عام على حرب غزة: طوفان الاقصى ينسف مساعي التطبيع بين الكيان والدول العربية
مع حلول السابع من أكتوبر، تكون الحرب في غزة قد أكملت عاما كاملا، مخلفة مأساة إنسانية عجز العالم حتى الآن عن وقفها. ونتيجة لهذه الحرب الدامية والمدمرة، تلقى مسلسل التطبيع بين الكيان ودول عربية ضربة موجعة، يقول الكثير من المراقبين إنها أدخلته لمرحلة جمود على أكثر من مستوى. فما مستقبل هذه العلاقات بين تل أبيب والعواصم العربية المطبعة وهل هي مهددة فعلا بالانهيار؟ تحليل.
بعد معاهدة السلام مع مصر في 1979، والمعروفة بـ"كامب ديفيد"، واتفاقية "وادي عربة" للسلام مع الاردن في 1994... عاد قطار التطبيع بين الكيان المحتل والدول العربية ليقلع من جديد في 2020 تحت رعاية أمريكية، في إطار معاهدة أبراهام للسلام، حاملا معه الإمارات، البحرين فالسودان ثم المغرب.
جاء ذلك، في سياق موجة جديدة من التقارب غير المسبوق بين تل أبيب وعواصم عربية، خلفت الكثير من ردود الفعل وسط الشعوب العربية والإسلامية، التي عارضت عموما هذه الخطوة، مستحضرة القضية الفلسطينية ونقاط الاستفهام الكثيرة التي تحيط بمستقبلها، واعتبرت أنها كانت على حساب حقوق الشعب الفلسطيني، بالرغم من التعهدات التي أطلقتها هذه الدول بأن هذه القضية تظل في صلب تحركاتها.
لكن عملية التطبيع لقيت ترحيبا واسعا في الغرب لاسيما من طرف الولايات المتحدة، حيث قال دونالد ترامب عند توقيع المعاهدة: "يوم غير عادي للعالم، سيضع التاريخ في مسار جديد"، قبل أن يضيف: "بعد عقود من الانقسام والصراع، نحتفل بفجرالشرق الاوسط الجديد”.
ضربة موجعة
لكن مسلسل التطبيع هذا تلقى ضربة موجعة مع هجوم "طوفان الأقصى" الذي نفذته حركة حماس في 7 أكتوبر 2023 قبل أن ترد تل أبيب عسكريا عبر حرب "السيوف الحديدية"، والتي خلفت "معاناة مروعة" كما وصفها الأمين العام للأمم المتحدة.
وتسبب هجوم حماس بمقتل 1189 شخصا في الجانب الإسرائيلي، معظمهم مدنيون، بحسب تعداد لوكالة الأنباء الفرنسية. وشمل هذا العدد رهائن قضوا خلال احتجازهم في قطاع غزة. وخُطف خلال الهجوم 251 شخصا، لا يزال 97 منهم محتجزين، بينهم 33 يقول الجيش إنهم لقوا حتفهم. فيما قتل في غضون نحو عام أكثر من 40 ألف فلسطيني وأصيب الآلاف حسب إحصاءات لوزارة الصحة في غزة. كما تم تدمير شبه كلي للقطاع الذي يحتاج إلى مليارات الدولارات لإعادة بنائه. وأفاد تقرير أممي نشر في ماي أن العملية قد تستغرق حتى سنة 2040 على الأقل وقد يطول الأمر لعدة عقود.
ويجمع المهتمون اليوم أن هذه الحرب حكمت على مسلسل التطبيع بنوع من الجمود، وأدخلته ثلاجة الانتظار على أكثر من مستوى، لاسيما مع التنديد الواضح للدول المطبعة بالوضع في القطاع، ودعواتها المتعددة لوقف الحرب مع تمسكها بحق الشعب الفلسطيني في إنشاء دولة.
التوازن الصعب
هذا الواقع الفلسطيني الأليم لم يشجع حكومات الدول العربية المطبعة في الاستمرار في نهج سياسة دبلوماسية منفتحة كليا على الكيان. وبادرت في خضم الضغط الشعبي والوضع الفلسطيني الكارثي إلى الخروج بمواقف قوية وصارمة تجاهه، لاسيما مصر والمغرب والأردن في توازن صعب، يمكّنها من الحفاظ على شعرة معاوية مع الدولة العبرية، ويقنع في الوقت نفسه شعوبها بأنها ترفض ممارسات الاحتلال.
