100 عام على العمل النقابي في تونس
الشعب نيوز/ عبد العزيز بوعزّي:
بحلول هذا العام 2024 تكون قد مرت 100 عام على تأسيس أول نقابة تونسية لحما ودما بقيادتها وقواعدها وهي جامعة عموم العملة التونسيين. ومن حق الشعب التونسي عامة والنقابيين بصورة خاصة أن يفخروا بمرور مائة عام على انخراط التونسيين في العمل الاجتماعي والنضال النقابي. ففي الوقت الذي كان فيه عدد التونسيين لا يتخطى المليونين والبلاد ترزح تحت نير الاستعمار الذي استحكم بمقدرات البلاد و وضعها بيد الرأسمال الصناعي والزراعي الاجنبي الذي لقي دعم الرأسمال الاستعماري ممثلا في البنوك وصناديق الاقراض التي وضعت كل الإمكانيات لخدمة المستوطنين الذين سخروا اليد العاملة التونسية زراعية وصناعية لتحقيق الارباح الطائلة من خلال استغلال جهدهم وظروفهم الاجتماعية القاهرة لتسخيرهم بأضعف الأجور في الأعمال الشاقة في المزارع والمناجم والموانئ.
وكانت البلاد قد شهدت بعد 40 سنة من الاستعمار المباشر تحولات خطيرة ديمغرافيا حيث عرفت المدن الكبرى حركة نزوح واسعة من الارياف التي هجرها سكانها بعدما استحوذ المستعمرون على اراضيهم واقتصاديا بدخول الشركات الصناعية الأوروبية التي تلقفت هؤلاء النازحين للعمل لساعات طويلة بأجور متدنية لا تكاد تسد رمقهم بينما كان نظراؤهم من الجاليات الأوروبية من ايطاليين واسبان ومالطيين يتلقون أجورا مضاعفة أما الفرنسيون فكانوا مميزين بمنحهم أجورا أعلى من الجميع عرف "بالثلث الاستعماري " ونتيجة ذلك تردى الوضع الاجتماعي التونسيين فإلى جانب التشرد والفقر والأمراض والاوبئة التي كانت تؤدي بحياة المئات عاش التونسيون سنوات صعبة بتفشي المجاعات التي فتكت بالآلاف حتى أصبح التونسيون يؤرخون بأعوام المجاعة كعام "الشر" وعام "الجراد " الذي أعقب سنوات جفاف وقحط اضطر معها التونسيون على أكل الجراد.
كل هذه المآسي التي عاشها التونسيون إلى جانب الاستغلال الذي يكرسه عليهم الأعراف الأجانب وسياسة التمييز وتفضيل العنصر الأجنبي بعثت فيهم الوعي المبكر بالانخراط في النقابات الأجنبية ومنها نقابة (سي جي تي) CGT وهي الكنفدرالية العامة للعمال التي يدعمها الحزب الاشتراكي الفرنسي وهي نقابة فرنسية لذلك كان يهمها وضع العمال الفرنسيين بالدرجة الأولى والاجانب بدرجة ثانية بينما لم تكن تعير اهتماما لمطالب العمال التونسيين الذين يتعرضون للاستغلال وتدني الأجور وحوادث الشغل في المعامل والمناجم والطرد التعسفي. وهو ما دفع بالعمال التونسيين إلى البحث عن بديل يتبنى مطالبهم ويذود عنهم تعسف المستعمر الرأسمالي العنصري الجشع.
وقد ارتقى وعي هؤلاء المال رغم تدني مستواهم التعليمي والثقافي حيث كان أغلبهم من الاميين غير القادرين على "فك الحرف" وقد التقط اللحظة محمد علي الحامي الذي لم يزد تعليمه عن بعض سنوات الدراسة الابتدائية لكنه استطاع بفطنته تعلم اللغات الفرنسية والالمانية التركية حيث عمل سائقا للقنصل النمساوي وعمل في ليبيا مع الأتراك وسافر إلى تركيا وألمانيا حيث تأثر بالفكر الاشتراكي وتفطن إلى كيفية بعث النقابات العمالية ثم عاد إلى تونس التي كانت تشهد في بداية العشرينات أزمة اقتصادية واجتماعية حادة فسنحت له الفرصة لعرض برنامجه الاقتصادي الاشتراكي، الذي يقوم على تأسيس شركات تعاونية زراعية وصناعية وتجارية ومالية في أهم مراكز البلاد. لكن هيمنة رأس المال الأجنبي على الدواليب الاقتصادية، وقلة وعي المجتمع، وجهته في 29 جوان 1924 إلى بعث جمعية التعاون الاقتصادي في المجال التجاري فقط، والتركيز على ضعف المقدرة الشرائية للعمال الوطنيين مقارنة بالفرنسيين والأوروبيين.
