وثائقي

النص الكامل لمقال "الكرنفال" لمحمد قلبي المنشور في ركن حربوشة بجريدة الشعب 1978

 الشعب نيوز/ وثائقي - ننشر فيما يلي النص الكامل* لمقال كرنفال محمد قلبي

لا أكاد أصدق و"رأس أمي" كل هذا النفاق، لا أكاد أصدق أن بعضهم مازال يجهل حتى الساعة أنّ الشعب فاق. أفيحسبون حقا أنّ الناس مازالوا يؤمنون الى اليوم بخرافات الاولين؟ أفيحسبون أنّ الأمة مازالت تصدق اليوم كلمة واحدة من كلام بعض المسؤولين؟

أو لم يؤكدوا بأنفسهم في بداية السبعينات المأثورة أن الحاكمين لعبوا بالأمة 15 عاما كما يلعب الصبي بالكرة؟ أو لم يحدثونا طويلا في خطبهم التاريخية القيّومة عن وسائل التغليط المستعملة في عهد الدولة الاشتراكية المرحومة؟

 أو لم يؤكدوا لنا أنّ الأمر وصل بهم الى حد صب الماء في  البير لتضليل القوم والاتيان بالبرهان القاطع على حسن التصرف والتدبير؟ أو لم يقطعوا بأيديهم تلك الفترة الطويلة من تاريخهم بضربة مقص؟ لكن ما الفائدة أن تلقى أبيض البيض ما دامت النطف موجودة في الفصّ؟ ما دام بعض المسؤولين في حكومة وقفة التأمل والاصلاح قد شاركوا في التضليل السابق ولعبوا فيه عدّة أطراح ؟

ما الفائدة أن تمسح التاريخ بجرة الستيلو بيك ؟ وهل يفبرك التاريخ يا سادة، وهل ينفع فيه الترافيك ؟ لقد قطعتم في الصور التاريخية عديد الاشباح والرؤوس، لكن الفصّ الباقي من تاريخكم قد أنجب في الحاضر أكثر من فلّوس ولقد بدأت هذه الفلالس تنمّي ريشها وتقول الكتكت فهل سيسكت الشعب هذه المرة هل سيسكت؟

لكن ما الفرق بالله بين العهد البائد والعهد الأمجد الجديد؟ وما الذي ينقصنا يا ناس من منّة  الستينات أو يزيد؟ نصف المسؤولين الأسبقين[2] ما زالوا يخطبون الى الساعة في الجماهير، ويقولون لهم أنّهم هذه المرة لم يصبوا والله قطرة ماء في بير[3]  لذلك جفّت الارض ومات الزرع قبل الاوان وهو دليل على حسن تدبيرهم لا يحتاج، كما ترون الى تبيان ويحدثونهم عن الشرع والتشريع والشرعية ويقولون إنّ الشعب انتخبهم هذه المرة بكامل الديمقراطية لكن نسألهم، بالمناسبة، عن الفرق بين طرق الانتخاب الطرق الماضية والطرق الحاضرة يعني، فهل وافونا بالجواب؟   

 الحزب واحد لم يتغير فيه الا الاسم على بطاقة التعريف أمّا التزكية، أمّا التعيين، أمّا حرية الاختيار فهي كلها كيف كيف، يذهب المواطن أو لا يذهب لمكاتب الاقتراع، النتيجة هي هي فالانتخاب يتم دوما بالاجماع وإنْ حصلت حالات شاذة تكاد تذكرك بإبنة عم الديمقراطية، فحينئذ تتدخل الآنسة 9 لتجري في التصويت عمليتها التشطيبيّة[ 4] وهو كما تتذكرون منتهى الوضوح، والتوضيح والايضاح [5]  وهي حقيقة جلية لا تحتاج الى خطابة خطاب ثم يتحدث المسؤولون السابقون اللاحقون عن الحزب، فيؤكدون أنّه يمثل كافة الفئات وكافة الشعب وقد كانوا يطلعون علينا فيما مضى بمثل هذه الطلعة، وكان عدد المنخرطين في الحزب يضاهي عدد شعيرات يتيمة على صلعة فما الفرق بين الحزب السابق والحزب الحاكم الجديد؟ وما الفرق يا عباد الله بين البرقيات السابقة للولاء والبرقيات الحالية للتأييد؟