"فالحرب في غزة أوقفت مؤقتا التطبيع العربي مع الكيان...ويبدو واضحا أن البرودة في العلاقات بينه والدول المطبعة مرتبطة بموقف من حكومة نتانياهو واليمين المتطرف أساسا، وهو ما يفسر قرارات طلب دول عربية من حكومة تل أبيب تأجيل إرسال السفراء أو الدعوة إلى المغادرة" حسب المحلل السياسي الأردني عمر الرداد، خبير الأمن الاستراتيجي/ مدير عام الطريق الثالث للاستشارات الاستراتيجية.
الأردن تسحب سفيرها لدى تل أبيب
توترت العلاقات بين الأردن والكيان على خلفية الحرب في غزة. واستدعت عمّان مطلع نوفمبر الماضي سفيرها لدى الكيان، كما أبلغته بعدم إعادة سفيره الذي سبق أن غادر المملكة.
واتهم وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي الكيان بـ"دفع المنطقة كلها إلى هاوية حرب إقليمية"، مضيفا أن "هذه الحرب سيكون لها انعكاسات خطيرة ليس فقط على المنطقة بل على العالم برمته، وانه على العالم كله أن يتحرك فورا للجم هذه العدوانية لأن الدمار سيطال الأمن والسلم الدوليين".
وفي 17 سبتمبر، أكدت الأردن ومصر رفضهما التام لتصفية القضية الفلسطينية أو تحويل الأراضي الفلسطينية إلى مناطق غير قابلة للحياة، بهدف تهجير الفلسطينيين. وهذا في اتصال هاتفي بين الملك عبد الله الثاني والرئيس السيسي، وفق بيان للمتحدث باسم الرئاسة المصرية.
مصر و"الدور التاريخي في قيادة عملية السلام"
أما مصر التي كانت أول المطبعين العرب مع إسرائيل، فما فتئت تلعب دور الوسيط إلى جانب قطر وواشنطن، لتقريب وجهات النظر بين الكيان وحماس وإيجاد مخرج من هذه الحرب الدامية دون أن يلوح في الأفق أي أمل في المستقبل لإنهائها.
ولم تتردد مصر في التوجه بلهجة حادة للكيان في محطات مختلفة منذ اندلاع الحرب، آخرها كانت جراء الخلاف بين تل أبيب والقاهرة حول محور فيلادلفيا، الذي يسعى نتانياهو لوضع اليد عليه، معتبرا أنه "شريان الحياة لحماس".
ولم يتأخر رد القاهرة على محاولة نتانياهو "الزج باسم مصر لتشتيت انتباه الرأي العام "، وعرقلة جهود الوساطة للتوصل لاتفاق لوقف إطلاق النار.
واعتبر بيان لوزارة الخارجية المصرية أن التصريحات تستهدف: "تبرير السياسات العدوانية والتحريضية"، مشددا على حرص مصر على مواصلة "دورها التاريخي في قيادة عملية السلام" في المنطقة.
ورأت وسائل إعلام في الكيان أن القاهرة تتلكأ في اعتماد سفير بلادها الجديد بعد ما أنهت السفيرة السابقة أميرة أورون مهمتها، حيث "لم يحصل حتى الآن على موافقة مصر على تعيينه"، حسب ما ذكرته سكاي نيوز.
المغرب: الوقف الفوري "للعدوان غير المسبوق"
وإضافة إلى مصر والأردن، كان المغرب واضحا في موقفه تجاه الوضع في غزة. ففي شهر ماي، طالب الملك محمد السادس بضرورة الوقف الفوري "للعدوان غير المسبوق".
من جهته، دعا الأمين العام لحزب العدالة والتنمية المغربي المعارض عبدالله بنكيران السبت 22 سبتمبر إلى إعادة النظر في اتفاق التطبيع بين بلاده والكيان، معتبرا أنه "لم يعد له مبرر أخلاقي". علما أن حزبه في شخص رئيس الوزراء السابق هو من أشرف على عملية التطبيع.
وعطلت الحرب في غزة مؤقتا التقارب المغربي الإسرائيلي في عدة مجالات عسكرية وأمنية كبيع طائرات دون طيار وبرامج تجسس، وأخرى علمية وأكاديمية.
الإمارات وشرط "إنهاء الاحتلال"
ولم تخرج علاقة الإمارات بإلكيان عن السياق العام الذي توجد فيه اليوم علاقات تل أبيب مع العواصم العربية المطبعة، مؤكدة مواقفها الثابتة من القضية الفلسطينية، وهو ما عبر عنه وزير الخارجية، عبد الله بن زايد، عندما نشرت الصحافة تسريبات بأن بلاده على استعداد لإرسال جنودها إلى غزة، حيث نفى ذلك نفيا كليا، معتبرا أن الأمر مشروط بـ"إنهاء الاحتلال".
