الحرية المنقوصة : أسرى فلسطينيون مبعدون إلى القاهرة يروون ل"وات" حكاياتهم مع الأسر والإبعاد

نرجس بديرة و سنية الفتوحي - ( وات) - يتحول الفرح إلى وجع مضاعف... تحققت حرية الجسد، نعم، لكن الروح ما تزال أسيرة خلف القضبان، والقلوب معلّقة في سماء فلسطين البعيدة، رغم المسافات والغربة.
هذا هو حال عددٍ من الأسرى الفلسطينيين الذين أبعدوا إلى القاهرة بعد الاتفاق الأخير بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الصهيوني الذي تضمن وقف إطلاق النار في غزة.
* تجارب خلف القضبان
وفي حديثٍ حصري لـوكالة تونس افريقيا للأنباء "وات"، كأول وسيلة إعلام تونسية تحاورهم بعد أسر امتدّ لعقود، يروي عدد من الأسرى المحررين تفاصيل معاناتهم وتجاربهم خلف القضبان، ويتحدثون عن تحديات الحياة في المنفى وعن الأمل الذي لا يغيب بالعودة يوما إلى أرضهم المغتصبة.
* ''خرجنا من سجن صغير إلى سجن كبير اسمه الغربة"
يقول الأسير المحرر أحمد دهيدي، المبعد إلى القاهرة ضمن الدفعة الثانية من صفقة "طوفان الأحرار '' لوات "رغم حلاوة وطعم الحرية بعد نحو 23 سنة من الأسر في سجون الاحتلال الصهيوني، إلا أن الإبعاد إلى القاهرة هو سجن آخر... لكنه بلا جدران."
وأضاف ''حين أبلغوني بقرار الإفراج، ظننت أنني سأعود إلى أمي وبيتي في قضاء جنين، لكنهم أخبروني أنني سأرحل خارج فلسطين. شعرت أنني خرجت من سجن صغير إلى سجن كبير اسمه الغربة... فالوطن هو الروح والإبعاد لن يزيدنا إلا انتماءا إليه."
وتابع بصوت يحمل مزيجا من الألم والفخر ''صحيح أن الحرية من خلال الإبعاد قد تكون عقوبة جماعية للأسير ولعائلته، لكننا نحيا على الأمل الذي لم يفارقنا يومًا. وجودنا في مصر ليس نهاية الطريق، بل هو فصل جديد من النضال.
يشار الى أن اتفاق وقف إطلاق النار الأخير بين حركة (حماس) والكيان الصهيوني تم في 10 أكتوبر 2025 الماضي بمدينة شرم الشيخ (مصر)، بوساطة مصرية وقطرية وأمريكية، بعد أسابيع من التصعيد العسكري في غزة.
وتضمن الاتفاق إفراج الاحتلال عن دفعة من الأسرى الفلسطينيين مقابل إطلاق المقاومة عدداً من الجنود والمستوطنين المحتجزين في غزة، إضافةً إلى إعادة جثامين قتلى صهاينة.
* الموت البطيئء
وشمل الاتفاق إبعاد عدد من الأسرى المحررين إلى القاهرة، بدلاً من إعادتهم إلى الأراضي الفلسطينية، وهو ما أثار جدلا واسعاً في الأوساط الحقوقية الفلسطينية والعربية حول سياسة الإبعاد القسري، باعتبارها انتهاكا سافرا للقانون الدولي الإنساني
"الموت البطيء في السجون الصهيونية".
يسترجع أحمد دهيدي تفاصيل تجربته الطويلة قائلاً ''أنا من مدينة جنين ، تعرضت في السابق لمطاردات ومحاولات اغتيال قبل اعتقالي عام 2003 بتهمة الانتماء للمقاومة الفلسطينية. حُكم عليّ بالمؤبد مرتين بعد محاكمات قاسية.
لم أندم قط، ظللت على يقين بأن المقاومة ستستعيد كل شبر من أراضيها وتعيدها لأصحابها".
وأضاف ''رغم الشعور لأحيان عديدة بالموت البطئ في السجون الصهيونية، إلا ان الأمل كان دائما يحدونا بالحرية واسترجاع أرضنا ووطننا .. هذا الأمل جعلنا ننجح في إنشاء جامعات داخل السجون ، لأننا كنا نؤمن أن المعرفة هي جزء مهم في المقاومة...
الإرادة والتحدي مكناني من الحصول على شهادة البكالوريوس في التاريخ من داخل المعتقل ''.
