في الحلول الممكنة لاقتصاد متعثر (3): بين استقلالية البنك المركزي ونقود تمطر بها السماء
[ يتعرض الزميل طارق السعيدي عبر الجزء الثالث من البحث في الحلول الممكنة لاقتصاد متعثر الى استقلالية البنك المركزي التونسي عن السلطة التنفيذية ]
الشعب نيوز/ طارق السعيدي - برزت خلال النقاش الاقتصادي مسالة استقلالية البنك المركزي التونسي عن السلطة السياسية ويبدو ان هناك من يريد مراجعة هذه الاستقلالية.
يعمل البنك المركزي الان وفق منظومة قانونية تسمح له بالاستقلال عن القرار السياسي للسلطة التنفيذية فيما يتعلق بخياراته النقدية والمالية. غير ان هذه الاستقلالية ستوضع على محك القانون من خلال مناقشة مشروع قانون جديد في الأيام القادمة سيجعل البنك المركزي أكثر قربا وتأثرا بإرادة السلطة التنفيذية.
انطباع كاذب بالرخاء
في البداية لابد من التذكير بان استقلالية البنك المركزي طرحت في الولايات المتحدة الامريكية حيث كان الرؤساء في أمريكا يعتمدون على السياسات التوسعية في اخر مدتهم النيابية من اجل إعطاء المواطنين انطباعا عاما بالرخاء. ويتم طبع مزيد من الدولارات وتسهيل الحصول على المال وبذلك يضمن الرئيس الامريكي حظوظا اعلى من اجل إعادة انتخابه، غير ان الانعكاسات التضخمية جعلت الاقتصاديين في الولايات المتحدة الامريكية يدعون الى وقف هذه الإجراءات عبر فصل البنك المركزي (الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي) عن سلطة الرئيس.
منذ ذلك الوقت أي في اواسط الستينات طرحت مسالة الاستقلالية ونقلتها أوروبا عن أمريكا وأصبح هدف السلطة النقدية المحافظة على الاستقلالية وتعني هذه الاستقلالية ان يصوغ البنك المركزي خططه وبرامجه بهدف صيانة نسبة التضخم الان وعندما تطرح السلطة مسالة استقلالية البنك المركزي فهذا يعني انها في حاجة الى السيولة المباشرة من المركزي لتمويل الميزانية والاقتصاد.
قبل الخوض في هذا الامر الخطير، لابد من التوقف عند مسالة استقلالية البنك المركزي التونسي بالذات. هذه المسالة طرحت ما بعد الثورة وتحديدا في قانون 2016. فقد اجمع مختلف الفاعلين الاقتصاديين على انها فكرة محمودة شرط ان تكون تامة أي انها استقلالية عن السلطة السياسية وعن المؤسسات المالية العالمية التي قد تجد في سياسات البنك المركزي التونسي مدخلا لتمرير املاءاتها بشكل غير مباشر.
الهليكوبتر النقدي
عندما تطرح مسالة الدور الاقتصادي للبنك المركزي يتبادر الى الاذهان الهليكوبتر النقدي. وكما تشير التسمية فان المقصود بهذه السياسة النقدية هو توزيع النقد على نطاق واسع وكأن هليكوبتر محملة بالمال تحوم في الهواء وترمي النقد على الجميع. ويعود هذا المصطلح الى مثال توضيحي استعمله "مليتون فرديمان" وسرعان ما تحول الى مقولة مستقلة عن المثال الأصلي.
وفي حال الانكماش الاقتصادي، يقترح عدد من الاقتصاديين اللجوء الى الهليكوبتر النقدي أي ان يقوم البنك المركزي بضخ كميات كبرى من النقد في السوق وهو ما يمكّن الدولة من تحويل ديونها الى سندات طويلة الأمد كما يمكّن الفاعلين من توفير النقد اللازم لتمويل عملياتهم الاقتصادية.
لقد كان نقاشي الأول حول الهليكوبتر النقدي مع استاذي وصديقي الدكتور المنجي المقدم الذي سلط الضوء على المصطلح الاقتصادي المذكور حيث يرى "ان استقلالية البنك المركزي التونسي لا تنسجم مع الحالة الاقتصادية التونسية. وان استقلالية المركزي التونسي وعدم تمويله للاقتصاد مكّنت البنوك من موقع ريعي أضرّ بدور الجهاز البنكي في تمويل الاقتصاد دون ان تمكّن الاستقلالية من السيطرة على التضخم". وذكر " ان الهليكوبتر النقدي الية معتمدة في العالم وقد اعتمدتها امريكا نفسها، غير انه لا يجب ان يخضع الى محاذير سياسية وأن لا تعتمد الا بشكل نادر وخصوصي".
معايير صارمة
وبالعودة الى تاريخنا الاقتصادي، اعتمدت تونس هذه السياسة سنة 1997 عندما قامت الدولة بشراء دين مهول لديوان الزيت (نحو مليار دينار) من اجل انتعاش قطاعي وقد نجحت في ذلك الى ابعد حد. ويعتبر الهليكوبتر النقدي فعالا في دفع الاستهلاك الذي يمثل أحد اهم محركات النمو لأنه يوفر للفاعلين الاقتصادين السيولة الضرورة التي ترفع من قدراتهم الاستهلاكية.
الاستاذ المنجي المقدم
غير ان الهليكوبتر النقدي يستوجب معايير صارمة. فتوزيع المال على الفاعلين الاقتصاديين لا يعني الدخول مباشرة في حالة من الانتعاش الاقتصادي لان كثرة المال قد تؤدي الى التضخم المعمم. ولذلك فان أي سياسة نقدية توسعية على غرار الهليكوبتر النقدي تفترض اجماع الفاعلين الاقتصاديين.
في وضعنا الحالي وإذا ما اعتمدنا الهيلوكوبتر النقدي فان حجم النقد الضروري سيكون في حدود حجم الدين العام أي نحو 127 مليار دينار.
--------
ملاحظة هامة: ينشر المقال كاملا في عدد جريدة الشعب الورقية بتاريخ 21 نوفمبر2024
------------
اقرأ ايضا