وكانت أبو ظبي أكثر حدة في خطابها تجاه نتانياهو في وقت سابق بشأن نفس الموضوع، حيث غرد الوزير: "الإمارات تشجب بشدة تصريحات رئيس الوزراء نتانياهو في كل ما يتعلق بدعوة الإمارات للمشاركة في إدارة قطاع غزة الذي هو تحت الاحتلال، وليس له أي صلاحيات لاتخاذ أي قرار يتعلق بالإمارات".
و أكدت أبو ظبي على "موقف دولة الإمارات الثابت في رفض العنف والتصعيد والفعل وردود الفعل غير المحسوبة"، مشددة "على ضرورة حل الخلافات عبر الوسائل الدبلوماسية بعيدا عن لغة المواجهة والتصعيد".
البحرين والسودان...بين الصمت والموقف الخجول
وإن كانت مواقف مصر والمغرب والإمارات ظاهرة للعيان، اكتفت البحرين والسودان خصوصا بمتابعة التطورات. ولم يصدر من الخرطوم التي تعيش اقتتالا داخليا بين الجيش وقوات الدعم السريع ما يكشف وجهة نظرها حول الوضع.
وبخصوص البحرين، فبعد اندلاع الحرب في غزة وجه العاهل البحريني حمد بن عيسى آل خليفة، تعليمات لتقديم مساعدات عاجلة للشعب الفلسطيني من خلال الوكالة الأممية الانروا.
وفي نوفمبر الماضي أعلن البرلمان البحريني مغادرة سفير الكيان للبلاد وعودة سفير المنامة من تل أبيب ووقف العلاقات الاقتصادية بين الطرفين، ما أثار جدلا في البحرين بحكم أن الأمر من اختصاص الملك.
وردا على ذلك، أعلن "المركز الوطني للاتصال" الحكومي في بيان أن عودة السفير البحريني تمت "منذ فترة"، ومغادرة السفير الإسرائيلي للمنامة كان "منذ فترة" كذلك، دون تقديم المزيد من التفاصيل أو الإشارة إلى موضوع وقف العلاقات الاقتصادية بين الجانبين.
والبحرين هي الدولة العربية الوحيدة التي تشارك في تحالف "حارس الازدهار" إلى جانب دول أخرى، والذي تقرر إنشاؤه عقب سلسلة من الهجمات، شنها الحوثيون اليمنيون على السفن التجارية التي تعبر مضيق باب المندب، ويعتبرها الحوثيون أهدافا مشروعة، حيث يقولون إنها سفن للكيان أو متجهة له.
السعودية تعلق محادثات التطبيع
كانت السعودية آخر بلد عربي يحضر أوراقه لركوب قطار التطبيع، إلا أن الوضع في غزة عطل العملية، ولا تبدي الرياض في الوقت الحالي أي حماس في الالتحاق بنادي المطبعين العرب بل ربطت أي تحرك بهذا الشأن بالقضية الفلسطينية.
وأعرب ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في خطاب ألقاه أمام مجلس الأمة يوم 18 سبتمبر عن رفض المملكة تطبيع علاقاتها مع الكيان دون قيام دولة فلسطينية، منددا في الوقت نفسه بـ"جرائم سلطة الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني".
وقال المحلل السياسي السعودي سليمان العقيلي لوكالة الأنباء الفرنسية تعليقا على خطاب ولي العهد إن "مواقف نتانياهو المتطرفة والمتشددة وغير المسؤولة خلال الحرب في غزة هي التي جعلت الأمير محمد يصل إلى هذا القرار الحازم". وأضاف أن "موقف المملكة الثابت منذ فترة طويلة يربط أي تقدم في العلاقات مع الكيان بحصول الفلسطينيين على حقهم في دولة مستقلة".
وكانت مؤشرات التقارب بين البلدين لاحت في سماء دبلوماسية الرياض وتل أبيب قبل نحو عام، عندما صرح ولي العهد بأن التطبيع مع الكيان "يقترب كل يوم أكثر فأكثر". كما أكد رئيس وزراء الكيان حينها أن بلاده على "عتبة" إقامة علاقات مع السعودية.
قطار مشلول
بذلك، يؤكد المراقبون أن قطار التطبيع مشلول اليوم. واعترف أحد مسؤولي الكيان بالوضع الصعب الذي تمر به علاقات تل أبيب مع الدول العربية المطبعة: “من الطبيعي أن تخلق الحرب اختبارا كبيرا للغاية للعلاقات، وتخلق بعض التوترات مع الدول التي لديها اتفاقيات سلام”.
