العمل عن بعد : تطور نماذج جديدة للعمل والحياة في العصر الرقمي
الشعب نيوز/ بريد - خصتنا الدكتورة حنان خنشل الاخوة، استاذة علوم التصرف بمعهد الدراسات التجارية العليا بقرطاج، مشكورة، بهذا المقال.
إن العمل عن بعد، من خلال فصل النشاط المهني عن الموقع الفعلي للشركة (للمؤسسة) ، غير مفاهيمنا التقليدية للعمل وأساليب تنظيمه. ففي حين توفر هذه الطريقة الجديدة مرونة كبيرة، فإنها تثير أيضًا أسئلة تتعلق بالتوازن بين العمل والحياة والصحة العقلية والإنتاجية.
علاوة على ذلك، فإن تونس تحتل المرتبة 53 من بين 108 دولة في المؤشر العالمي للعمل عن بعد. ويسلط هذا التصنيف الضوء على إمكانات تونس في هذا المجال حيث شهد استخدام الإنترنت في تونس زيادة كبيرة، حيث ارتفع من 89٪ في عام 2023 إلى 92.8٪ في عام 2024، وهو أعلى بكثير من المتوسط العالمي البالغ 70.5. %. ويتم تعزيز هذا التقدم من خلال الاختراق القوي للهواتف المحمولة، مع تغطية 3G بنسبة 98% و4G بنسبة 99.5%. كما شهد استخدام الهواتف الذكية زيادة كبيرة، حيث وصل معدل الانتشار إلى 135%، مما يعكس ملكية المستخدمين لأجهزة متعددة. هذا التحول الرقمي العميق له تأثير مباشر على عالم العمل.
العمل عن بعد: معيار اجتماعي جديد
يتميز تطور أساليب العمل بتنوع أشكال العمل عن بعد. من العمل التقليدي عن بعد من المنزل إلى الأساليب الأكثر مرونة. تستجيب هذه التطورات للطلب المتزايد على المرونة والاستقلالية، بينما تطرح تحديات جديدة من حيث تنظيم العمل وإدارته. في حين أن العمل عن بعد يوفر قدرًا معينًا من الاستقلالية، إلا أنه يمكن أن يسبب أيضًا عبئًا معرفيًا وعاطفيًا زائدًا.
إن فكرة "عدم وضوح الحدود بين العمل والحياة" تصف بشكل جيد هذا الاتجاه نحو توسيع نطاق العمل ليشمل جميع مجالات الحياة، وخاصة العمل عن بعد. كثيرًا ما يشير الموظفون الذين تمت مقابلتهم إلى زيادة المهام وصعوبة قطع الاتصال. وهذا التكثيف في العمل يمكن أن يؤدي إلى حالات الإرهاق المهني. إن العمل عن بعد غير بشكل عميق مفاهيم العمل والإقليم. ومن خلال فك ربط النشاط المهني بالموقع الفعلي للشركة (للمؤسسة) ، فإنه يدعو إلى إعادة بناء أسس الإقليمية الفردية كما حددها " بيير بورديو " * بحيث تمتزج الحياة المهنية والشخصية.
وبالمثل، يمكن أن يكون لظروف العمل من المنزل عواقب ضارة على الصحة البدنية للعاملين عن بعد. ترتبط الاضطرابات العضلية الهيكلية، التي تم ذكرها بشكل متكرر في الشهادات، بعوامل مريحة (وضعيات غير مناسبة، وعدم وجود مساحة مخصصة) ولكن أيضًا بتكثيف العمل أمام الشاشة.
يشير هذا الوضع إلى عمل خبراء بيئة العمل بشأن المخاطر النفسية الاجتماعية المرتبطة بالعمل، ولا سيما الإجهاد والتعب المرتبط بتنظيم العمل.
العمل عن بعد يثير مشاعر متناقضة.
فمن ناحية، يوفر العمل عن بعد مرونة ملحوظة، ولكن من ناحية أخرى، يمكن أن يؤدي إلى العزلة الاجتماعية. والواقع أن اختفاء التفاعلات غير الرسمية داخل مساحة العمل الجماعية يحرم العاملين عن بعد من المعايير الاجتماعية الأساسية. يعزز هذا الوضع أهمية مفهوم " الهابيتوس" *، كما تصوره " بورديو"، والذي يؤكد على تأثير تجارب الماضي على السلوك الحالي.
لقد أدى العمل عن بعد، من خلال توفير قدر أكبر من المرونة، إلى إحداث تغيير جذري في الطريقة التي نعمل بها. ومع ذلك، فإن طريقة العمل الجديدة هذه تثير أسئلة معقدة حول الهوية. بعد التحرر من القيود المكانية والزمانية التقليدية، يتم توجيه العاملين عن بعد إلى إعادة بناء هويتهم المهنية في بيئة غير مادية في كثير من الأحيان. يسعى إلى إنشاء معايير إقليمية، سواء كانت مادية أو رقمية، لتأكيد انتمائه إلى مجتمع مهني وإعطاء معنى لنشاطه.
