آراء حرة

فيما الظاهرة العنفيّة تستفحل وتتجدد في الوسط التربوي(4) : المعالجة التأديبية وحدها لن تحدّ منها

كتب علي الجلولي المستشار في الإعلام و التوجيه المدرسي و الجامعي : " تتصاعد بمناسبة كل واقعة عنف في الوسط المدرسي صيحات الفزع الداعية إلى اعتماد الأساليب التأديبية التي يجب تشديدها.

إن هذه الدعوات تجد مشروعيتها في حجم السخط على تنامي الظاهرة العنفية التي اخترقت المؤسسة التربوية وأصبحت ممارسة "عادية" بمقتضى الإحصائيات المسجلة في كل المؤسسات والجهات.

على أن صيحة الفزع تتصاعد أكثر حين يطال العنف مدرسا أو مسؤولا بالمؤسسة (مدير، قيم..) فيما تعتبر مظاهر العنف بين التلاميذ داخل المؤسسة وحولها الأكثر انتشارا وهو ما يجب الانتباه إليه لصياغة مقاربة متكاملة حول الظاهرة. والظاهرة العنفية تتقاطع مع انتشار مظاهر أخرى غير تربوية وحفوفة بالمخاطر الجمّة مثل استهلاك المسكرات والمخدرات التي أصبحت المؤسسة التعليمية مرتعا لها بل هدفا مستهدفا لعصابات الأقراص والمواد المخدرة. 

إن المعالجة في تقديرنا لا يجب أن تقف في حدود المقاربة التأديبية سواء اعتمادا على نظام التأديب المدرسي، أو اعتمادا على المعالجة الجزائية بالاتجاه إلى الشرطة والقضاء. إن هذه المعالجة تبقى قاصرة وبمعنى ما ذات مردود سلبي في التصدي للممارسات العنيفة سواء تعلقت بالعنف المادي أو بقية أشكاله المتفشية (العنف الرمزي، النفسي، المعنوي، على خلفية الموقع الاجتماعي والانتماء الجهوي والجنسي...) والذي يجب أن تكون لنا الجرأة كي نصدح أن كلّ أعضاء الأسرة التربوية ومن أبرزهم المدرسين هم الأكثر انخراطا فيها.

إن المدرس بمقتضى حجم المساحة الزمنية للالتقاء بالتلميذ وبالتالي بحكم حجم الضغط الذي يقع ضحية له، فانه ينخرط من حيث لا يشعر وأحيانا لا يريد في الممارسات العنفيّة المختلفة.

وجب التنويه هنا أن التلميذ يعيش هذا الضغط أكثر بحكم حجم الالتقاء الذي يتجاوز حجم ما يعيشه المدرس، فالتلميذ يقضّي بين أربع ساعات و سبع ساعات (وأحيانا ثمانية ساعات) بين جدران القاعة بما يشكل في حد ذاته عنفا بما يؤسس وييسّر الانخراط في ردود أفعال عنيفة أو ذات نزعة عنيفة. يضاف إلى ذلك نظام تسيير المؤسسة والتعليم بما فيه الامتحانات والمراقبة والتقييم الذي يتزامن مع المرحلة الأشد حساسية في عمر الإنسان وهي فترة المراهقة (بين 12 سنة و19 سنة هي فترة التمدرس بين الإعدادي والثانوي) بما يعزز النزوع العنفي الذي يجد عوامل دفع أخرى تنتشر خارج المدرسة في الشارع والأسرة وفي وسائل الإعلام والتواصل (المسلسلات،الأغاني...) بما يدفع الكثير من التلاميذ إلى ممارسة أشكال متعددة من العنف بما فيها العنف المادي وبما فيها ما يطال الإطارات التربوية بما فيها المدرس .

إن إصدار العقوبات بما فيها السالبة للحرية مثل التي تعرض لها التلميذ الذي هجم بسكين على الأستاذ "الصحبي بن سلامة" في معهد ابن رشيق بالزهراء (ولاية بنعروس) يوم 8 نوفمبر 2021 والتي هزّت الضمير الجمعي التربوي وغيره لم يقض على الظاهرة العنفيّة ولم يقلّص منها.

إن الإجراء الزجري الذي كان لازما لم يحدّ من انتشار العنف كما لم تحدّ المعالجة الأمنية/القضائية من انتشار الجريمة وتصاعدها.