* انواع من العذاب
وتابع ''رغم تعرضي لشتى أنواع العذاب على أيدي المحتل لكوني من القيادات البارزة في الحركة الأسيرة، الا أن ايماني بأن المعرفة والعلم كانا أهم شكل من أشكال المقاومة'' .
و أستطرد '' علمتنا المعرفة داخل السجون أن الإصرار كفيل بأن يوصلك الى حريتك ، على أن المبادئ لا تتجزأ وأن الدفاع عن أرضنا المحتلة حق مكتسب ، وأن ما يُنتزع بالقوة لايستعاد إلا بالقوة، كما علمتنا أن الصبر هو المفتاح الأول والأخير للنجاح، وأن الأمل لا يموت أبدا''.
" وحول ما يتعرض له الأسير في السجون الصهيونية ، أوضح الدهيدي أن المعاملة من قبل المحتل ''كانت على الدوام وستبقى قاسية جدا، ولن يتحملها بشر أو كائن حي... تعرضنا لسنوات طويلة لأبشع أنواع الإذلال والتعذيب النفسي والجسدي.
الجنود الصهاينة كانوا يمنعون عنا الطعام والدواء عمدا.. كثير منا أصيب بكسورٍ في الضلوع والأطراف نتيجة الضرب المبرح، لكن الإصابات لم تكن توثق أبدا''
* من داخل الزنزانة
وتابع قوله '' سلطات الاحتلال مارست سياسة الموت البطيء بحق الأسرى عبر الإهمال الطبي المتعمّد.
كنا نُعاقب بالحرمان من العلاج. هذه الممارسات لم تتوقف حتى الساعات الأخيرة قبل الإفراج عنا".
وعن أقسى ما عاناه داخل الزنزانة ، أوضح دهيدي لوات أن أكثر شي المه '' فقدان الأحبة ..اذ استشهد اخي صالح عام 2008، ولم اتمكن من مشاركة الأهل في أحزانهم ولا حتى في أفراحهم بعد ذلك".
* "طوفان الأقصى"... نقطة تحول فارقة
أبرز الأسير المحرر في معرض حديثه ل"وات" أن عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023 كانت نقطة تحول مأساوية وفارقة في تاريخ الأسرى، اذ ازدادت الأوضاع داخل السجون سوءا والاعتداءات أضحت أكثر حدة.. الاحتلال استخدم كل أساليبه القمعية ضدنا لكسر ارادتنا، على غرار سلاح الجوع والبرد فضلاً عن تصاعد الإهمال الطبي الذي أدى إلى استشهاد مئات الأسرى.
يشار الى أن عدد حالات الاعتقال بلغت منذ أكتوبر 2023 وفق معطيات حقوقية نحو 16 ألفا و400 حالة، من بينهم أكثر من 510 نساء و1300 طفل، دون احتساب آلاف حالات الاعتقال في غزة.
وتمثل عملية "طوفان الأقصى" أكبر عملية شنتها المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة على الكيان الصهيوني فجر يوم السبت 7 أكتوبر 2023، وشملت هجوما بريا وبحريا وجويا وتسللا للمقاومين إلى عدة مستوطنات في غلاف غزة، بما أسفر عن
اعتقال أكثر من مائتي أسير صهيوني."
وحسب تقرير خاص للأمم المتحدة المعنية بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة ، فان الأدلة تؤكد تعرض السجناء الفلسطينيين في غزة للتعذيب منذ فيفري 2024.
وأفاد التقرير أن الكيان الصهيوني يحتجز عشرات الفلسطينيين من غزة في سجن تحت الأرض يُسمى "رقيفت"، حيث يُحرم السجناء من ضوء النهار والطعام الكافي وأي اتصال مع عائلاتهم أو العالم الخارجي.
ويؤكد التقرير أن العديد من هؤلاء المعتقلين مدنيون، وأن المحاكم الصهيونية تُطيل أمد احتجازهم عبر جلسات قصيرة عبر الفيديو، دون حضور محامين، مبررةً ذلك بعبارة بسيطة: "حتى نهاية الحرب''.
* الأسير المحرر محمود العارضة: "المنفى ليس نهاية الطريق"
بدوره، يتحدث محمود العارضة، أحد أبرز الأسرى المحررين والمبعدين إلى القاهرة ل"وات"، عن تحديات الحياة في المنفى قائلاً : "حتما سنواجه صعوبات قانونية وإنسانية، أبرزها حرماننا من لمّ الشمل مع عائلاتنا وصعوبة الحصول على إقامة أو عمل مستقر. الإبعاد يخالف القانون الدولي الإنساني ويعدّ عقوبة جماعية."
