ثقافي

فوزي الديماسي: الكتابة لحظة عاشقة في ثنايا الوجود والنص الأدبيّ عمل يستبطن العالم، يهدمه ثم يعيد بناءه

الشعب نيوز/ متابعات - يقول عن نفسه أنه " مزدحم بالوطن أمشي في الأرض هوْنا. وأضرب في الدروب مكتظا بحكايات البلد، أعيش اليومي وآكل الطعام وأمشي في الأسواق وألتحم بالخلْق، فأتمثل أسئلتهم وهمومهم، وأقف على رؤاهم وأحلامهم وأشجانهم، وأستمع لأنين الناس، وأستبطن ذلك كله."

هذه بعض من اجابات الاستاذ فوزي الديماسي عن اسئلة طرحها عليه الزميل "أبو جرير " في حوار صحفي نشره في العدد 1803 من جريدة " الشعب " الورقية بتاريخ الخميس 27 جوان 2024 تطرق معه فيه الى عدة مسائل تهم الرواية والنقد.

* أستاذ فوزي كيف تقدم نفسك للقراء؟

- ربما نكتب لرصد لحظة عاشقة في ثنايا الوجود، وربما نوهم النفس بأننا نرسم الشمس على ثغر النافذة، أو نقنع اللب منا بأننا نعمل على اقتفاء آثار رؤانا وصهيل الصباح في منعطفات حلمنا. ونقف أثناء رحلة الكتابة على ضعفنا وعلى طقوس الفناء المتدفق في شرايين فعلنا ذاك، ولكن٬ رغم الضباب المحيط بالطرقات والمسالك نطلق العنان لحنجرتنا لتغني للحياة على كثبان الموت... فربما بزغت الأمنيات من شقوق الليل ومن منعطفات الكلمات....

* الكتابة وجهة نظر. فما هي الزاوية التي ترى من خلالها الكتابة كوسيلة جمالية؟

- لا يبعث عقلي الظاهر في عقلي الباطن شهوة الكتابة والتحبير في كل ساعة وحين، وإنما تطلع علي الكلمات برؤوسها لما تتلبس الكآبة بفؤادي المكلوم، فتتدفق أوجاعي، وتنحدر آهاتي من مرتفعات بركان منسيّ في قيعان ذاتي المتقوقعة على ذاتها، فتهدر أشجاني، ويضطرب اللبّ في جمجمتي اضطراب زورق صغير في عرض النفس المحفوفة بضباب الوحدة والقلق والعزلة والسؤال... فأرقص على جرح الرؤى... وأصيح في وجه الفراغ... وألوذ بصمتي الجريح... لأجلس من بعد ذلك، وذات وجع على حافة سكرات الموت وعسر المخاض، ثم أحمل ريشتي بيد مرتعشة لأرسم بالكلمات شمسا على جبين الأمنيات..

* يقال إن المثقف يعيش الاستعلاء على واقعه وشعبه ويعيش بين الصمت والنفاق. أين نصنف الأستاذ فوزي؟

- أعيش اليومي وآكل الطعام وأمشي في الأسواق وألتحم بالخلْق، فأتمثل أسئلتهم وهمومهم، وأقف على رؤاهم وأحلامهم وأشجانهم، وأستمع لأنين الناس، وأستبطن ذلك كله، فتتقاطع بين جنبي المشاعر الذاتية بالأخرى الموضوعية وتختلط وتتداخل، ثم تخرج علي، وفي غفلة مني كلمات ترصد ليل الشعوب وجراحها وتقتفي آثار أوجاعها لتزف إليها الفجر كلمات، وتبني على الورق مدائن للعاشقين، وترسم بالمداد جنات للكادحين والمسحوقين، وتبشر بغد مشرق للعالمين، وذلك بلغة مجنحة تمتح من أرض الواقع ومن مساحات التخييل معا لتكون من بعد ذلك لسانا إنسانيا، كونيا، ملتصقا ب«الهنا والآن» ومفارقا في الآن نفسه للراهن، وغير محايث للواقع/ المرجع، إذ أن النص الأدبي ما هو بوثيقة تاريخية، وما هو بخطاب سياسي، وإنما هو عمل يستبطن العالم ثم يهدمه ثم يعيد بناءه لا حجارة فوق حجارة، بل عبارة فوق عبارة.

* نعتبرك من أهم الفاعليين نصا في الساحة الثقافية الوطنية. ما ينقص المبدع التونسي ليحلق عربيا وعالميا؟

- أن نؤمن بذواتنا، ونقلع عن ثقافة إلغاء الآخر، ونكفر بمقولة «صاحب صنعتك عدوك» لنكون جديرين باللحظة الكونية وكذلك أخيتها القومية التي تبشر بولادة كتاب تونسيين.

* عرفناك جوالا في متون التاريخ والجغرافيا إبداعيا كيف تروي لنا المسار والمسيرة؟

- مزدحم بالوطن أمشي في الأرض هوْنا. وأضرب في الدروب مكتظا بحكايات البلد.

أنصت لخرير المياه هنا، وهناك، في واد الزيتون (بنزرت)، وفي دجبّة (باجة) وفي بحيرة الخمس بعين جلولة (القيروان) وفي كسرى (سليانة) وقرب عين العتروس في قربص (نابل)، كما أنصت لفحيح الريح في سفوح جبال مطامطة (قابس) وبين شعابها، وفي جبال الزريبة العليا (زغوان) وأطلالها، وفي جبل السرج (سليانة)، وفي جبل الشعانبي (القصرين) زينة البلاد وشرفها، وأشارك البحر عويله وأنينه وأحلامه تحت ضوء قمر وليد على شاطئ المهدية وعلى شاطئ بني خيار (نابل) وعلى شاطئ الرفراف (بنزرت)، وأعانق جلالة التاريخ في دقة (باجة) وفي بلاريجيا (جندوبة)، وفي البروطة (القيروان)، وفي معبد المياه (زغوان)، وعلى ضفة حوض نخلة واد الباي (قفصة)، وعلى القنطرة المرادية في مجاز الباب (باجة)، وفي قصر الجم (المهدية)، وألامس بالبصيرة وجاهة العراقة في الآفاق، وأطرب لأهازيج الكادحين في الحقول والسفوح والدواميس والشعاب، وأبكي لبكاء أطفال عفر براءتهم الظلم والإملاق والخراب في أرياف بني مطير (جندوبة)، فأشاركهم أحلامهم الجريحة، وأعيش معهم آمالهم المعطلة، وأدندن لهم على حافة الوطن «كول البسيسة والتمر يا مضنوني».

ذاك هو البلد الساكن في شغاف القلب بوجهه العبوس الضاحك الحزين المتعب الحالم يتهجى بصوت خفيض شفيف أغنية العودة إلى ينبوع الصباح، أغنية العودة إلى أحضان البلد «يا فاطمة بعد النكد والغصة يدور الفلك وانروحو للمرسى»...

ذلك البلد المجبول على التعدّد والتنوع والاختلاف والتسامح بكنائسه في سوسة، وفي النفيضة (سوسة) وباجة، وزغوان، وبير حليمة (زغوان) ودور العبادة فيه مثل غريبة الكاف، وغريبة جربة، وكنيس المكنين (المنستير) وكنيس شارع الحرية في العاصمة...

* لك حرية الكلام...

- شكرا لهذا المنبر المحترم وشكرا للقائمين عليه، وهذا ليس بغريب على جريدة محترمة فتحت أبوابها لكل الأقلام التونسية ودعمتها ودفعتها دفعا جميلا لنحت كياناتها.