخله وخارجه، غير أن حماس المتجذرة في غزة ابتدعت شكلا جديدا للنضال المسلح في القطاع ــ الذي لا تزيد مساحته عن 365.000 كم مربع بطول يبلغ 41 كم ، ويتراوح عرضه من 6 إلى 12 كيلومترًا ــ فاختارت حفر شبكة من الانفاق والتمدد فيها ولعلها استفادت من التجربة الفيتنامية عندما شن هوشيمنه Hồ Chí Minh حربه المدمرة ضد الفرنسيين ثم ضد الامريكان ولعلها استفادت أيضا من المهربين الذي يتحركون بين صحراء سيناء والقطاع.
هذا الاسلوب القتالي الذي يعتمد التجلي والتخفي ساعد المقاتلين على توجيه ضربات خاطفة للآلة العسكرية الصهيونية دون ان تتمكن من القبض على اي مقاتل طيلة المعارك وهذا ما ابهر العالم.
إنها المعركة الاولى منذ عقود التي يشعر فيها الكيان الصهيوني أنه غير آمن وأن وجوده في مهب الريح وهو مرتبط بموازين القوة والضعف، فالقوي لن يبقى دوما قويا والضعيف لن يبقى دوما ضعيفا وان الضعف ليس رذيلة عند الفارس الذي يكبو به الجواد فينهض ويواصل المسيرة. وان القوة لن تكون فضيلة إلا إذا ارتبطت بالقيم الانسانية . وهذا ما تجلى من خلال المعاملة الإنسانية بشهادة أسرى الكيان. فكيف ردعلى هذا الانتصار؟
الكيان الصهيوني يرد الفعل
استطاعت المقاومة في يوم واحد، يوم 7 أكتوبر 2023، أن تسقط السرديات الوهمية التي قام عليها الكيان الصهيوني، وكردة فعل على هذا الانتصار شن حربا شرسة برا وبحرا وجوا مستعملا كل أنواع الأسلحة بما فيها المحرمة دوليا على الشعب الفلسطيني الأعزل استمرت الى الان، ذهب ضحيتها ما يناهز 34 الف شهيد غير الجرحى والدمار والتشريد والتجويع، متحديا النداءات الانسانية وقرارات المنتظم الدولي.
إشكاليات معركة طوفان الأقصى
من الأكيد أن المؤرخين سيقيّمون هذا الحدث وسيسلطون الأضواء على ما ظهر وما خفي بعد الاطلاع على وثائقه وقبل أن يقول التاريخ كلمته سأحاول أن أبلور بعض الإشكاليات التي تابعتها الجماهير العربية ولعل أهمها:
الإشكالية الأولى: هل الكيان الصهيوني صديق أم عدو؟
بعد أكثر من سبعة عقود من الصراع بين الامة العربية والكيان الصهيوني تعززه الامبريالية العالمية تجرع مرارته أساسا الشعب الفلسطيني دماء ودموعا وتشريدا صار وجود الكيان الصهيوني محل تساؤل قبل معركة طوفان الأقصى وأثناءها وسيتواصل بعدها: هل هو صديق نتحالف معه؟ أم عدو نناضل من أجل اجتثاثه؟
أولا ــ معسكر: الكيان الصهيوني حليف
ضمن هذا المعسكر يمكن أن ننزل كل الأطياف التي طبعت معه أو رضيت بوجوده
1 ــ محور الإسلام السياسي الذي يضم قطر وتركيا والإخوان الذي يدور في الفلك الأمريكي وهو مطبع مع الكيان بطريقة مباشرة أو غير مباشرة
2 ــ محور دول الخليج الذي يرى في وجود الكيان الصهيوني حفظا للتوازن مع محور المقاومة الذي تقوده إيران وهو بوابتها نحو الولايات المتحدة
3 ــ محور الدول التي أبرمت اتفاقيات صلح مع الكيان الصهيوني مثل مصر والأردن
4 ـ محور الدول التي كانت ترى في الكيان الصهيوني حليفا فاعلا في التغلب على أزماتها الاقتصادية والسياسية مثل المغرب والسودان والبحرين
إن أقصى ما تنادي به هو حل الدولتين ولا تود زوال الكيان الصهيوني وقد تحول البعض منها إلى وسطاء في الازمة يصالحون بين الضحية والجلاد وقد تمكنت امريكيا والكيان الصهيوني ان يتلاعبا بهذه المحاور فتحولت إلى وسيط في التفاوض بل مروض لحماس حتى تقبل بشروطه وبذلك حيّده وأخرجه من المعركة
ثانيا ــ معسكر: الكيان الصهيوني عدو
يمكن ان ندرج ضمنه صنفين من الانظمة
1 ــ صنف المقاومة وهي التي تدور في فلك الدولة الإيرانية: حزب الله في لبنان، الحوثيون في اليمن الحشد الشعبي في العراق والنظام السوري
2 ــ صنف الدعم المبدئي التاريخي للقضية الفلسطينية العادلة بقطع النظر عن القيادات والتوجهات السياسية يمكن أن ندرج ضمنها الجزائر، تونس، الكويت وموريتانيا وهو أيضا موقف الشعب العربي من محيطه لخليجه.