لكنه يضيف بتفاؤل "مع ذلك لا أعترف بالحدود، فمصر بلدي، وكل البلاد العربية والإسلامية أرضي. الحرب مع العدو الصهيوني طويلة، لكنها ستنتهي، وسندخل مرحلة جديدة نحقق فيها جزءا من تطلعاتنا في الحرية والخلاص."
ويستعيد العارضة تفاصيل ما عاشه في السابق من أحداث خلال مقاومته الاحتلال الصهيوني، قائلاً: "عشت فترة شبابي في مقاومة جنود الاحتلال من بلدتي عرّابة في جنين. اعتُقلت مرتين، وحُكم علي بالمؤبد بتهمة المشاركة في عمليات مقاومة.
* من نفق الحرية
وفي عام 2020 تمكنت في الأسر من هندسة ما عُرف بـ'نفق الحرية''، وتمكنت بمعية زملاء لي في الأسر من الهرب، لكن أُعيد اعتقالنا بعد خمسة أيام داخل الخط الأخضر.''
ويستطرد بالقول ''صحيح أن "تجربة الأسر قاسية ، لكنها بالنسبة للفلسطينيين جزء من النضال الوطني. الحركة الأسيرة كانت وما تزال قاطرة النضال الفلسطيني.''
وعن تفاصيل ما بعد 7 أكتوبر، أوضح العارضة أن التجربة كانت أشد وطأة من قبل، اذ ازدادت الانتهاكات الصهيونية همجية على الأسرى، وتطورت أساليب التعذيب الممنهجة.
وأكد في هذا الصدد أن التاريخ سيسجل لاحقا استشهاد آلاف الفلسطينيين وخاصة الغزيين تحت التعذيب، في إطار التحقيقات الميدانية الصهيونية التي كانت تتم باستعمال مفرط للقوة، ولكل الوسائل القهرية لاقتلاع أي معلومة من الأسير دون توثيق،
وذلك ضمن سياسة تعتيم كاملة للجرائم المروعة التي كانت ترتكب داخل سجون الاحتلال.
يشار الى أن شهداء الحركة الأسیرة الذين تم الإعلان عنهم منذ تاريخ 07 أكتوبر 2023 الى اليوم بلغ 1967.
* " تحية إلى تونس... وإلى كل ضمير حر"
في ختام حديثهما، وجه الأسيران المحرران تحية تقدير إلى الشعب التونسي والسلطات التونسية قائلين : ''سعداء بالحوار مع وسيلة اعلام تونسية بعد عقود من الأسر، لنروي جزءا بسيطا مما عشناه من كفاحنا ضد الاحتلال الغاشم...من خلالكم نوجّه تحياتنا القلبية الصادقة إلى الشعب التونسي والسلطة التونسية على مواقفهما الأصيلة ووقوفهما الدائم إلى جانب الشعب الفلسطيني والى القضية الأم . نحن على يقين أن تونس ستبقى نصيرًا لنا و لقضيتنا العادلة مهما طال الزمن ''.
وأضافا '' ابعادنا ليس نهاية الطريق، بل بداية جديدة من الصبر والمقاومة والأمل في غد أفضل .... تعلمنا من الشعوب العربية، لا سيما تونس التي تمكن مقاوموها من دحر المستعمر ، بأن الحرية لا تُمنح بل تُنتزع بالتضحيات. ..لا يمكن لأي شعب أن
ينال استقلاله دون أن يدفع ثمنًا غاليا...هذا ما عاشه شعبنا الفلسطيني في معركته المستمرة ضد المحتل الصهيوني... سننجح بالتأكيد في استرداد حقوقنا وأرضنا وفي إرساء دولتنا المستقلة على حدود الرابع من جوان 1964 وعاصمتها القدس الشريف..."
هكذا، بين وجع الأسر ومرارة الإبعاد، تبقى قضية الأسرى الفلسطينيين شاهدا على صمود الإنسان الفلسطيني في وجه القيد والمنفى، وعلى إيمانه العميق بأن الحرية، وإن تأخرت، قادمة لا محالة و بين القضبان والمنفى ، يظل الأمل حاضرا في قلوب
الأسرى الفلسطينيين المبعدين للعودة الى الديار يوما ما .



