للمجتمع المدني حقٌّ في الوجود والعمل، وللأصوات الحرة حقٌّ في الاستمرار.

الشعب نيوز/ رأي - ما يقع اليوم مع الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات ليس حادثًا عابرًا، ولا انتقائية ظرفية. إنه فصلٌ من مسلسلٍ طويل يهدف إلى اجتثاث أيّ مساحة مستقلة تربط الناس بحقوقهم، وتمنحهم القدرة على التنظيم والمطالبة والتغيير. عندما تُستهدف جمعيةٌ بالملاحقات والشكلانيات البيروقراطية الغليظة أو بالحملات المسعورة، ليس المقصود مجرد جهة واحدة يل قطعُ حلقات الوصل بين المجتمع ومطالبه المشروعة، وتفكيكُ البنى الوسيطة التي تحمى مواطنية الناس وتُعزّز كرامتهم.
هذا المسار لا يمرُّ في صمتٍ لأن تأثيره عميق: ينهش الثقة بين الناس ويضعف العمل الجماعي ويحوّل المبادرات المدنية من ميدانٍ للنقاش والبناء إلى حقلٍ للخوف والتحاشي.
ان الجمعيات التي تُنتقد اليوم على أنها "أجسامٌ وسيطة" هي نفسها التي تُعلّم وتُدعم وتُرتّب وتحمي وهي التي تجعل الديمقراطية ممكنة في حياة الناس اليومية لا مجرد شعارٍ على ورقة.
إذا أردنا أن نقرأ ما يحدث بعين التاريخ، نراه نمطًا متكررًا: تقييد وتشويه وتهميش ثم استبدال الفضاء العام بصيغٍ رسميةٍ ضيقةٍ لا تقبل سواه: انه ليس دفاعًا عن جمعيةٍ محددة فحسب بل دفاعٌ عن فكرةٍ أعمق مفادها أن المجتمع المدني هو المكان الذي يُصنع فيه التوازن بين الدولة والمواطن وهو الحاضن الذي يكبح الاستبداد ويصون الحريات.
التضييق على جمعيةٍ يعني التضييق على قدرة الأمهات والنساء والشباب والعمال والمثقفين على التنظيم والتعبير. يعني أن نقول بصوتٍ واحد: «لا» لسياسة تحييد الفضاء العام عن مسؤولياته تجاه الناس. وهو دعوةٌ إلى التضامن العملي وحماية الحقوق ودعم العمل الميداني والوقوف مع من يتعرّضون للاستهداف، لأن الخسارة التي تحدث اليوم لمنظمة واحدة ستنعكس غدًا على كلّ المنظمات والجمعيات.
لن نقبل أن تفرض علينا المسارات القديمة من جديد: تعبئةٌ ضد القوى المدنية وقوانينٌ تُفرغ الحماية من مضمونها أو حملاتٌ تُصوّر الفاعلين المدنيين كأعداءٍ للبلد.
المقاومة هنا ليست مجرد دفاعٍ عن اسمٍ أو جمعٍ، بل دفاعٌ عن مستقبلٍ نحلم به، مستقبلٌ تُحترم فيه الحقوق وتُحارب فيه البطالة والظلم ويُعطى المواطن حقَه في المشاركة والعمل دون هلع أو مضايقة.
أمام هذا الواقع لا تكفي العبارات فهناك حاجة إلى حضورٍ جماعي واضح: تضامنٌ لا يختزل في منشورٍ أو تغريدةٍ فقط، بل دعمٌ مادي ومعنوي وسياسي. يجب أن نتذكر أن كلّ محاولةٍ لاستباحة المجتمع المدني هي محاولةٌ لإضعافٍ يُطال كلّ من يطالب بالكرامة والعدالة.
نقف مع جمعية النساء الديمقراطيات لأنّها ليست طرفًا منفردًا، بل هي جزءٌ من شبكةٍ حيوية تُسند الحياة العامة. ومن يقصّ خيطًا منها اليوم سيجد، غدًا، فراغًا كبيرًا يصعب تعبئته. لذلك فأن صمود هذه الجمعيات هو صمودٌ للديمقراطية نفسها ولا يمكن السماح بأن تصبح تجربة اليوم قاعدة لِمسارٍ يُجرف فيه المجتمع وذاكرته وطاقاته.
ان التضييق على جمعيةٍ هو تحذيرٌ لنا كلنا، فلنعتبره جرس إنذارٍ لا يجوز تجاهله، ولنرفع صوتنا معًا: للمجتمع المدني حقٌّ في الوجود والعمل، وللأصوات الحرة حقٌّ في الاستمرار.
فاهم بوكدوس


