آراء حرة

ٍتكريما لرضا عزيز: فنان ملتزم بقضايا مجتمعه وكاتب صحفي وروائي ومحلل رياضي، ومنتج إذاعي

الشعب نيوز/ عامر بوعزة * - أُسمّي رحيل الفنان والصديق رضا عزيز سفرا، فقد نودي على اسمه عندما حان دوره، فتقدم الطابور بخطى واثقة، واجتاز المعبر الفاصل بين عالمين، ولوّح بيديه قبل أن يغيب بعيدا ويطير مثلما تطير الكلمات. حدث ذلك بعد فترة انقطاع وخلوة مع الذات في منطقة رمادية غامضة معزولة تصفها أدبيات الرثاء والتأبين بعبارة باردة وخالية من الإحساس والمعنى: (الصراع المرير مع المرض).

هكذا يذهب المسافرون إلى الأبدية، لا أحد يعرف ترتيبه في القائمة، ولا موعد السفر. والكل ينتظرون دورهم، هذا الوصف إذن محاولة للالتفاف على الرماد الذي يتكثف حولنا من يوم لآخر، ومراوغة هذا الإحساس الرهيب بنهاية المعنى: كيف تصبح الحياة كلها بألوانها وموسيقاها، بأحلامها ومتاهاتها بكل بهجتها ونزقها، بجمالها وفوضاها ورقة صفراء تقع من شجرة جرداء على رصيف مكتظ بالعابرين غير الآبهين، كيف تصبح مجرد ذكرى..

أسمّي رحيله المبكر تجاوزا وعبورا لأنني أتخيله وهو يمضي إلى هناك قد استردّ عافيته وشبابه وضحكته التي لا تفارقه، استرجع كل طاقته وتوهّجه والاندفاع الذي عُرف به في حياته الأولى، ولعله أن يكون وهو يضع قدمه على عتبات الأبد قد التفت يمنة ويسرة باحثا عن كنش أو حتى مجرد ورقة ليدوّن بقلم الرصاص ملاحظاته، وعندما يجلس في المقهى ويشعل سيجارته الأولى هناك، سيصنع منها نصّا ساخرا يقرأه على من سيجده من الأصدقاء، أو يخبئه في تلافيف معطفه الشتوي ليقرأه على القادمين الجدد...

بسفره المبكّر هذا ينقص عدد الذين يحتاجهم عالمنا شخصا آخر، والذين يحتاجهم العالم كي يواصل دورانه اللانهائي بتوازن قليلون، إنهم المبدعون. ورضا كان مسكونا بهاجس الإبداع. رأيته أول مرة نهاية السبعينات، بدار الثقافة بن رشيق، عندما اعتلى الخشبة ليتسلم جائزة أفضل ممثل من يدي زكي طليمات الذي كان ضيف الشرف في ذلك المهرجان، الصورة الأولى التي التقطتها مخيلتي لرضا كانت على الركح مع أحد الآباء المؤسسين. فقد همس لي مرافقي وكان أكبر مني سنا وسط موجة التصفيق التي عصفت بالقاعة بنبرة لا تخلو من الافتخار: ذلك الشاب اسمه رضا عزيز. وأضاف كمن يفشي سرا: إنه من الساحلين.

كانت نهاية السبعينات من مواسم القطاف الأكثر عطاء، في الثقافة والفن والإبداع كما في الرياضة والصحافة والتلفزيون. لقد طرحت الشجرة التي غرسها الشاذلي القليبي ثمارها، وبدأت تتضح ملامح المشروع الثقافي (القومي) الذي يقوم على نشر الثقافة في كل الجهات. ولذا فإنك لو تأملت جيدا الصورة لرأيت نخبة من أبرز الممثلين قادمين من داخل البلاد لتصدر المشهد المسرحي في العقود القادمة.

وعندما التقيت رضا عزيز بعد عشر سنوات في أروقة الإذاعة وتكونت بيننا صداقة استثنائية، فهمت السبب الذي منعه من أن يكون معهم، أدركت لماذا اكتفى بأدوار تلفزيونية ثانوية ومساعدة، وقد كان يمكنه بفضل موهبته اللامعة أن يلعب أدوارا أخرى في التمثيل والكتابة والإخراج، فالبقاء في الصورة كان يتطلب البقاء في العاصمة، ورضا كان سمكة لا تستطيع العيش خارج البحر، لم يكن يستطيع الابتعاد كثيرا عن مدينته الأم وعن عائلته، لم يكن بوهيميا أو فوضويا ولم يكن ليفكر في التضحية باستقراره العاطفي، بل كان فنانا ملتزما بقضايا مجتمعه المحلي، مندمجا فيه حتى النخاع، ولم يكرس حياته للمسرح فقط، بل وزع موهبته على مجالات أخرى، وقسم نفسه على جسوم كثيرة، فكان كاتبا صحفيا وروائيا ومحللا رياضيا، ومنتجا إذاعيا، وكان مع كل هذا زوجا منضبطا وأبا مثاليا يحق لأسرته أن تفخر به وأن تتباهى بذكراه.

شكرا رضا عزيز لأنك اخترتني لأقدم معك برنامج (كلام على كلام) وكانت تلك أول تجربة لي في البث الإذاعي المباشر (1989) قبل أن تجري المياه غزيرة تحت الجسور الكثيرة التي مشينا فوقها معا، شكرا على السعادة التي منحتنا بحضورك الجميل في كل اللحظات التي لا تنسى، في أروقة الإذاعة واستوديوهاتها، في مقاهي المنستير، صباحات الأحد المشمسة وسهرات الصيف الطويلة، في ملتقى أدب التسعينات، وفي حفلاتنا العائلية، في التفاصيل الصغيرة التي تجعل الواحد منا ما هو عليه، شكرا لأنك ظللت قابضا على الجمرة بيديك في الأوقات الصعبة، فقد كنت تدرك أنك لو ألقيتها ربما احترق الخيط الرفيع الذي يربط الأشياء بعضها ببعض، شكرا لأنك اجتزت كل المطبات التي فرضتها الحياة علينا بعزة نفس لا نظير لها، ولأنك جعلت صداقتنا أعلى من كل شيء وأعلى من النسيان، بلغ سلامنا إلى من سيأتيك هناك من أصدقائنا القدامى ولا تجعل نصك الذي تكتبه الآن طويلا، فقد يتعذر علينا بثه كاملا عندما نلتقي هناك!

* من تدوينة له صدرت اليوم الجمعة 22 نوفمبر 2024 على صفحته الخاصة، ننشرها بإذن منه، تكريما للراحل رضا عزيز.