الفن والسلطة والحداثة او هل يجب ان يكون للدولة مشروع ثقافي؟
بقلم: طارق السعيدي
من خلال متابعتي لعد من تصريحات المنتمين الى الحقل الفني وخاصة المسرحيين بمناسبة الحراك الثقافي في بعده الإبداعي، استرعت انتباهي حالة من السطحية في كلام جزء غير يسير من المنتمين الى حقل الفن. في المقابل أذهلني تنبه عدد من المبدعين الى السياقات العامة للفن في تونس ما بعد الحديثة.
ولقد اثار لدي تنبه وانتباه المسرحيين، الى تحفز السلطة للمسرح ومراهنتها عليه، تساؤلا حول السلطة والفن والحداثة في تونس والى أي مدى كان الفن بمختلف اشكاله والمسرح والسينما خصوصا الية لإعادة تشكيل البنية الثقافية في تونس ما بعد 1956. واي مشروع ثقافي للدولة؟
الحداثة والبنى الصلبة
لقد مثل مشروع النخبة الماسكة بالسلطة في الدولة ما بعد الاستعمارية، المشروع التحديثي الأكثر وضوحا وعمقا من حيث الأهداف والاستراتيجيات والاليات وبذلك كان المشروع التحديثي البورقيبي الأكثر تأثيرا في التاريخ التونسي المعاصر رغم ضرورة الاقرار بإسهامات سياقات التحديث الأولى في عهد البايات او سياقات التحديث الثانية في العهد الاستعماري رغم كل المأخذ عليها نتيجة طابعها الكولونيالي.
* الرئيس الحبيب بورقيبة مع أحمد بن صالح أحد ابرز منظري وسياسيي الدولة المستقلة
ويبدو ان الرئيس الحبيب بورقيبة قد تنبه مبكرا الى ان الموروث الثقافي التقليدي سيكون هو العائق الأبرز امام مشروع التحديث الذي يحمله. ولم يخف هذا الامر من خلال مهاجمته لمتركزات الموروث الثقافي التقليدي من خلال تأييده لموقف الطاهر الحداد وانحيازه الى تحرير المرأة من قيود سلطة مجتمع الرجل غير ان كل الأمور لم تكن كافية فقد كان في حاجة الى اليات جديدة مبتكرة.
اعتقد انه من الضروري الانتباه الى ان سياقات الحداثة في تونس كانت بالأساس حداثة الدولة او الحداثة المدولنة أي تلك الحداثة التي تقوم فيها الدولة بدور حاسم من اجل الانتقال من حالة اجتماعية الى أخرى.
وبشكل عام يمكن ملاحظة استقرار التشكيلات الاجتماعية والممارسات الثقافية فيما يسمى المجتمعات الراكدة (علي الوردي)، ولذلك فان التغيير الاجتماعي البطيء نسبيا استوجب تدخل الدولة لتسريعه وتسهيل التغيير في اتجاه الحداثة.
ويمثل نظام الإنتاج المخامسي الذي اكتشفه وأبرز خصائصه الدكتور الهادي التيمومي أحد الأدلة على بطء التغيير الاجتماعي وعطالته ضمن المجتمعات الراكدة. فهذا النظام المخامسي التونسي يقوم على نظام اقطاعي منغلق لا افق له في الانتقال الى النظام الرأسمالي وبذلك تعطلت علاقات الإنتاج عند نظام اجتماعي مغلق.
* الاستاذ الهادي التيمومي
طبعا لا نحتاج الى التذكير بان التغيير الاجتماعي الأبرز ان لم نقل الوحيد الذي عرفته تونس الحديثة هو نقل العائلة التونسية من العائلة الممتدة الى العائلة النواة من خلال قرار سياسي وقانون.
فمع اصدار مجلة الأحوال الشخصية، تم منع تعدد الزوجات وأصبحت بذلك العائلة متكونة من زوجين وأبنائهما. ومع بروز المدرسة وتطوير النسيج الصناعي استقلت العائلة في صيغتها الجديدة عن ارتباطاتها برواسب العائلة الممتدة.
وبالتالي فان نخبة السلطة في تونس ما بعد الاستعمارية كانت تباشر الفعل الاجتماعي في مجتمع بناه الثقافية صلبة حد الركود من خلال استراتيجية تدخلية مباشرة أوجبها تأثّر النخب الحاكمة في الفترة ما بعد الاستعمارية بما يحصل من سياقات حداثية على صعيد العالم.