العمل عن بعد: فرصة يجب اغتنامها، ولكن تحت أي ظروف؟
يمكن أن يوفر العمل عن بعد فرصًا للتوفيق بين الحياة المهنية والحياة الشخصية، وتطوير مهارات جديدة وتعزيز استقلالية العمال. ومع ذلك، فإن هذه الفوائد ليست منهجية وتعتمد على عوامل كثيرة، مثل نوع الوظيفة وثقافة الشركة (المؤسسة) والخصائص الفردية للعاملين.
يحرر العمل عن بعد وقتًا ثمينًا يمكن للموظفين تكريسه لمهام مهنية أكثر فائدة. بالإضافة إلى ذلك، فإن الاستقلالية المتزايدة التي تمنحها تسمح للموظفين بإدارة وقت عملهم بشكل أفضل، وتكييف وتيرة عملهم وجداولهم الزمنية مع احتياجاتهم واحتياجات الشركة (المؤسسة). علاوة على ذلك، فإن فرصة العمل في بيئة أكثر هدوءًا وأكثر تخصيصًا يمكن أن تعزز التركيز والإبداع، وبالتالي تعزز الإنتاجية الفردية.
ومع ذلك، فإن فوائد العمل عن بعد لا تقتصر على المجال المهني. وفي الواقع، من خلال توفير قدر أكبر من المرونة، يسهل العمل عن بعد التوازن بين الحياة المهنية والحياة الشخصية. وبالتالي يمكن للموظفين التوفيق بشكل أفضل بين التزاماتهم العائلية وأنشطتهم الشخصية وعملهم. ومع ذلك، من المهم ملاحظة أن هذا التوفيق ليس تلقائيًا ويتطلب تنظيمًا جيدًا وتواصلًا فعالاً مع صاحب العمل.
بالإضافة إلى ذلك، من خلال تقليل الضغط المرتبط بالسفر(النقل والتنقل) وقيود الوقت، يمكن أن يساعد العمل عن بعد في تحسين الصحة النفسية للموظفين. أظهرت الدراسات أن العاملين عن بعد بشكل عام يبلغون عن مستويات إجهاد أقل ورضا وظيفي أعلى. يمكن أن يكون للعمل عن بعد أيضًا تأثير إيجابي على بيئة العمل. ومن خلال تقليل السفر(التنقل)، فإنه يساعد على تقليل انبعاثات الغازات الدفيئة ومكافحة ازدحام الطرق. علاوة على ذلك، يمكنه تعزيز ثقافة مؤسسية أكثر تعاونية مبنية على الثقة، من خلال تشجيع الموظفين على اتخاذ المزيد من المبادرات وتطوير مهاراتهم. ومع ذلك، للاستفادة الكاملة من هذه الفرص، من الضروري وضع سياسات واضحة ومكيفة للعمل عن بعد، بالإضافة إلى أدوات اتصال وتعاون فعالة داخل الشركات.
العمل عن بعد ظاهرة معقدة تثير العديد من الأسئلة.
إنه يجلب الأمل وعدم اليقين. للاستفادة الكاملة من مزاياه مع تقليل عيوبه، من الضروري التفكير في أشكال جديدة لتنظيم العمل، وتخطيط مساحات المعيشة وتنفيذ السياسات العامة المناسبة. والتحديات متعددة: الحفاظ على الروابط الاجتماعية، وضمان التوازن المرضي بين الحياة المهنية والشخصية، وتعزيز الانتقال العادل إلى الاقتصاد الرقمي. ومع ذلك، كما يظهر بحثنا، فإن العمل عن بعد ظاهرة معقدة لا تقتصر على الجوانب التقنية. أنها تنطوي على القضايا الاجتماعية والاقتصادية والتنظيمية التي تتطلب اهتماما خاصا.
* بيير بورديو (Pierre Bourdieu) عالم اجتماع فرنسي، ولد سنة 1930 وتوفي سنة 2002 أحد الفاعلين الأساسيين وأحد أبرز المراجع العالمية في علم الاجتماع المعاصر، بل إن فكره أحدث تأثيرا بالغا في العلوم الإنسانية والاجتماعية منذ منتصف الستينيات.
* مفهوم الهابيتوس ( Habitus ) من أهم المفاهيم التي نحتها عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو، وأكثرها إثارة للجدل، منذ أن طرحه لأول مرة في كتابه نظرية الممارسة، ويعبر هذا المفهوم عن مجموعة الميول والتصورات التي يمتلكها الفاعل الاجتماعي، مضافا اليها الاستعدادات والمكتسبات الأولية التي تنتج، ويعاد إنتاجها عن طريق التنشئة الاجتماعية والموروثات الثقافية والتبادلات المستمرة للخبرات الرمزية والمادية.