وفي أوت 1924، دعم الحامي قرار عمال ميناء تونس الدخول في إضراب عن العمل، للمطالبة برفع أجورهم ومساواتها بنظرائهم من الفرنسيين، وطلب العمال المضربون من الحامي -الذي ذاع صيته في الأوساط الشعبية- الإشراف على الإضرابات، ونتج عن هذا التفويض تكوين لجنة عمل ولجنة إضراب للمتابعة التوجيه ثم شرع الحامي في تشكيل هيئات نقابية تونسية منتخب. ومع تفشي الإضرابات في كامل الموانئ التونسية، أدرك الحامي أن البلاد تعيش نقطة تحول هامة يجب عدم التفريط فيها، فقرر في نوفمبر 1924 تأسيس منظمة نقابية سماها "جامعة عموم العملة التونسيين" التي جمعت كل الأطياف الفكرية والتوجهات السياسية والفئات الاجتماعية. في 03 ديسمبر 1924 تم التصويت لاختيار أعضاء اللجنة التنفيذية المؤقتة لـ "جامعة عموم العملة التونسيين" في قاعة الشغل بنهج الجزيرة، وانتخب الحامي كاتبا عاما لها.
وإذا كانت المنظمة النقابية التونسية قد لقيت صدى واسعا بين الاوساط العمالية والشعبية التونسية وأيدها بعض الدستوريين أمثال أحمد توفيق المدني والشيوعيين التونسيين الذين اعتبروا ذلك إسهاما مهما في إضعاف الإمبريالية العالمية. فقد عارض اتحاد النقابات الفرنسية وخاصة كاتبها العام "جواشيم دورال" فكرة إنشاء حركة عمالية تونسية مستقلة حيث سعت النقابة التونسية الوليدة إلى استقطاب العمال التونسيين، وذلك إضعاف نقابة "الكونفدرالية العامة للشغل.
لكن تغير موقف الدستوريين والشيوعيين والاصلاحيين من جامعة عموم العملة التي اجتهدت قيادتها وفي مقدمتهم محمد علي الحامي على استقلالية المنظمة عن الأحزاب السياسية جعلها تواجه منفردة ضغط السلطات الاستعمارية وعلى رأسها لوسيان سان" المقيم العام الفرنسي بتونس آنذاك الفرصة لتقديم الحامي في صورة العدوّ اللدود للسلطات الفرنسية، مستدلا على ذلك بمساندته لتركيا وألمانيا أثناء الحرب العالمية الأولى، ومصورا "جامعة عموم العملة التونسيين" على أنها منظمة متواطئة مع الشيوعية العالمية.. ففي 5 فيفري 1925، اعتقلت السلطات الفرنسية الحامي ورفاقه وقدمتهم للمحاكمة بتهمة التآمر على أمن الدولة، وبعد إيقافهم لأكثر من 9 أشهر، حكمت المحكمة الفرنسية في 17 نوفمبر 1925 بنفي الحامي خارج تونس 10 سنوات.
وبذلك أجهضت أول تجربة نقابية عمالية تونسية لكنها كانت قد زرعت بذرة العمل النقابي التنظيم العمالي في تونس لتظهر في نهاية الثلاثينات جامعة عموم العملة الثانية وبعد الحرب الاتحاد العام التونسي للشغل على يد الزعيم الخالد فرحات حشاد. فلنا أن نفخر كتونسيين وكنقابيين بالإرث النضالي الذي خلفه السابقون وأن نعمل على ترسيخ الوعي والنضال النقابي دفاعا عن الشغالين في مواجهة تسلط واستغلال الأعراف.
******** عبد العزيز بوعزّي-القصرين / تونس ********