الفارق الأوحد حسبي الله ونعم الوكيل أنّ الاولى كانت ترسل بالقفة فأصبحت الثانية توسق في زمبيل فإن أخطأ الحزب في الماضي في حق إرادة الامة، إن أوشك كما يقول بنفسه على دفع المجموعة كلها في القُمّةِ ، فمن يضمن لنا اليوم، إن تبعناه في طريقه، سلامة المصير؟

من يضمن لنا أننا لن نسقط هذه المرة بالفعل في البير ؟ إننّي حيثما ادير بصري وأتأمل في تحف التاريخ أرى أناسا كثيرين تفنّنوا في المغالطة وتضلّعوا في مادة التكليخ وبعضهم مازال حتى اليوم يحكم ويخطب في الناس، فكيف تريدون بعد هذا أنْ تكون الأمة لا باس ؟ فلنكفّ أولا عن هذه الأساليب، ولنلقي بها في المطمورة.

الشعب فاق، يا سادتي، ولم يعد يؤمن بالأسطورة أسطورة الأشخاص الذين يتحصنون بدرع الحزب والدولة والشرعية، ويقنّعون أخطاءهم ومصالحهم وغاياتهم بقناع التحزب والمسؤولية.

 سقط القناع حقيقة كما تقولون، سقط القناع ولقد صادق الشعب حقا هذه المرة على سقوطه بالاجماع إنّما أخطأتم والله في نسب الشيء الى منسوبه المشروع فالقناع قناعكم وهو بطابعكم مطبوع. سقط القناع وباتت أنوفكم عارية للجميع فتأملوا فيها لحظة، تعالوا، تأملوا، وقولوا لنا هل هي من نوع خاص رفيع؟ أليست مجرد أنوف لا فرق بينها وبين كل الأنوف نفس الضامن ونفس المضمون، نفس النغمة ونفس الشيء المصروف.

 قد يكون منديلكم يعمل الستة وستين كيف، إنّما الفضل في ذلك يرجع للغسّالة لا لمحتوى خيشومكم الطريف، فلم يا سادتي حينئذ كل هذه الأنفة وكل هذه الهيبة؟، ولم تتصككون كلّما ينقدكم امرئ فتصيبكم نوبة؟  كدتم تفخّمون سين مسؤولياتكم الى حد إدخال تحوير على معجم لغة الضاد، كدتم تصبحون المصؤولين والله بتفخيم الميم والصاد، فلم كل هذا التضاخم يا سادة؟ أم هل أنّكم فقط ضدّ تضاخم نسل الانسان؟ ولا يهمكم تضخم نسل العربي اللي عطاه الباي حصان ؟

قبل سويعة، تكونون بشرا ككل الناس وما إن تتحملوا مسؤولية حتى ينفخ في نافوخكم الوسواس الخناس، تتقمّصون درع الدولة والحزب والسلطان، وحين نحدّثكم بلغة الانس تخاطبوننا من عليائكم بلغة الجان.

 لكن انظروا مليّا الى أنوفكم واعلموا أنّها ولو بلغت ضخامتها كعبة الانزاص فإن الشعب لم يعد يخطئ في مضمونها البشري لأنه كفر بعبودية الاشخاص فاتقوا الله في أمّته وانصتوا الى كلامها المكبوت واتركوا الشعب يعبّر عن نفسه فلقد ملّ السمع والطاعة والسكوت. أيّ جرم في أن يكون المواطن شيوعيا أو بعثيا أو مؤمنا بشريعة القرآن؟ أليست حرية التفكير والعقيدة حقا مقدّسا من حقوق الانسان؟

لقد فتحنا منظمتنا بالفعل لكل المذاهب والتيارات فذاك في اعتقادنا أفضل من التغنّي بالمبادئ المزيفة وفارغ الشعارات وذاك في اعتقادنا خير من أن ندس أبناء الشعب في السجون وأليق بسمعتنا من أن تهرب البقيّة الى دار الغربة مخبأة في كميون. نحن لا نخشى النقد ولا نخاف من الآراء مهما انحرفت كما تقولون وبلغ بها التطرّف ما دمنا نقرأ الخير في الاغلبية ونؤمن انها ستعدل بين المواقف وستحسن التصرف وإن كنّا يا سادتي لا نطمع فيما يخصنا في كرسي الحكم فاننا مع ذلك نندهش لمّا يوصف الطموح الى السلطة بشتى نعوت النذالة واللؤم.   والعجيب في الأمر أنّ هذه النعوت صادرة عنكم أنتم يا أصحاب النفوذ فهل يعني هذا أنّ الحكم صار في شريعتكم ضربا خطيرا من ضروب الشذوذ؟

