ثقافي

حكاية حول أغنية "البسيسة " : تفاجئ الوسط الثقافي والسياسي بخصائص فنية مثيرة للجدل و حملة واسعة لمقاطعتها

الشعب نيوز/ وسائط - سابقنا الزمن في نشر " روايات حول اغنية البسيسة " فبدأنا باحدى الروايات والحال انه كان من المفروض ان نبدأ بما سماه صديقنا ورفيقنا خالد الحمروني  "حكاية حول اغنية البسيسة".

والحقيقة ان "حكاية حول اغنية البسيسة" تكشف تفاصيل مهمة، خاصة وانها أثارت جدلا مطولا حول خصائصها الفنية جرت بعض أطواره في غرفة مظلمة تماما وفي صمت رهيب لا يمكن أن يلمح المرء منه شيئا غير دخّان السجاير. (يمكن الاستماع الى اغنية البسيسة في نسخة أخرى عبر هذا الرابط: Recherche Musicale - Bsisa - البسيسة - مجموعة البحث الموسيقي )

بقية "الحكاية " يرويها الاخ أبو شادي:

بعد صدور اغنية البسيسة وما تضمّنته من خصائص فنية في تلك الفترة، تفاجأ الكثيرون وكانت المواقف متباينة ومتناقضة في الأول حول تلك الأغنية، وهنالك حتى من قام بحملة لمقاطعتها...  

فتمّت دعوتي مع الشاعر الوطني الراحل بلڨـاسـم اليعڨـوبـي صاحب الكلمات إلى حقلة نقاش مغلقة مع اناس لا أعرف من هم، ولا هوياتهم أو صفاتهم، هل كانوا قيادات سياسية أو طلابية أو من المثقّفين أو خليط بين هذا وذاك...

ذهبوا بنا إلى بيت وسط العاصمة لا يمكن أن احدّده، دخلنا إلى غرفة مظلمة تماما وفي صمت رهيب لا يمكن أن تلمح شيئا غير دخّان السجاير،

وجاء الصوت الأول سريعا ودون مقدّمات "شنوّة لعملتوه" ثم صوت ثان بأكثر حدّة قال لبلڨـاسـم "كيفاش ترضى هكة لكلماتك" وتتالت الأسئلة كثيرة حول الأغنية البديلة ودورها إلى غير ذلك من الكلام النظري،

بدأ النقاش يتمحور شيئا فشيئا لماذا وكيف تمّ إدخال الميزان الشعبي و" الربوخ" ضمن الأغنية البديلة، وهذا ما يعتبر انحرافا وتشويها غير مقبولين، إلى غير ذلك من الكلام الثقيل المتداول...

بعد مرور الصدمة، واسترجاع الأنفاس،

أوضحنا لهم أن للاغنية أشكالا مختلفة من النشيد إلى الطقطوقة إلى القصيد إلى الدور إلى الموشّح إلى الأغنية الشعبية وغيرها، والمهم المضامين التي تحملها الاغنية البديلة في وحدتها الجمالية بين الكلمات والألحان والأداء، وما تقدّمه للجماهير من جمالية لترتقي بوعيها،

وقدّمنا لهم عدة أمثلة بالصوت لأغان للسيد درويش والشيخ إمام عيسى وايمازيغن ومارسال خليفة...

ثم وضحنا بهدوء وثقة أن الموسيقى العربية ترتكز على المقامات والنغمات التي لا يمكن تصنيفها تقدمية أو رجعية حسب المنطق الأيديولوجي والمزاج السياسي، مثل نغمات الراست أو المحيّر سيكا او النهاوند او الصبا او المزموم وغيرها، وليس هنالك لدينا مفاضلة بينها عند صياغة وإنتاج الاغاني ووضع الألحان،

واتذكّر جيّدا انه تم تقديم شرحا مفصّلا

اولا / مثال لنماذج من مقام الصبا المرتبط بالحزن والشجن وتحليل لاغاني لحّنت فيه من مختلف الأنماط، " قيفارا مات "، و " يمّا يا غاليّه "، و "هو صحيح الهوى غلاّب" ، و "حلّوا المراكب" ، و "بشرفك قلي اه يا شعبي "، بربط موسيقي متواصل دون كلمات لتوضيح المقام وعمقه وكيفية استعماله ونقل الأحاسيس التي يحتوي عليها...

ثانيا / نماذج من مقام السيكا المعروف بالفرح، مثل" الأطلال"، "سايس حصانك"، " لو الندى دمعة سكيبة" ، "تكرم عين الشعب الزّين" وبنفس الأسلوب السابق أي دون كلمات ليتجلّى طعم المقام ورونقه...

ثم وضحنا بالصوت الغنائي وبدقة أن المقطع الأخير من اغنية البسيسة، أي موّال "يا سالبين الحراير ***  نا اليوم بالدمع عرسي" والذي يبكي الناس لدى سماعه هو في مقام السيكا وليس في مقام الصبا وهو ما يعتبر إنجازا فنيا كبيرا...

ثم قمنا بنفس التحليل الفني بالنسبة للإيقاعات والموازين ووضّحنا أن  " الفالز" ليس أكثر ثورية من" الفزّاني" وانّ " الدبكة " ليست أكثر جماهيرية من إيقاع " البـوسيڨـى " في موروثنا الشعبي وخاصة في الجنوب التونسي،

والمهم هو أن تكون لدينا القدرة والاختلاط الأدوات الفنية في كيفية توظيف الإيقاع داخل الوحدة الجمالية للأغنية وجعله في طاقته الداخلية ( هنا نتكلّم على مضمون الشكل) على إيصال الفكرة والمحتوى والاقتراب من أذن المتلقّي وتحريك المخزون السمعي والذّوقي لديه...