الاشكالية الثانية: حق إيران في الدفاع الشرعي عن الذات
أولا ــ فشل أخبث مناورة سياسية لنتانياهو
بعد موجات الإدانة العالمية صار الكيان الصهيوني معزولا فسعى نتانياهو لتغيير موازين القوى لفائدته بتحويله إلى ضحية لإيران مصدر تخوف الغرب وكان أمامه خياران إما أن يستفز إيران في حد ذاتها حتى تهاجمه أو أن يستفز أحد أذرعها وأقربها حزب الله في لبنان وقد تكون كلفته عالية، فكان الخيار الأول وهو أشدها إثارة للكتلة الغربية، حتى تتعاطف معه. فجاءت الغارة الصهيونية على قنصليتها في دمشق في 1 افريل 2024 والتي ذهب ضحيتها 14 قتيلا بما في ذلك قيادات عسكرية من فيلق القدس
ثانيا ــ رد فعل إيران
انخرطت ايران منذ الثورة الاسلامية 1979 في الصراع العربي الصهيوني ـ بقطع النظر عن أسباب حروب الخليج الثلاث ومآلاتها ــ والتزمت بدعم المقاومة وتلقت ضربات موجعة من الكيان الصهيوني والامبريالية الامريكية وآخرها غارة 1افريل ولم تكن طهران ترغب في رد الفعل فأمامها ثلاث أولويات.
أولا ــ انهاء المشروع النووي
ثانيا ــ حاجتها الاقتصادية لأمريكا
ثالثا ــ المحافظة على الانتصار الذي حققته القضية الفلسطينية لدى الرأي العام
لكن بعد حسابات استراتيجية، شنت يوم 13 أفريل 2024 هجوما صاروخيا مدروسا على عدة قواعد عسكرية صهيونية أعلنت عن توقيته مسبقا وأعلمت به أمريكيا الحليف الاول للكيان الصهيوني حتى انه اعتبر مسرحية.
قرئ هذا الهجوم قراءتين:
1ــ هجوم فاشل عسكريا وسياسيا
حمل هذا الهجوم على أنه فاشل عسكريا وسياسيا فقد استعد له الحلف الأطلسي والكيان الصهيوني بل حتى الاردن وأسقط أغلب صواريخه ومسيراته كما أنه قلب موازين القوى السياسية لفائدة الكيان الصهيوني الذي صار يحظى بدعم الغرب ضد إيران وكانت القضية الفلسطينية هي الخاسر الأكبر.
2 ــ هجوم ناجح
لم يكن هدف القيادة الإيرانية منه الانتصار بل أرادت من خلاله توجيه 3 رسائل للداخل وللخارج فعلى مستوى الداخل أكدت للرأي العام الإيراني:
أــ أنها دولة ذات سيادة وقنصلية دمشق جزء من سيادتها
ب ــ أنها قادرة على رد الفعل متى أرادت
ج ــ ان القضية الفلسطينية من أهم أولوياتها
وعلى المستوى الخارجي سجلت حضورها على الساحة العسكرية والسياسية
ـ أنه من حقها الدفاع عن النفس حسب ما يقره القانون الدولي وأن الكيان الصهيوني دولة مارقة
ــ لفت انتباه الدول النافذة إلى أن ايران دولة محورية في المنطقة وتملك من القوة ما يجعلها قادرة على ضرب العمق الصهيوني رغم المظلة العسكرية الأمريكية وهي مستعدة لرد الفعل متى اضطرت لذلك.