كنا نحسب أنه شرف كبير وسموّ عواطف أن يطمح الانسان لخدمة المجتمع فهل تبين لكم بالممارسة أن الذي يدخل السلطة يدخلها دوما من باب قضاء الحاجة والطمع؟ إن كانت تلك حقيقتكم فإنّنا ندعوكم الى الزيادة في التوضيح والتفسير.

أمّا إذا كان الحكم شرفا وفخرا لمن يطوله بالمقدرة والنزاهة والكفاءة فكفّوا و عفّوا بربكم عن احتكار الوطنية ووصف أخلاُقكم بالدناءة.

ختاما تحمّلوا مني ومن غيري أنْ نصارحكم دوما ونحدّثكم بالمكشوف ولا تتصرفوا معنا تصرف الذئب الذي أكل الخروف فلنا الحق في أن نشرب من ساقية القول والافصاح، لأنه ليس ثابتًا أننا الفَسِّادْ وأنكم أنتم الناس لِـمْلاَحْ.

 كل ما في الأمر أنكم تتحملون اليوم مسؤولية مصيرنا الحاضر،  أنّه في استطاعتكم أن ترموا بنا في الحبس إنْ بدا لكم ذلك على الخاطِرْ إنّما اعلموا أنّ حبسكم لا طاقة له على احتواء حرية التفكير وأنّكم ان قدرتم على اعتقالنا فلن تستطيعوا أبدا اعتقال المستقبل والمصير.

 وأمّا مسألة القتل والذبح والاغتيالات، فهي لا تخيفنا لأننا لن نكون حاضرين لقراءة اعلان الوفاة انما ان صعدنا الى جوار الربّ وهجرنا هذه الديار... اذكروا فقط أننا سنترك فيها من بعدنا أولادنا الصغار ومن يدري قد يحكمون غدا في أولادكم وتحدثهم نفسهم لا قدر الله بأخذ الثأر.

 

1. نشرت يوم 13 جانفي 1978

2 من بين المسؤولين الذي تحملوا المسؤولية في العهدين – الاشتراكي والليبيرالي – نذكر على سبيل المثال الهادي نويرة محافظ البنك المركزي ثم الوزير الاول ، عبدالله فرحات وزير البريد ومدير الديوان الرئاسي ثم وزير الدفاع ، محمد الصياح مدير الحزب ،

3. من الممارسات التي وقعت ادانتها في ظل العهد الاشتراكي، صب المياه في الابار رغم فقدانها لها للإيهام بأنها منتجة وصالحة للاستغلال

4. اعتمدت طريقة التشطيب المعروفة تحت اسم 9 في مؤتمر الحزب الاشتراكي الدستوري المنعقد في المنستير سنة 1974 تحت شعار " الوضوح ". وقضت الطريقة بكتابة الاسماء غير المرغوب في فوز اصحابها بعضوية اللجنة المركزية في أرقام 9 و19 و29 و39 و49 وهكذا دواليك. وأدت العملية الى اقصاء شخصيات مرموقة في ذلك الوقت منها على سبيل الذكر الكاتب الكبير وزير التربية والثقافة والإعلام محمود المسعدي ورجل الاقتصاد ووزير المالية والتخطيط والتجارة منصور معلى

5. الوضوح كان شعار مؤتمر الحزب لسنة 1974 وخلاله تم التراجع على نتائج مؤتمر 1971 الذي انعقد هو الاخر بالمنستير وكانت الغلبة فيه للجناح التحرري بزعامة احمد المستيري وعضوية الباجي قايد السبسي والحبيب بوالاعراس وحسيب بن عمار ومحمد صالح بلحاج ومحمد مواعدة وغيره. وفي ذلك المؤتمر بالذات، صدرت توصية بانتخاب الزعيم الحبيب بورقيبة رئيسا مدى الحياة.

 

* كامل حلقات حربوشة ومقالات اخرى متوفرة في كتاب "حربوشة محمد قلبي وحواشيها " لصاحبه محمد العروسي بن صالح صادر في طبعتين سنتي 2016 و2017.