المسرح : "خشبة مفتوحة للجميع... حتى لمن لا يعرف الفرق بين ستانيسلافسكي وستار الله.."

الشعب نيوز/ نجيب مناصرة - في السنوات الأخيرة، عاد الجدل بقوة إلى الساحة المسرحية، لا سيما في تونس، حول أحقية تدريس المسرح وتأطير الناشئة بين من يحملون الشهادات الأكاديمية ومن يمتلكون تجارب فنية ميدانية.
وقد تصاعد النقاش بين من يدافع عن أهمية التكوين الأكاديمي كضمان للجودة والجدية، ومن يراهن على الموهبة والتجربة الشخصية كمسلك مشروع للتأطير والتدريب. وبين هذا وذاك، تظل الحقيقة أكثر تعقيداً من أن تختزل في ثنائية حادّة.
فالشهادة الأكاديمية في المسرح ليست مجرد وثيقة إدارية، بل ثمرة سنوات من التحصيل العلمي، والمعرفة النظرية، والتدريب البيداغوجي. إن حامل الشهادة غالباً ما يكون قد مرّ بمسارات دقيقة في تحليل النصوص، نظريات التمثيل، تاريخ المسرح، الجماليات، وتقنيات الإخراج، مما يجعله قادراً ليس فقط على الأداء، بل على نقل المعرفة وتوجيه الممارسة في سياق تربوي سليم. هذا الجانب يصبح جوهرياً عندما يتعلق الأمر بتكوين الأطفال والمراهقين، أو إعداد أجيال جديدة تفهم المسرح كفن ومعرفة، لا كمجرد استعراض آني.
لكن في المقابل، لا يمكن إنكار وجود فنانين لم يتلقوا تكويناً أكاديمياً، وراكموا رغم ذلك تجارب غنية وذات مصداقية. بعض هؤلاء أسهموا في تطوير الحركة المسرحية، وأسّسوا لمدارس في الأداء أو الإخراج أو الكتابة. نماذج مثل الفاضل الجعايبي، الذي وإن لم يكن خريج المعهد العالي للفن المسرحي، تلقى تكوينه في فرنسا واشتغل لسنوات طويلة في تأطير أجيال من الفنانين، أو تجربة الفنان توفيق الجبالي نفس الشيء ... والأمثلة عديدة تبرز قيمة التجربة حين تكون حقيقية ومتجذّرة في مشروع فكري وجمالي واضح. هؤلاء لا ينبغي إقصاؤهم، بل من الضروري احتضانهم ضمن منظومة تقيّم التجربة وتضمن استمراريتها ضمن أطر محترفة ومسؤولة.
المشكل الحقيقي لا يكمن في الفنان غير الأكاديمي، بل في اجتياح الوجوه التلفزية لمجال التأطير دون أي تكوين، ودون امتلاك الحد الأدنى من البيداغوجيا أو الرؤية. فضاءات كثيرة، خاصة في تونس، تُفتح اليوم باسم "الورشات المسرحية"، ويشرف عليها أشخاص يفتقرون للكفاءة، ولا يتجاوز رصيدهم بضعة ظهورات في أعمال تجارية أو برامج منوّعاتية او في عمل مسرحي او اثنين او تلقى تدريبا في ورشة مسرح مع ظهور تلفزي في فيلم او مسلسل فأصبح مكونا (بوجهه) هؤلاء يركّزون على الجاذبية الإعلامية لاستقطاب الناشئة، دون أي التزام بجودة التكوين أو احترام خصوصية العملية التربوية، مما أدى إلى تهميش دور المسرح كمجال للتفكير والتربية، وتحويله إلى سلعة تُسوّق بمقاييس المتابعة والإعجاب.
في هذا السياق، تصبح مسؤولية الدولة، وخصوصاً وزارات الثقافة والتربية والتعليم العالي، أساسية في ضبط المجال، وتحديد الشروط الدنيا للتدريس والتأطير، سواء في المؤسسات العمومية أو في الفضاءات الخاصة. من الضروري أن يخضع كل من يُقبل على تدريب الشباب لمعايير واضحة، تتعلق بالكفاءة والخبرة والتكوين المستمر، مع إمكانية الاعتراف بالتجربة حين تكون حقيقية، لكنها أبداً لا تعني غض الطرف عن الفوضى أو تحويل الشهرة إلى رخصة تأطير.
إن المطلوب اليوم ليس محاكمة النوايا، ولا إقامة جدران بين الأكاديميين والمجرّبين، بل خلق منظومة عادلة تعترف بالمسارات الجادة، أياً كان مصدرها، وتضع حداً للاختراقات التي تسيء للفن، وتغشّ الناشئة، وتحوّل المسرح من مساحة لبناء الإنسان إلى مجرد نشاط ترفيهي فارغ من المعنى.
المسرح مجال جمالي وفكري حساس، لا يحتمل أن يُترك في أيدي غير مؤهلة، ولا أن يتحول إلى منصّة لتضخيم الأنا أو ترويج الوهم. تأطير الناشئة مسؤولية تتطلب علماً وخبرة وصدقاً، قبل أي شيء آخر حتى لا يتساوى بين يعرف ومن لا يعرف.