معركة التقاليد
في حديثه عن الحداثة السائلة أشار زيغمونت باومان الى ان التغيير الاجتماعي بما في ذلك الثورة هو اذابة للأطر الصلبة القديمة لتسمح بإعادة التشكل. ولقد كانت مهمة الدولة الساعية وراء الحداثة هي اذابة البنى الصلبة التي تعيق مشروعها.
وقد مثلت النظم الثقافية التقليدية المرتبطة بالنظام الاقطاعي (او المخامسي) وبموروث ثقافي يعود الى قرون عديدة أبرز عائق امام تقبل الجماهير لروح الحداثة التي يريد بورقيبة ورفاقه بثها في المجتمع.
انها معركة التقاليد كما وصفها محمد قطب وهي معركة تُصارع فيها النظم الثقافية التقليدية عوامل التغيير الاجتماعي. ولما كانت النظم الثقافية في المجتمعات التقليدية قد تأسست على الثبات الظاهر في البنية الاجتماعية وحتى في المصائر والاقدار فقد ترسخت تقاليد الجمود والثبات. وقد مثلت النظم الثقافية التقليدية الحصن الرافض لمنتجات الحداثة الفلسفية والمعرفية والابداعية وهي مقدمة غير مشجعة على إمكانيات قبول الحداثة من قبل الافراد او فلنقل مقدمة غير مشجعة على مدى قدرة الحداثة على اذابة الأطر القديمة تمهيدا لتشكل البنى الجديدة.
* توفيق الجبالي في "كلام الليل " وخطاب عن الديمقراطية
ان اذابة اطر صلبة ممتدة في التاريخ تستوجب الفن. ان للفن دور ثوري وهو قادر على ارباك أسس الأنظمة الثقافية التقليدية. ويعتبر ماركس ان الفن ثوري من خلال قدرته على تعرية الواقع وابراز تناقضاته ويلغي الوعي الزائف. ولا يتجاهل علم الجمال الماركسي اللينيني ما في الفن من إبداعية خلاقة تمكن من انتشاره وهو ما يجعل منه اداه مهمة لتعلم الثورة والدربة على الديالكتيك. ان مقبولية الفن لدى الجماهير ومقبولية المسرح والسينما والتلفزيون بوجه خاص قد جعلا منها أداة مهمة في مساعي النخبة الحاكمة الى ارباك أسس البنية الثقافية للمجتمع التقليدي.
ولذلك فان نخبة السلطة ممثلة في شخص قائدها الرئيس الحبيب بورقيبة دعت الى اشاعة المسرح وتعميمه ودعمه وهو ما برز في خطاب 7نوفمبر 1963. وهو خطاب أبرز إدراك النخبة الحاكمة لأهمية دور الفن والمسرح في خفض منسوب مقاومة النظم الثقافية التقليدية لمشروع التحديث.
وقد كان خيار السلطة موفقا الى حد كبير رفض النوع المبتذل من المسرح لفائدة مسرح الدراما المسرح الخاضع لمقتضيات تقنيات وكتابة مرتبطة بالحداثة. فالمسرح حالة فنية نادرة له قدرة خارقة على اثارة التساؤلات والدفع الى الجدل والتفكير وإعادة صياغة التمثلات. وبالتالي فان جمهور المدن والقرى قد كان على موعد مع مسرح بديل جديد حداثي يلغي مسرح الابتذال.
خلال معركة التقاليد مع منتجات الحداثة كان لابد من اليات صراع تمكن الدولة من نشر روح الحداثة وقيمها وقد كان للفن دور أساسي في اثارة المعارك مع مركز التعنت في النظم الثقافية التقليدية عبر استفزازها الى نقاش ثوابتها. واقصد بمراكز التعنت المشايخ وحراس الضمائر والاعيان في المجتمعات القروية التقليدية او مجتمعات المدينة.
وقد كانت المسرحية المستوحاة من المسرح الدرامي الغربي في الستينات والسبعينات قفزة مهمة نحو منظومة قيم وتمثلات جديدة من خلال المسرح تم تكوين أجيال من المحترفين الذين قدموا للتونسيين اعمالا درامية وكوميدية عبر التلفزيون.
* التونسيون من كل الاعمار شغوفون بالمسرح
وساهمت تلك الاعمال في اعادة تشكيل التمثلات الاجتماعية للأفراد. وبهذا المعني فان الفن عموما والمسرح بشكل خاص قد تجاوزا الدور الفني المحض وأنجزا مهمة معالجة ومباشرة البنى الثقافية التقليدية واذابتها في إطار دور تنموي تحديثي خالص.