"وعندما تولى نتانياهو وحلفاؤه من اليمين السلطة في أواخر عام 2022، تغيرت العلاقات بشكل ملحوظ. فلم يتكرر منتدى النقب، وتوقفت الزيارات رفيعة المستوى. ولم يزر الكيان أي مسؤول بحريني أو إماراتي أو مغربي كبير".
هل علاقات الدول العربية المطبعة مع إسرائيل مهددة بالانهيار؟
يتجنب مراقبون الحديث عن إمكانية انهيار كلي للعلاقات بين الكيان والدول العربية المطبعة سواء حاضرا أو مستقبلا. "فمن غير المرجح أن علاقات الدول العربية المطبعة مع الكيان مهددة بالانهيار، ذلك أن البرودة في علاقات التطبيع مردها حكومة نتانياهو والمتطرفين، وأعتقد أن هذه الدول تميز بين مفهومي الدولة والحكومات" يفسر المحلل السياسي الأردني عمر الرداد.
وفي نفس الاتجاه، صرح وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي في وقت سابق بأن بلاده لا تعتقد أن إلغاء اتفاق السلام مع الكيان الموقع في العام 1994 "يخدم فلسطين والأردن" رغم تأكيده أن الاتفاقية "باتت وثيقة يملأها التراب".
وأضاف الوزير الأردني "بالنسبة لنا في المملكة، اتفاقية السلام موجودة منذ عقود ووُظّفت لخدمة الشعب الفلسطيني. وبموجب هذه الاتفاقية استعدنا أراضي محتلة وثبتنا مواقف سياسية واضحة لنصرة الشعب الفلسطيني".
وتحدث وزير الخارجية المصري سامح شكري بنفس اللغة في ماي عندما قال إن "اتفاقية السلام مع الكيان هي خيار مصر الاستراتيجي منذ 40 عاما، وركيزة السلام الرئيسية في المنطقة لتحقيق السلام والاستقرار".
وأكد أن "اتفاقية السلام مع الكيان لها آلياتها الخاصة التي يتم تفعيلها لتناول أي مخالفات إذا وجدت، وذلك في إطار فني ولجنة الاتصال العسكري"، مضيفا: "نستمر (في التعامل) مع هذه الاتفاقية بهذا المنظور".
وبنبرة مشابهة، قال المستشار الدبلوماسي للرئيس الإماراتي أنور قرقاش في جانفي، في أوج عملية جيش الكيان البرية في قطاع غزة: "لا شك أن أي قرار استراتيجي سيواجه عقبات متعددة، ونحن نواجه عقبة كبيرة لا بد من التعامل معها”.
بحرينيا، كتبت مراسلة بي بي سي في منطقة الخليج أنه "لا يبدو أن المنامة مستعدة للتخلي عن تطبيع علاقاتها مع الكيان ولا أن تعيد النظر في هذه الخطوة. فبالنسبة للمنامة، مجرد إعادة النظر في مسألة التطبيع يعد تراجعا في دبلوماسيتها الدولية وخطوة إلى الوراء، وهو أمر لا ترغب فيه المنامة في الوقت الحاضر.
بين الحسابات والمكاسب
"حسابات الدول المطبعة مختلفة بين دولة وأخرى، حسب رأي عمرالرداد لكن قاسمها المشترك أن هذا التطبيع يفتح أبوابا للأنظمة والحكومات على الغرب والعالم، بما في ذلك العلاقة مع الولايات المتحدة."
والمكاسب التي تجنيها هذه البلدان من مثل هذه العلاقة، يقول الرداد، "مختلفة... مصر والأردن بحاجة لغطاءات ودعم اقتصادي من أمريكا. الخليج بحاجة لأسلحة أمريكية واتفاقيات دفاع مشترك مع أمريكا لمواجهة تهديدات إيران. المغرب في علاقة تاريخية، ورأينا تحول المواقف الغربية بخصوص قضية الصحراء بعد توقيع اتفاق التطبيع مع إسرائيل. في السودان مثلا تسابق بين طرفي النزاع البرهان وحميدتي على العلاقة مع الكيان، لضمان دعم أمريكي وغربي".
يضاف إلى كل ذلك، "أن إمكانيات الكيان في التكنولوجيا وفي مختلف القطاعات بما فيها الأسلحة، تشكل مصدر تعاون للدول والحكومات المطبعة"، دون أن يغفل العامل الإيراني: "فالإمارات والبحرين ترى في هذه الحرب حربا إيرانية".
بوعلام غبشي (فرنس 24)