آراء حرة

فيما الظاهرة العنفيّة تستفحل وتتجدد في الوسط التربوي : أي دور للفاعلين التربويين؟ (5)

كتب علي الجلولي المستشار في الإعلام و التوجيه المدرسي و الجامعي :  " إن ما يجب أن نبدأ به هو تنسيب أحكامنا والقيام بالجهد اللازم للتخلص من النظرة "التقليدية" التي تُأثّم التلميذ وتنزّه بقية الأطراف التربوية وعلى رأسها المدرّس.

يترافق مع ذلك الاتجاه نحو بناء الثقة في فكرة أن الإطار الأفضل لمحاصرة الظاهرة العنفية هو الحوار الأفقي بين مختلف الأطراف التربوية لتوحيد زوايا النظر للظاهرة ولأسبابها الأساسية ولمخاطرها وتجلياتها وانعكاساتها على المناخ التربوي برمته.

لقد أثبتت التجربة أن الحوار الهادئ والتفاعلي مع التلاميذ يحقق نتائج مهمة وواعدة، وذات الأمر مع الأولياء الذين بقدر تشريكهم أو تشريك أكثر ما أمكن منهم كانت المعالجات أسلم.

وداخل المؤسسة كلما كانت العلاقة حوارية/تواصلية بين التلاميذ و المدرسين كلما كانت العلاقات أفضل والنتائج الدراسية أحسن.

وكلما كانت العلاقة عمودية/أبوية/ قهرية كلما كان المناخ ملغّما وقابلا للانفجار في أي لحظة وبأي شكل. وكلما كانت النوادي الثقافية والعمل المدني والتطوعي نشيطا كلما تمكن مختلف الفاعلين التربويين من امتصاص عناصر التوتر في العلاقات.

إن الحوارات الأفقية التي يجب أن يحتكم إليها الفضاء التربوي في إدارته اليومية تخلق الفرص الحقيقية للتصدي للظاهرة العنفيّة والحد منها ومن مفاعيلها وتجلياتها باعتبارها ظاهرة تتجاوز المؤسسة التربوية إلى الفضاء الاجتماعي بمختلف خلايا التنشئة فيه.

إن المدرسة اليوم ـ وللأسف ـ هي أحد الأطراف المتورطة في شحذ العنف وشحنه وإعادة إنتاجه بلغة عالم الاجتماع الفرنسي " بيير بورديو "، فهي مؤسسة ضبط وإعادة تنظيم للأدوار والمهمات الاجتماعية، وفي أروقتها و قاعاتها وبين صفحات موادها تنسج العلاقات بمضامينها المختلفة والمتناقضة. وكما يتمّ التواصل السويّ (وهو محدود ونادر في الحقيقة)، تنتشر مختلف أوجه وأشكال التصادم الفكري وأيضا المادي لأسباب تعود لاختلاف المواقع و الأجيال والمرجعيات والرؤى والتصورات للمدرسة وللسلوك وللهندام واللغة...،

وفي هذا السياق تطرح إشكالية الآليات والأساليب الأضمن لترتيب العلاقات وامتصاص أكثر ما أمكن من التوتر فيها.

إن الاحتكام إلى الحوار صلب المؤسسة التربوية بين مختلف مكوناتها لن يذهب بعيدا في نزع فتائل الظاهرة العنفيّة ما لم تتمّ المراجعات الجذرية الضرورية التي تهمّ السياسة التربوية بشكل عام بدءا من نصيب وزارة التربية من الميزانية العامة للدولة بما يوفر الشروط المادية الأساسية لاشتغال التعليم العمومي والتي تطال البنية الأساسية للمدرسة وشروط التمدرس والحياة صلبها وتحسين أوضاع المنتسبين للقطاعات التربوية بما يعيد الاعتبار لدورهم كدور حيوي لنهوض المجتمع وتقدمه لا باعتبارهم قطاعات غير منتجة بما يعني أنها تمثل عبئا على الدولة، وصولا إلى البرامج والمناهج والممارسات البيداغوجية والزمن المدرسي وعلاقة المدرسة بالفضاء الاجتماعي...

 إن تحويل المدرسة العمومية إلى فضاء مستقطب عوض وضعها الحالي باعتبارها فضاء منفرا بما يعزز شروط الالتحاق الآخذ في التوسع بالتعليم الموازي المقنّن (أي الخاص) أو الانقطاع المبكر عن التمدرس، هي مهمة اجتماعية عاجلة كي يتحقق فعلا تكافؤ الفرص وعدالة التعليم وديمقراطيته.