ــ ضرورة أخذها بعين الاعتبار في البحث عن الحلول التي تهدف لحل القضية الفلسطينية وإرساء دعائم الاستقرار بالمنطقة.
وبقطع النظر هل كان الهجوم ناجحا أم فاشلا وهل كان اختيارا أم اضطرارا فقد سجل حضور الدولة الإيرانية كلاعب أساسي في الساحة الاقليمية والدولية
الإشكالية الثالثة: المعركة بين التوقف والاستمرارية
بقدر ما كان المجتمع الدولي بشعوبه ومؤسساته يؤكد على ضرورة ايقاف نزيف الدم والتدمير فإن الكيان كان مصرا على مواصلة الحرب فهل في ذلك جموح نحو الانتقام أم ان هناك أهدافا استراتيجية لم تتحقق؟
إن الإعلام الصهيوني ما لبث يؤكد أن توقيف القتال مرتبط بتحقيق هدفين هما:
تحرير الأسرى والقضاء على حماس، لكنه يخفي الأهداف الاستراتيجية للكيان الصهيوني منذ نشأته ويعتقد أن معركة طوفان الأقصى فرصة لإنجازها وهي:
1 ــ إقامة الوطن البديل في صحراء سيناء
فقد أجبر الاحتلال سكان شمال غزة على النزوح نحو منطقة رفح المحاذية لصحراء سيناء أين ستقام الدولة البديلة وهو يهدد بالهجوم عليها حتى يضطر النازحين للهجرة القسرية نحو مصر وهو ما رفضه الفلسطينيون
وغامروا بالعودة لشمال غزة تحت النيران الموجهة لهم.
2 ــ وأد امل معركة طوفان الأقصى
إن الكيان الصهيوني مسكون بمقولة ابن غريون مؤسس الكيان الصهيوني والتي مفادها " أن استمرارية وجود هذا الكيان رهينة قوة جيش الدفاع كقوة عسكرية متفوقة، فمتى انهار هذا الجيش ينتهى الكيان ".
وقد كانت معركة 7 أكتوبر أول ثغرة في الجدار الحديدي الذي بناه الكيان والذي لاح منه بريق أمل للنصر. فكان رد فعله عنيفا ومدمرا محاولة منه لإطفاء هذا البريق وقتل هذا الامل متناسيا أن أحلام الأمم الحية لا تموت وأن جمرها قد يخبو وهجه ويصبح قبسا تحت الرماد في انتظار ريح صرصر عاتية تذروه فيتحول إلى حريق قد يأتي على من اشعل فتيله. تلك هي العوامل الموضوعية التي جعلت الكيان الصهيوني لا يأبه بالرأي العام العالمي ويتحدى قرارات المنتظم الدولي.
3 ــ البحث عن البديل
سبق للكيان الصهيوني أن توخى طريقة "" فرق تسد"" فارتحل عن قطاع غزة حتى تحكمها حماس كتنظيم سياسي إسلامي مناهض لمنظمة التحرير الفلسطينية وتمكنت حماس من أن تنفرد بالقطاع، لكنها لم تنفرد به لتحكم فقط بل استثمرت تواجدها لتؤسس تنظيما ثوريا مجهزا بآليات عسكرية بها تمكنت من التصدي لآلة الحرب الصهيونية وفتحت ثغرة في جدارها المنيع . وها هو الآن مضطر للجلاء عن القطاع فكان طوال الحرب يبحث عن البديل المطمئن وهو مجال للتفاوض بين الكيان والدول المطبعة معه أو التي هي في طريقها للتطبيع ولم يكن ذلك بالأمر الميسور في غياب إرادة تمكين الشعب الفلسطيني من تقرير مصيره بنفسه.
خطوات ثابتة على طريق النصر
حققت المقاومة في معركة طوفان الأقصى على الأقل ثلاثة مكاسب تاريخية:
أولا ــ إسقاط سرديات الجيش الذي لا يقهر والمخابرات العابرة للقارات والكيان الآمن الجاذب والبروباغندا الخادعة.