في المشروع الثقافي للسلطة
ان اعتماد نخبة السلطة على الفن لا يعني انها تحولت مباشرة الى مجموعة من دعاة فن، فالفن بوصفه حرية يعزز الفردية أي التوق الى التخلص من قيود المجتمع التقليدي ومن سلطة الدولة ومحاولات الضبط الاجتماعي.
وبالتالي فان الفن بصياغته تلك يمثل خطرا على المشروع السياسي للدولة. في تلك الفترة من الحكم كانت الدولة الراعية هي النموذج الرائج للحكم خاصة في البلدان التي خرجت لتوها من الاستعمار تباعا.
لذلك فان مقولات الديمقراطية لم تكن تجد صداها خاصة لدة نخبة تعتبر نفسها قائدة التحرر الوطني وهي مهمة تاريخية تمحنها من الحصانة في رأيها ما يجعلها خارج دائرة النقاش حول التداول والديمقراطية وغيرها من مقولات ومنتجات الحداثة السياسية.
ولذلك فان الديمقراطية لم تمثل رهانا أصليا لدى السلطة. ومن منطلق الثنائية القائمة على تطلعات السلطة للاستفادة من الفن وتخوفها من انعكاساته وما يحدثه من النقد والجدل، تشكلت مفارقة عجيبة ستجعل الفن والمسرح الذي كان لتوه محل اهتمام الى عالم مرفوض ومحل ملاحقة وسيظهر هنا الفن الرسمي (والمسرح الرسمي جزء منه) في حين سيتمرد فنانون وينتجون الفن هكذا دون القاب أي الفن المحض او فن ما بعد الدراما.
خلال فترة الصراع بين فن السلطة او الفن الرسمي والفن، كان هناك تقارب ملحوظ في الشحنة الفنية فلا أحد ينكر على فن السلطة انه فن ما كان يذاع في التلفزات والراديو وما كان يقام من مسرحيات واناشيد وحفلات رسمية كان يكتسب الحد الأدنى من الفن.
لذلك كان على المتمردين المضي قدما في الانفصال عن مجالات الفن الرسمي ومغادر فضاءاته بما في ذلك دور العرض الرسمية والمسارح الحكومية والسينما العمومية. وفي خضم هذا الصراع ونشات جمعيات ونواد ثقافية مهمة تنشر الفن المحض، الفن "الثوري"، ومن أبرزها جمعية نواد سينما الهواة.
إثر نهاية حكم بورقيبة وصعود زين العابدين بن علي، انتقلت البلاد الى مرحلة جدية من العلاقة بين الفن والسلطة. السلطة في تلكم اللحظة لم تعد بحاجة الى الفن بوصفه الية اذابة للأطر القديمة يل أصبحت تعول عليه في التسويق للإسفاف وهدم أسس الفن.
وبدأت الانتكاسات الفنية بالعودة الى مسرح وتلفزيون ما قبل الدراما. وحتى الحالات التي حافظت على مضمون جمالي شكلاني وانخرطت في التلفزيون والمسرح الدرامي فقد التزمت بخطابات رسمية بالغت في الانضباط الى السياق العام للخطاب السياسي وافتقدت بذلك جوهرها الفني.
* علي بن عياد أيقونة المسرح التونسي في العشريتين الاوليين لدولة الاستقلال
راهنت الدولة على الدعم السخي لبعض المبدعين من خارج الدائرة الرسمية لدفعهم الى الانخراط في مشروعها الثقافي القائم على الفلكلور والفرجة وقد تعمقت خلال تلك الفترة الهوة بين الفن الرسمي بواجهتيه العلنية والسرية، وبين الفن المحض. وقد شاهدنا تمرد الفنانين من خلال عروض مسرحية وفنية خارج السرب ابداعا وموقفا ومضمونا.
لا اريد ان اذكر الأسماء، ولكن مسرحيات خمسون وجنون وكلام الليل وعروض رضا الشمك وفرقة البحث الموسيقي واولاد المناجم والحمائم البيض وغيرهم من المسرحيين والموسيقيين مثلت بديلا مهما عن مجاميع الاسفاف. كما شهدت الحركة الفنية في تونس قبيل سنوات قليلة من "الثورة" تصاعد احتجاج شبابي رافض للسائد الفني وقد تجسد من خلال محاولات الفضاءات المسرحية التي أقامها عدد من المسرحين الشبان مثل غازي الزغباني. ومحاولات موسيقية مثل محاولة الراحل ياسر جرادي وبعض مغني الراب. وقد اكدت تلك الدينامية صلب الحركة الفنية فشل المنوال الثقافي الرسمي ومساعي احتواء الفن وضبطه.