كما أن مراجعة محتوى المواد وتوزيعها وضواربها والزمن المدرسي والسياسة التوجيهية وعلاقة حلقات التعليم المتلاحقة من التعليم الماقبل مدرسي إلى التعليم العالي والبحث العلمي و التكوين المهني، وأساليب تسيير المؤسسة التربوية على مختلف الأصعدة وعلاقة مكوناتها بعضها ببعض، فضلا عن علاقتها بمحيطها الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، كلها عناوين لورشات يجب أن تنطلق بمشاركة فعالة من مختلف الفاعلين التربويين بما يعبّد الطريق نحو مدرسة عمومية في قلب المجتمع بمضامينها العقلانية وعلاقاتها السليمة وقدراتها الفعليّة في خلق الإنسان/المواطن الفاعل والسويّ.

ـ بما نبدأ الآن وهنا ؟

إن العنف كجزء من السلوكات المحفوفة بالمخاطر بصدد التوسع والانتشار في كل الجهات، في الأرياف كما في المدن، وفي كل الأوساط الاجتماعية. إن ناقوس الخطر لا يجب أن يتجه إلى إعادة إنتاج المعالجات القاصرة التي ثبت للمرة الألف فشلها وعجزها عن محاصرة الظاهرة أو التقليص منها. إن ما نشهده في المدة الأخيرة من إعادة إصدار مناشير قديمة حول "منع استعمال الهاتف الذكي في المؤسسات التربوية" ومعلقات بعض مديري الاعداديات والمعاهد حول "الهندام الحسن" والوصول حدّ " تفتيش التلاميذ لمصادرة الممنوعات ومنها الهاتف الذكي " لن تحلّ المشكل بل ستضاعف نفخ النار في الهشيم، فهذه "المعالجات" مازالت تريد الاحتكام للمنطق الزجري/التأديبي الذي يتوهم "بث الخوف" بين التلاميذ. إن هذا المنطق غير تاريخي وأصحابه لم يستوعبوا شيئا من التحولات الحاصلة عالميا لدى الأجيال الجديدة. إن رؤية تربوية شاملة وجذرية يجب أن تجد طريقها للاعتماد تشخيصا وعلاجا حتى لا نبقى ندور في الفراغ.

إن مستشاري الإعلام والتوجيه المدرسي والجامعي، بمقتضى تكوينهم المعرفي والأكاديمي وتجربتهم التربوية التي انطلقت من القسم قادرون لو توفرت لهم كل الإمكانيات المادية واللوجستية وفي مقدمة ذلك الإفراج عن مشروع المنشور الخاص ب"المرافقة والتدخل في الوسط المدرسي" الذي تقدمت به نقابة المستشارين إلى وزارة الإشراف منذ قرابة عام دون أن ينطلق النقاش والتفاوض حوله، قادرون على التدخل الناجع لمعالجة الظاهرة العنفيّة انطلاقا من فهمها كظاهرة موضوعية لها أسبابها وسياقها الاجتماعي والسياسي والثقافي والنفسي وأيضا تداعياتها و انعكاساتها على الفرد والمؤسسة التعليمية والمجتمع. معالجة تهدف إلى الحد من العنف لا القضاء عليه، فهذا مطلب مثالي غير واقعي في ظروف مجتمعنا و عالمنا اليوم، فالقضاء على العنف في علاقات البشر يقتضي نسف كل شروط ولادته ونشأته وانتشاره وهي أسباب معقدة ومتداخلة تتطلب عملا دؤوبا على المدى البعيد. لكن بصفة مباشرة فان عملا تشاركيّا تنخرط فيه بحماس كل الأسلاك التربوية وتتوفر له فضاءات الفعل (لا مجرد القول)، وبطبيعة الحال فان موقع التلاميذ والأولياء في هذا الجهد يجب أن يكون بارزا وحيويا. إن اشتغال المكونات التربوية تشاركيّا على مسألة العنف في الوسط المدرسي لا يجب أن يلغي دور المجتمع المدني و فضاءات البحث العلمي و وسائل الإعلام والتواصل، فالموضوع هو موضوع اجتماعي يهمّ مختلف الفاعلين والمهتمّين بحاضر ومستقبل الناشئة والبلاد.

فلتبادر نقابات التربية والتعليم باعتبارها الإطار الأكثر تمثيلية لمجمل الأسلاك التربوية وباعتبار مقارباتها لمجمل الشأن التربوي، وباعتبار التشاركية الأفقية التي تربطها بعضا ببعض، وذلك بخلق الأطر و الآليات اللازمة من أجل صياغة تصورات متكاملة لمجمل القضايا التربوية الحارقة. "

                                                                                                                                                                                                                       انتهى