ـ كيف نبدأ في معالجة الظاهرة؟

إن الخطوة الأولى التي يجب أن يعيها الوسط التربوي أنه لا معنى لمعالجة الظاهرة العنفية في الوسط المدرسي دون تشاركية واسعة لمختلف الفاعلين التربويين بمن فيهم التلاميذ .

إن التعاطي القطاعوي مع الظاهرة هو عنوان قصور وفشل سيستمر إن لم تع مختلف أسلاك التربية والتعليم أنه آن الأوان لتنظيم تشاور واسع يفضي إلى صياغة مقاربة مشتركة تضبط أهدافا واقعية ممكنة التحقيق.

ويمكن بصفة مباشرة أن تتولى النقابات السلكية تنظيم هذا العمل باعتبارها الإطار الأكثر تمثيلية وانتشارا في المؤسسات التربوية. إن التفكير الجماعي يجب أن يفضي إلى الاتفاق على مداخل ضرورية تؤسس لمقاربة تربوية علمية شاملة.

هذه المقاربة يجب أن تتحرر من الأحكام الجاهزة مثل الإدانة الماقبلية للتلميذ والولي والتبرئة الكلية لبقية الفاعلين التربويين.

كما يجب أن تتحرر من الرؤية الزجرية باعتبارها الحلّ الأوحد أو الأساسي للظاهرة.

إن الإجراءات الزجرية هي وجه من وجوه المعالجة لا غير، وان أردنا معالجة علمية وموضوعية فان هذا الجانب (أي الإجراءات العقابية) يجب أن لا يرتب في صدارة الإجراءات بل يجب أن يكون مسبوقا بأنشطة توعويّة تحسيسيّة تستهدف مختلف الفاعلين.

وفي هذا الصدد وجب التنويه أن مطالبة مكونات الأسرة التربوية بسن قانون لتجريم الاعتداء على المربين و المؤسسة التربوية إنما يحتكم إلى تحسيس مختلف الأطراف أي الدولة والمجتمع برمزية المؤسسة التربوية وقيمتها الاعتبارية فضلا عن المكانة المعنوية التي يجب أن يحظى بها المربي سواء أثناء ممارسة مهمته أو خارجها .

هذا لا يجب أن يعطي للمربي وضعا خاصا ولا استثنائيا، فهو مواطن ينطبق عليه ما ينطبق على غيره من المواطنين والموظفين.

إن الاعتراف بخصوصية دور المربي والمؤسسة التربوية هو علامة تحضّر وتقدم، كما أن انتهاك حرمة المدرسة والمسّ من أعضاءها هو دليل تخلف وتصحر فكري وقيمي وجب مقاومته لحساب رؤية اجتماعية تعطي للمدرسة وللمربين ما يليق بدورهم كصنّاع للعقول ومهندسين للأرواح والأذهان والأذواق، صناع حاضر المجتمع ومستقبله.

إن المربي هو بخلاف خصوصية مهمته الحضارية مواطن له حقوق المواطنين وواجباتهم وينطبق عليه ما ينطبق على الجميع بما في ذلك حين يتورط في ممارسة العنف مهما كان شكله. فالمربّي سواء كان مدرسا أو مسؤولا في المؤسسة التربوية (مدير، قيم،موظف،حارس..) يمكن أن ينحرف إلى "سوء استعمال السلطة" أي أن يستغل موقعه ويمارس التسلط والقمع والتمييز والتنمّر....

كما أن برامج التعليم ومضامينها تخلق للمدرس مساحات لممارسة التعسف الفكري والإيديولوجي، وسلطته المعنوية في القسم وفي المؤسسة يمكن أن تكون فضاء لممارسة العنف المعنوي والنفسي، أما ضوارب المواد فتكون مدخلا للابتزاز المعنوي وخاصة المادي (الدروس الخصوصية) الذي توسّع وتعزز في العقود الأخيرة مستندا على التدهور المريع للوضع المادي للمدرسين وللخلل الذي ينخر منظومة التعليم وخاصة طول البرامج وتفاوت الضوارب التي تشكل في حد ذاتها أحد أهم أوجه اختلال المنظومة وفشلها. هذه المنظومة التي يعتبر التلميذ ضحيتها الأولى والمدرس ضحيتها الثانية، والوجه الأكثر معضليّة هو تصادم هذين الطرفين/الضلعين الأساسيين حيث يعتبر العنف بأشكاله المتعددة التعبيرة الأشد فجاجة عن تدهور هذه العلاقة."   يتبع ...