ثقافي

فيلم "الذاكرة السوداء" لهشام بن عمار"

حسني عبد الرحيم / تونس - الفيلم يحكي الحكاية بواسطة أشخاصها الحقيقيين بمعنى إنه تسجيلي لكن طريقة الحكي تجعله فيلمآ روائيآ بإمتياز! ولكن بلا ممثلين فالحكاية هي حكاية التعذيب وابطالها هم انفسهم عدد من ضحايا التعذيب ذلك الزمان وهم الثلاثة الكتاب المرموقين "فتحي بن الحاج يحيى" و"محمد الهاشمي الطرودي" و"عز الدين الحزقي" ثلاثة كُتاب وإمرأة هي أرملة الفقيد "أحمد عثمان الدرداوي" والذي حكي بنفسه في كتابه الخروج من السجن وفي شهادته المنشورة في مجلة "الأزمنة الحديثة" الثلاثة كتبوا كتب عن المحنة في "برج الرومي" حيث تبادل عليهم الجلادون " لكي ينفوا عنهم إنسانيتهم كانوا طلاب علم تجرأوا على مناقشة مايجرى في البلاد و مسألة الحكم الفردي ..

بعضهم أتوا من باريس لكي يفيدوا بلادهم بما تعلموه وهو ضرورة الديموقراطية للتقدم والرفاهية الإجتماعية! كانوا يشكلون تجمع الدراسات الماركسية "آفاق"prespectives والذي ضم عقول وضمائر حية لم يكن ينقصهم المؤهلات ليصعدوا في السلم الإجتماعي المعتاد وقت أن كان الحصول على شهادة جامعية يحقق ذلك ولكنهم آثروا أن يصعدوا مع بلادهم بالإصلاح والتنوير !

كان تجمع آفاق يضم مهارات عديدة في مختلف التخصصات العلمية والأدبية والفنية وخرج من بين صفوفهم أبرز ممثلي الإنتلچينسيا الحداثية في تونس مثل "چلبير نقاش" و"نوري بوزيد" و"الصادق بن مهنى" و"مولدي صبري" و"يوسف وبوراوي الزغيدي" وآخرين..وحتى من قيادات اليسار اللاحق في "العامل التونسي" ك"محمد الكيلاني" و"حمة الهمامي" وآخرون كانوا هم زبدة الإنتلچينسيا التونسية في الستينات وكثيرين من النقابيين والنقاببيات كألاستاذة الجامعية "زينب الشارني" و"فضيلة التريكي" و"كلثوم التريكي و"روضة الغربي "وأخريات من بنات السياسة.

يستحضر المخرج "هشام بن عمار" من لانسميهم ضحايا التعذيب بوجوهم السمحة تملأ الشاشة والتي ليست وجوه ضحايا بل مقاومين للمحنة التى لم تكن تخصهم فقط بل طالت الألاف خلال ذلك العهد وبعدة !والأمر لم يقتصر على البلاد التونسية فحمامات التعذيب ممتدة من المحيط للخليج!

يعود "عز الدين الحزقي" لعين المكان حيث كانت هناك زنازين في موقع 9 أبريل ويتحسر على إزالتها بتعبير مُلهم لقد أزالوا موقع حبسنا وهو تاريخ ينبغي ألا يُنسى حتى لايتكرر!

الشاب الدائم والكاتب الحساس"فتحي بن حاج يحي" أصيل" باب سويقة" المتمرد الدائم والذي أصدر كتابآ منذ سنوات بعنوان" الحبس كذاب..والحي يروح" وهي جملة قالها له احد سجانيه السابقون عند لقائهم مصادفة في الأسواق! يحكي من زاوية شاعرية أخاذة ودون ندم أو حسرة ظاهرة على خياراته .

أرملة المرحوم "أحمد بن عثمان الردواي" الفرنسية"سيمون للوش" تحكي من خلال الرسائل التى كان يرسلها حبيبها من محبسه وهى تصف بدقة ظروف الإعتقال والمشاعر العميقة للفقيد العظيم والتي مافارقته اثناء الإعتقال وبعده حتى وافاته بألمغرب في حادث اليم وهو يقوم بعمل لحقوق الإنسان.

من مآثر هذا الفيلم هو تضمينه للصور التي ألتقطتها بعثة ألمانية رسمية فيما بعد للزنازين الموحشة التى تم فيها بعض التعذيب وخاصة حجرة الصابون !السؤال الذي يطرحه الفيلم لماذا حدثت هذه الوحشية؟ والإجابة على لسان الفقيد الهاشمي الطرودي لكي يفقيدونا انسانيتنا!

والسؤال التالي هل يمكن الغفران؟ والإجابة من "عز الدين": عندما يعترف ويندم المسؤولون عن التعذيب بفعلتهم كجريمة وتعترف الهيئات التى مارسوا ذلك بإسمها بالذنب وتطلب من الضحايا الغفران!وقبل كل شى وبعده عندما تتوقف هذه الجريمة نهائيآ !لكى لايحدث ذلك مرة أخرى مطلقآ. الحضور الرمزي لأعضاء من أسر المعتقلين للعرض في قاعة "الريو" مساء 27 چوان و على مقربة من عين المكان ! وخاصة حضور الصامدة أرملة الراحل "محمد بن جنات" مع حضور بعض من أدلوا بشهاداتهم جعل المشهد لايبدو عرض فيلميآ بل تقرير واقعي وتحذير حتى لاننسى .