مسيرة الشموع - ديوان آمنة الوزير : رحلة بين الأزمنة و الذاكرة

بقلم محمد العربي - صدر مؤخرا الديوان الشعري الخامس للشاعرة التونسية آمنة الوزير، تحت عنوان "مسيرة الشموع"، وهو عمل يتميز بعمق وجداني وبحث مستمر عن الذات في أفقٍ مفعم بالتساؤلات والذكريات.
تأتي هذه المجموعة الشعرية ضمن سلسلة "نبض" التي أطلقتها دار النشر التونسية Pop Libris، وهي سلسلة تهدف إلى نشر الشعر بأسلوب ميسر وبأسعار معقولة في "كتب الجيب"، ما يجعلها في متناول الجميع.
آمنة الوزير، التي سبق لها أن أصدرت مجموعة من الأعمال الشعرية المتميزة مثل "رنين" و"صمت البراكين"، شاعرة تجمع بين الثقافتين العربية والفرنسية، وقد ترجمت قصائدها إلى عدة لغات وشاركت في مهرجانات عالمية. في ديوانها الأخير، "مسيرة الشموع"، تقودنا الوزير في رحلة ذات طابع تأملي يجمع بين الحزن والذاكرة، وبين الواقع والمجهول.
* قصائد محمّلة بالذاكرة والتجربة
يأخذنا الكتاب في رحلة عميقة بين الأزمنة والأماكن. تبدأ الشاعرة بتذكّر طفولتها، حيث يلتقي الماضي بالحاضر في مشهد مليء بالدموع والفرح، بالحزن والمقاومة. قصائدها مليئة بالصوت الداخلي، تلك الأصوات الخفية التي تنبثق من اللقاءات العابرة والمحادثات التي لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد.
هذه اللقاءات هي مصدر إلهامها، كما تقول في تقديم الكتاب: "كل نصوصي تنبثق من صدَف اللقاءات ومن محادثات مع أشخاص لا أعرفهم، أسرّوا لي بما يضمرون ونحن على متن حافلة تسير في طريق جبلي في ألبانيا". هذه الرحلة المدهشة تصبح وسيلة الشاعرة لفهم العوالم الداخلية ومساءلة الزمن.
تأتي قصائد "مسيرة الشموع" لتسجل لحظات لا تمحى من الذاكرة؛ الحرب، الزلازل، والفقد، تلك الصور التي تتنقل عبر الزمان والمكان، مؤطرة بانكسارات ولكنها تتجاوزها إلى لحظات أمل وتفاؤل غير مرئية. تتكثف اللغة في هذا الديوان لتصبح أكثر قدرة على تجسيد الهويات المفقودة، والصور المرهقة، ما يجعلها تنبض بقوة، كالشعلة التي تحترق دون أن تنطفئ.
* رمزية العنوان
يحمل العنوان "مسيرة الشموع" دلالات رمزية عميقة. الشموع، التي تشير إلى الضوء في الظلمات، هي إشارة إلى الاستمرار في المسير رغم العواصف التي تعصف بالروح. هي رمز للإصرار على البقاء في مكان ما في الزمن رغم محاولات النسيان. الشاعرة تطرح الأسئلة الوجودية، تاركة لنا مهمة البحث عن الإجابات في ديوانها الذي يربط بين الأزمنة، الذاكرة، والوجود ذاته.
* الأسلوب الفني والتقنيات الأدبية
تُظهر آمنة الوزير براعتها في استخدام الأسلوب الشعري الذي يمزج بين السرد الشعري والتأملات الذاتية. التقنيات الأدبية التي تعتمدها، مثل التكرار، والتناقضات الداخلية، والانزياح الدلالي، تجعل القارئ يعبر مع الشاعرة أكثر من مجرد حروف، بل يدخل إلى عالمٍ متكامل من العواطف، والألم، والرجاء. الأسلوب المعتمد يثير القلق الوجودي ويثير التساؤلات حول مفهوم الذاكرة والتاريخ الشخصي والجماعي.
* القصائد كمفاتيح للذاكرة الجماعية
من خلال "مسيرة الشموع"، لا تقدم آمنة الوزير مجرد قصائد شخصية، بل مفاتيح لفهم الذاكرة الجماعية. الشاعرة تأخذنا إلى أيامٍ طواها الزمن، إلى تفاصيل صغيرة كقصص الطفولة والبيوت القديمة التي تم محوها أو هدمها، لكنها تبقى محفورة في الذاكرة.
إن "مسيرة الشموع" هو أكثر من مجرد ديوان شعري؛ إنه رحلة شعورية إلى تلك اللحظات التي يتقاطع فيها الزمن الشخصي مع التاريخ العام. إنه دعوة إلى التمسك بالذاكرة وعدم التخلي عن النور الذي يضيء دروبنا حتى في أحلك الأوقات. في هذا الديوان، تثبت آمنة الوزير مرة أخرى أنها شاعرة ذات قدرة هائلة على التجسيد والتأثير، قادرة على تحويل الكلمات إلى لحظات حية تتنفس بين أيدينا.