في افق الفن المحض
سيكون من السهل القفز على مرحلة الثورة او الانتفاضة او الفيضان الشوارعي وما بعدها فقد كان الصراع منحسرا بين مشروع واحد يريد تغيير نمط عيش التونسيين وبين مشاريع متعددة ومختلفة المنطلقات وهو ما خلق لبسا حول المشاريع الثقافية لأصحابها. وسيكون علينا ان ننتظر فترة من الزمن حتى تتكشف اغلب النوايا السخيفة (سخيفة في مرماها العام) لعدة أنماط من الفن او المحاولات الفنية.
* الموسيقي رضا الشمك في تجليات خاصة به
وقلنا اننا سنقفز على تلك المرحلة لمحاولة فهم المشروع الثقافي للسلطة الحالية. فكما يبدو ان هناك اهتمام بالفن بوصفه "محملا لقيم النضال والحرية" وفق الخطاب الرسمي التونسي. ويبدو اننا بصدد تحول جديد في تمثل السلطة للفن الذي سينقل الخطاب الرسمي من الفن بوصفه الية لإذابة الأطر الثقافية التقليدية كما أراده بورقيبة، الى الفن بوصفه حمال رسائل، أي الانتقال من الفن بوصفه جزءا من استراتيجية تنموية، الى الفن بوصفه الية للدعاية.
هذا الامر يستوجب الكثير من التدقيق لان الفن بتلك الصيغة لن يكون فنا. ان الطابع الغالب في الخطاب الرسمي للسطلة يختزن في طياته ميول محافظة سيكون علينا ان ننتظر مزيدا من الوقت لكي يتبين لنا اذا ما كان للسلطة الحالية مشروعا ثقافيا.
ان المشروع الثقافي لا يمكن إنجازه الا من ضمن مشروع تنموي وتصور مجتمعي عام ولما كان المشروع التنموي الان غير واضح تماما فان المشروع الثقافي ملتبس وبالتالي فان تفاعل الحقل الثقافي مع الحقل السياسي فيه الكثير من اللبس والركون الى السجلات القديمة من العلاقات أي اننا لسنا بصدد فن يمكن وصفه بالرسمي او حتى بغير الرسمي.
في كتابه عصر الفراغ يشير جيل ليبوفكسي* الى انتقال الفن الى مرحلة "ما بعد الحداثاني" بوصفها مرحلة لقلب صفحة الحداثانية حيث سيصبح الفن تقليدا مثل بقية التقاليد الأخرى.
ما بعد الحداثانية تهدف باختصار الى "استرخاء الفضاء الفني بالموازاة مع مجتمع لم تعد الأيديولوجيا الصلبة تستهوي فيه احدا وحيث تختلط الأدوار والهويات " وحيث الفرد أصبح عائما ومتسامحا ذلك ان فن ما بعد الحداثانية لن يسمح لأي جهة كانت بضبطه.
وبالتالي فان المشروع الأمثل للسلطة هو مسايرة حركة الفن وحفظ تنوعه ومقاومة مظاهر الاسفاف والابتذال (الفني طبعا لا شان لصحاب المقال باي معايير اخلاقاوية) ودعم الفن بوصفه فنا وعدم السعي الى ضبطه والحاقه بالاجندا السياسية.
* غازي الزعباني في أحد أدواره المسرحية
ان الفن بوصفه فنا محضا يمثل شكلا مميزا من الوعي الاجتماعي وهو شكل تحريري بالضرورة منحاز للقضية الإنسانية في معناها العام. فالفن المحض ليسا حياديا كما يبدو ولكنه منحاز الى توجه فكري ويحمل قضايا العصر.
وحيث ان "الفن يهم الجميع" (تشرينوتشوفسكي) فان معركة تحريره من كل محاولات الضبط ستكون مهمة ملحة للجميع وسيقودها الفنانون متى اختاروا الانحياز الى الفن المحض بعيدا عن الانتماء الى الفن بوصفه حرفة. أي الانحياز الى الفن للفن (بيلنسكي) انها معركة فنية كل وسائلها الابداع والجمال.