لذلك تم استعمال الإيقاع الشعبي الأصيل في مقطع "ربّخ هات حزام *** تنرقص ما تردّوني" والذي لا يمكن بايّ حال من الأحوال أن يكون جنائزيا مثلا وفي غير ذلك الاختيار...

ودام النقاش طويلا ولساعات في احترام تام واستماع جيّد دون مقاطعة ما عدى بعض الاستفسارات الفنية مع اناس لا أعرفهم ولم أعرف إلى اليوم هويّتهم،

وغادرت منهكا، وغادر من بعدي اليعڨـوبـي لترتيبات معيّنة، ولم نتناقش ابدا بعد ذلك حول تلك الجلسة الشّاقة المضنية،

اغنية البسيسة درّة حقيقيّة قام بتلحينها نبراس شمّام وزادها "الربوخ" وايقاع "الدَوّاري" الڨـابســي والمنحى الشعبي جمالا ورونقا ونجاحا واشعاعا...

ربّخ هات حزام *** ويزّينا من النّكد.

* صورة يقول خالد الحمروني انها من العرس التقدمي للرفيق العزيز عبد الله الـشرڨــي

--------

قصة من خمس 5/1 كتبها خالد الحمروني: روايات حول اغنية البسيسة وآمال تفاجئ الجميع بالغياب (29-10-2024 12:22)

الشعب نيوز/ وسائط - اشتهرت مجموعة البحث الموسيقي بقابس من جملة ما اشتهرت به بأغنية نفذت بسرعة البرق الى قلوب الجماهير وعنوانها " البسيسة ". وهي عن أم تونسية زودت ابنها المسافر بعيدا عنها بمادة غذائية لا يخلو منها بيت تونسي اصيل وهي البسيسة. كيف ولدت هذه الاغنية وكيف تفاعل معها الجمهور حيث وجب التذكير انها انتشرت في زمن كان فيه للكلمة معنى ومضاء.

صديقنا ورفيقنا خالد الحمروني -أبو شادي - اختار ان يحدث الجميع عن قصة ولادة هذه الاغنية 35 او 36 سنة بعد ظهورها لاول مرة وان يروي تلك التفاصيل في تدوينات لافتة سمح لنا مشكورا بنشرها تباعا عبر " الشعب نيوز".

[ في صيف سنة 1988 قامت مجموعة البحث الموسيقي بڨـابـس بجولة فنية شملت تقريبا جميع المهرجانات الدولية بما فيها مهرجان قرطاج، 
في نهاية الجولة، كان العرض قبل الأخير في طبرقة، والذي لم يكن ضمن البرمجة الأساسية للجولة وتمّت إضافته في وقت قصير بإلحاح كبير من مدير المهرجان في ذلك الوقت على اساس انه دولي أيضا وله تاريخه ونحن سوف نكون في الغد على مسافة قريبة لاختتام برنامجنا الصيفي في مهرجان بلاّريجية بجندوبة،
قدمنا عرض طبرقة في أحسن الظروف وأكملنا السهر الى ساعة متأخّرة في ظروف عادية، 
لكن في الصباح استيقظنا فلم نجد آمال الحمروني معنا ولم نعثر لها على أثر، ارتبكنا واصابنا الهلع وامتلكنا الخوف والرعب خاصة أن لا شيء كان يوحي بما حدث الليلة الماضية بعد العرض.
في نهاية النهار علمنا انها رجعت إلى قابس من شدة الإرهاق والتعب الذي أصابها. ساد بيننا القليل من الارتياح على الأقل لما علمنا بسلامتها.

قررنا التوجه إلى جندوبة وتقديم العرض الأخير.
تفاجأ الجميع في جندوبة وكانوا يتساءلون عن غياب آمال بحيرة كبيرة، تمالكنا أنفسنا وقررنا أن يكون العرض في مستوى سمعة المجموعة لدى الجمهور الغفير الحاضر والمحافظة على البرنامج كما هو بما فيه اغنية البسيسة،


انطلقت الأغنية كما يجب في سيرها العادي مع تقديم كل واحد منا مجهودا إضافيا لتغطية الغياب الواضح لآمال إلى حدود مقطع "يا عمدة ما تهزوهولي"
لا أعرف حقيقة كيف مرّ، كنت في شبه غيبوبة من شدّة التاثّر بغياب صوت الرّعد بعد أداء "وينا ولدك جيبوهولي..."، وحين الوصول إلى الموّال الاخير "يا سالبين الحراير*** نا اليوم بالدمع عرسي" ، قام نبراس شمام جاهدا بأدائه بسلاسة، ومرّت الامور بسلام وصفّق الجمهور.
 تنفّسنا الصعداء....ثم واصلنا بقية العرض بحماس كبير، مع العلم اننا غيّرنا التكتيك ولم نقّدم فقرتين كما جرت العادة بل فقرة واحدة مسترسلة طويلة للمحافظة على الإيقاع العام والحماس في صفوف الجمهور...
في نهاية العرض ومع اختتام الجولة الفنية، أصابنا أيضا جميعا التعب والإرهاق جرّاء المجهود البدني والضغط النفسي والعصبي وما فرضناه على أنفسنا من انضباط شديد وجديّة مفرطة.
ربّما لباقي أفراد المجموعة تفاصيل أخرى غابت عنّي أو هربت من الذاكرة...]

* يمكن الاستماع للاغنية في التسجيل الوارد في هذا الرابط.مجموعة البحث الموسيقي _ البسيسة