"بكل شجاعة أعلن خوفي"

الشعب نيوز/ وسائط / هشام السنوسي:
اعترف، بينما أصابعه تكرر الحركات ذاتها لتتناسل الفيديوهات القصيرة امام عينيه.. غرائز الآخرين وتفاهاتهم تحولت إلى أثاث يملأ ثقوب ذاكرته. قال، وهو يراقب بحياد وقته المهدور: “ لقد أصبحت مدمنا”. منذ ان اكتشف التيك-توك وهو يسعد بتكرار اغتيال زمنه الجاثم. ومع ذلك - وهو يمارس متعته الافتراضية- كانت القدرة تسعفه أحيانا لفتح خط مواز للتفكير، فيتخلى عن هاتفه كأم تتخلى عن رضيعها لحين، وبصوت خافت يفضح أفكاره الدفينة وهروبه غير المعلن من واقعه،
يتمتم : "لست منهم، هؤلاء الذين يتطاوسون بشجاعتهم ويعتبرون بسذاجة أن دفع ضريبة السجن مسألة تنضاف إلى حسناتهم النضالية.. لست ولم أكن يوما مع هذا الهراء.. بكل بساطة انا وسطي ووسطيتي متطرفة عزيزة علي فهي عرين سكينتي الداخلية وأمني النفسي.. أعلم أن البعض ينعتني بنعوت قد تبدو شتيمة بينما هي في الأصل خصال تليق بمقامي ورجاحة تفكيري".
يبدو أنه ضجر من مخاتلاته المتكررة لذاته، من خوف مواجهة تبعات خوفه قال: “لماذا لا أبوح بحقيقة تفكيري؟ لماذا أخفي مواقفي بينما هي محرك مجتمعي ومصنع قيمه؟ لماذا أبحث عن مبررات لخوفي؟ فالخوف مشروع ، وما التهور إلا ربيب ألانفعالات وتضخم الغرائز. أليس من حقي الخوف على أحلامي الصغيرة، على قهوتي الصباحية، على راتبي والساعات الإضافية، على أوقاتي المطولة في مكان قضاء الحاجة،،،!”
هلوسات دورية تنتابه ثم ما تلبث أن تزول فيعود لمداعبة هاتفه الفخم. في إحدى الهلوسات، وقد بلغ به الظن أنها وحي، وبعد أن تأكد أن إبحاره ليس سوى تعلة للتفكير خارج صندوق غرائزه المتشابكة، قرر أن يجابه ذاته وأن يجمع ما تبقى من أشلاء شجاعة طيش الشباب، فأعلنها جملة حاسمة، صرخ بأعلى صوته: "إنني خائف.. نعم أنا خائف ولا أعلم لماذا أو مما أو ممن أنا خائف..
لقد تفاقم خوفي وتجاوز جسدي ليعم أماكني وأشيائي وليتجاوز حاضري ويحضن زمني الماضي والآتي، تفاقم حتى أصبحت أخاف على خوفي، أخاف أن يبارحني فأهيم على وجهي.. لولاه يعلم الله ما كان قد حدث أو يحدث لي.. هدوءي، شخصيتي المتعالية المحتقرة للرعاع والهرج والمرج وجاهة صمتي وتبريراتي المقنعة كلها خصال جنيتها من خوفي.”
لاحظ - فجأة - مصادفة تزامن نوبات تحليل خوفه مع فيديوهات أخبارية تتعاقب على شاشة هاتفه : الحروب ،المجازر ،الفساد، السجون، تهديدات ترامب،،، لا يعلم كيف تسمح الخوارزميات بتلك المضامين المزعجة التي تخترق سكينته، صحيح قلبه مع غزة ولبنان، يستمتع بشجاعتهم الخارقة ويطنب في تحليلها وتحفيز هممهم على المواصلة، "النصر أو الشهادة"، ولكن الصور التي تتزاحم أمام أبواب دكاكين رأسه الموصدة تذكره بالقابعين في السجون، أصدقاء وصديقات الجامعة والنقابات وأزمنة الأحلام الجميلة،
صرخ كمن لدغته حية: " إنني، الممضي أسفله، الخائف ابن الخائفة، وحيث طالني الشك حتى في نفسي وأصبحت أحجب عنها أفكاري، أعلن انني خائف، قلبي مع الأقل خوفا مني . لهم رب يحميهم".
فجأة صمت، توقف عن الكلام ثم تدارك: "مهلا، مهلا، مهلا! ماذا قلت؟ قلت قلبي معهم! وحرضت الرب على حمايتهم! كلا قلبي ليس معكم وحاشا الرب أن يتورط في حمايتكم،انها مجرد زلة قلم واذا صادف ووُضعت على ذلك الكرسي لن أعترف و سأتمسك بعبارة زلة قلم ولن اترك المجال لتأويل كلامي أو التشكيك في ولائي."
عادت عيناه لتعانق الأشرطة المتواترة على شاشة هاتفه، بزغ شخص من هناك يزمجر ويهدد ويشتم، همس صاحبنا وكأنه يسكب بلطف كلماته في أذنه: "بصراحة، إنك تسهب في الكلام والتكرار ، لقد عثرت بغلة عمر في ديارنا وكسورها عصية على الجبر”.
لملم أمره وعقد العزم ثم قال، "اسمح لي تدخلي فيما أنت أفقه مني فيه، كل ما في الأمر هي خشية، أخشى انني مغال فيها، فالشيطان الرجيم يوسوس لي أنك استحليت مذاق هذه المتعة وخوفي، معاذ الله، أن يصعب عليك فِطامها. لكن وفي نهاية المطاف لا عليك وما ضر لوحدث ذلك، عزاؤكم يا سيدي في حِكمة العرب، فالسلطة عند سلفنا رأس هرم المتع وجماع اللذات. ارأيت! اعاتبك عتابا خفيفا لطيفا عن الإسهاب فإذا بي أقع فيه”.
تلقفته غرائز بقائه فقال بصوت ماكر: " كل رجائي ألّا تنسى أن بعض كلماتي وإن أُخرجت عن سياقها وضلت سِراطها فهي لا تعدو أن تكون سوى آيات شيطانية تسربت لنفسي اللعوب، الأمَّارة بالسّوء”.
تأبط خوفه برقة وشاعرية،حضنه. انطفأت شاشة هاتفه. استسلم للسكينة.
الإمضاء: أنا هشام السنوسي، أُنكِر وأتنكّر وأستنْكِر هذا النّص، لست كاتبه.