ثانيا ــ الصمود الأسطوري الذي أبداه الشعب الفلسطيني في غزة أمام القصف الممنهج ــ الذي مارسته الآلة العسكرية، جوا وبرا وبحرا متوخية كل أساليب الدمار بما فيها الاسلحة المحرمة دوليا والإبادة الجماعية ــ رافضا التهجير القسري متمسكا بالبقاء في فلسطين فوقها أو تحتها.
ثالثا ــ يقظة الضمير الانساني
بعد سبات عميق نتيجة للدعايات المضللة والوعود الخادعة يستيقظ الضمير العالمي ويعرف حقيقة القضية الفلسطينية وهي اكبر صفقة تمت في القرن العشرين بين الامبريالية والصهيونية على حساب الشعب الفلسطيني والأمة العربية فلم تعد القضية الفلسطينية منحصرة في الشعب الفلسطيني وأسرتها العربية والإسلامية فجريمة الإبادة الجماعية والتدمير الشامل والتهجير القسري ـ التي ارتكبها الكيان الصهيوني على مرأى ومسمع من العالم وفي تحد له ــ أيقظت المشاعر الإنسانية لدى الأحرار فتحركت الجماهير الشعبية في شوارع العالم فالتقطتها دولة أفريقيا الجنوبية الحاملة لموروث مونديلا الانساني وقدمت القضية الفلسطينية ـ مظلمة القرن العشرين ـ لمحكمة العدل الدولية . لم تتخلف هذه المؤسسة الإنسانية رغم الكوابح ـ التي تشدها للامبريالية ـ عن إدانة الكيان وفضحه.
وهكذا أسقطت هذه القضية الأقنعة عن هذا الكيان الذي كان يقدم نفسه على انه حمل وديع في غابة من الوحوش المفترسة فنزع عن نفسه الصفة الانسانية التي تجعل منه شعبا بما تتمتع به الشعوب من قيم حضارية تكون بها قادرة على التعايش والتواصل مع الآخر، فقد ظهر على حقيقته، فهو أقرب إلى لفيف من قطعان المرتزقة تؤدي وظيفتها ثم تنحل أواصرها عاجلا أم آجلا، وهو بين خيارين لا ثالث لهما.
1ــ الرضوخ لحل الدولتين الذي اقره المنتظم الدولي وفي ذلك موت بطيء ونهاية للحلم التوراتي << أرضك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل >>
2 ـ التعنت والتمسك بنظرية شعب الله المختار التوراتية وفي ذلك النهاية الحتمية للكيان الصهيوني فكل شعوب العالم أصبحت مقتنعة بأن مثل هذه الرؤى الوهمية وهذه الممارسات اللاإنسانية صارت خارجة عن التاريخ وهي مؤشر على بداية العد التنازلي لنهايته.
والخلاصة انه مهما كانت جسامة التضحيات التي تجرع مرارتها الشعب الفلسطيني استشهادا وتشريدا ودمارا، فإن تحرير فلسطين هو رسالة أشمل فهي رسالة كل إنسان يرفض الظلم ويقر بحق الشعوب في تقرير مصيرها وتواجدها على أرضها. وقد اتضح لكل أحرار العالم أن الكيان الصهيوني من خلال ممارساته ـ منذ نشأته ــ هو نظام استئصالي مدمر للقيم الانسانية وفي خدمة الامبريالية لكني أعتقد:
أـ أنه من الصعب أن يدمر الكيان الصهيوني من الخارج فكلاب الحراسة عديدة وشرسة ولا تسمح باختراق الاسوار لكنه معرض للتفكك من الداخل فهو كيان مصطنع وهش. وقد بدأت الهجرة المضادة عند الإحساس بالخطر مع معركة طوفان الأقصى والهجوم الإيراني.
بـ ـ أن فلسطين كانت وما زالت وستبقى ارض للتعايش والحرية والسلام والمحبة، وهذا ما بدأت تدركه الإنسانية وخاصة الشعوب الأوروبية التي عملت الصهيونية على تغييب وعيها خلافا لطبقتها السياسية الني مازالت مرتهنة لمالها ولدعايتها وبهما تتحكم في مصيرها السياسي.
سالم الحداد. زرمدين. أفريل 2024
*مجتزء من دراسة مطولة تحمل نفس العنوان أعدها الكاتب للنشر في كتاب يصدر قريبا