دولي

ملف الهجرة : ملعب ترامب المفضّل

 صبري الرابحي / تونس - مازال العالم يضج بالحديث عن هرطقات ترامب العديدة التي أطلقها منذ ما يزيد عن سنة من الآن بمناسبة انتخابه رئيساً سابعاً وأربعين للولايات المتحدة من وراء ولايته الخامسة والأربعين بالبيت الأبيض.

ترامب كعادته مازال يشعل المواقع الإخبارية بتصريحاته المشفرة أحياناً والمفهومة على الأغلب كخطوته التالية في التعاطي مع منصب حاكم البيت الأبيض الجديد الذي يزعم من خلاله بناء "أميركا أقوى" على حد تعبيره.

* العودة إلى ملف الهجرة

عاد دونالد ترامب إلى ملف الهجرة بأكثر حزم هذه المرة من خلال ما نشره على منصة تروث سوشيال التي أعلن من خلالها مؤخراً بأنه سيعمل على "إيقاف الهجرة من كل دول العالم الثالث بشكل دائم" دون أي توسع في تفاصيل إحياء مشروعه القومي المبني على التصدي للهجرة واستهداف الأقليات التي يراها ترامب في مشروعه السياسي عائقاً أمام بناء أميركا الجديدة في عهده.

لكن المعروف أن الولايات المتحدة على امتداد أكثر من قرنين واصلت قبول المهاجرين عبر بوابات متعددة للهجرة منها المنظمة ومنها حتى تلك غير المنظمة التي صنعت الثراء والتنوع الثقافي داخل المجتمع الأميركي بالإضافة إلى تمكينه اقتصادياً من يد عاملة مهمة ومجتمعاً استهلاكياً لا يستهان به ولو بتأخره عن دفع الضرائب.

تشير تقديرات غير محينة إلى أن عدد المهاجرين في الولايات المتحدة يبلغ حوالي 51 مليون نسمة، وتشير هذه التقديرات أيضاً إلى أن عدد المهاجرين غير الشرعيين يناهز الـ11 مليون نسمة من إجمالي 348 مليوناً وهو التعداد التقريبي لساكنة الولايات المتحدة.

وإن كان العدد المحير والمؤثر واقعياً في السياسات العمومية الأميركية وهو المهاجرون غير الشرعيين والتي يناهز تعدادهم عدد سكان تونس أو الأردن، فإن هذا العدد لا يشكل سوى نسبة 3 بالمائة من النسيج الاجتماعي الأميركي.

لكن لماذا هذا الإصرار على قطع الطريق على المهاجرين لدى ترامب ؟

* سياسة الجمهوريين تجاه الهجرة

لا بد من الإشارة إلى أن الحزب الجمهوري الأميركي ومنذ نشأته في أواخر القرن 19 قد حافظ على أدبياته وتصوره للسياسات الاقتصادية والاجتماعية وحتى السكانية للولايات الأميركية  والتي تتسم بتبني الخط المحافظ من حيث التخفيض في الإنفاق العمومي ودعم القيم التقليدية للعائلة والتضييق على الإجهاض وخاصة التشدد تجاه سياسات الهجرة والمهاجرين وهو إحدى أهم السمات التي يمكن من خلالها فهم تعاطي ترامب مع هذه المسألة بالذات التي طبعت ولايته الأولى في البيت الأبيض وميزت حملته الانتخابية، وقد تكون أحد أكبر المحفزات الانتخابية التي جعلته يطيح بمنافسه من أجل ولاية ثانية من الديمقراطيين، سلفه جو بايدن.

لكن بعيدا عن المسألة التنظيمية على أهميتها داخل الحزب الجمهوري، فإن دونالد ترامب يستبطن العداء للمهاجرين وهو ما أثبتته تصريحاته الموتورة في عديد المناسبات بعد أن كان وصم المرشح الديمقراطي لعمادة مدينة نيويورك "زهران ممداني" بأنه شيوعي مجنون في إشارة إلى تضارب أفكاره مع المجتمع الانتخابي الأميركي باعتباره مرشحاً ديمقراطياً من أصول عربية قبل أن يتراجع ترامب أمام الأمر الواقع ويستقبل ممداني في البيت الأبيض عمدة منتخباً لمدينة نيويورك وتراجعه عن هذه التصريحات تحت وقع البروتوكول على الأقل.

لكن لماذا الآن تحديدا ؟

* استغلال الهاجس الأمني بعد حادثة البيت الأبيض

استغل دونالد ترامب واقعة الاعتداء المسلح على البيت الأبيض الذي جدّ خلال الأيام الماضية والذي تفيد مصادر متقاربة أن منفذه هو مهاجر من أصول أفغانية خدم ضمن القوات الأميركية بأفغانستان وتم إجلاؤه بناء على ذلك بمجرد انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان خلال سنة 2021.

وبالرغم من أن منفذ الهجوم كان أحد منتسبي القوات الأميركية في قندهار، فإن السلطات الرسمية في الولايات المتحدة اعتبرت أن استجلابه كان قراراً غير مدروس باعتبار عدم التحري حول نواياه وخاصة نزعة التطرف لديه التي ظلت خامدة على امتداد أربع سنوات من إقامته داخل الولايات المتحدة الأميركية والتي حمل فيها مدير المخابرات المركزية المسؤولية لسلطات جو بايدن التي وصف قرار انسحابها من أفغانستان بالـ "كارثي" وهو ما يعيد للساحة المزايدات السياسية بين أقطاب السياسة في أميركا أساساً الحزبين الجمهوري الذي يتهم الحزب الديمقراطي بفشله في إدارة ملف الهجرة ومن ورائها الحضور الأميركي في عديد الدول.

من هنا تتضح الصورة بأن سياسات دونالد ترامب الغارقة في الغضب الشعبي من تزايد التضخم ناهيك عن الرفض المتنامي لإدارة ترامب للصراع العربي الصهيوني وانحيازه المفضوح لمجرم الحرب "بنيامين نتانياهو" يجعل منه يبحث بكل وضوح عن ملف حارق يمكنه من الاستثمار السياسي في هذا التوقيت بالذات.

* الهجرة: أرضية المراوغة السياسية

دونالد ترامب لم يجد اليوم أي منفذ معقول بعد استيفائه ورقات الحرب في فلسطين وأوكرانيا وحملته الضريبية على عديد الدول بالعالم وأهمها الصين التي لم تثبت جدواها إلى حدود الربع الثالث من سنة 2025 فكان لزاماً عليه أن يبحث داخل المسألة الداخلية عن ملف يمكنه من الخروج بخطاب جديد ينبني على نبذ التطرف وتحييد الأعداء الداخليين للولايات المتحدة والذين يختصرهم ترامب في المهاجرين.

وبالرغم من الغطاء السياسي الذي يملكه ترامب في هذا المسعى، فإن إطلاقه عبارات فضفاضة حول المهاجرين آخرها تهديده لكل "شخص يمثل خطراً امنياً أو لا ينسجم مع الحضارة الغربية" يطرح مجدداً تطرف سياسات ترامب التي قد تحول ملف الهجرة إلى جحيم قد يحرق آمال الملايين من الراغبين في العيش بالولايات المتحدة الأمريكية فضلا عن الملايين من المقيمين الذين يربط ترامب وجودهم بضرورة "تقديم قيمة مضافة" وهو ما سيؤثر حتماً على السلم الأهلي وقد يستنهض شيئاً في شيء بعضاً من التاريخ العنصري للولايات المتحدة تجاه الأقليات والتي ساهم تلافيها في بناء دولة قوية، تلك التي يرمي ترامب إلى إعادة بنائها ونسبة ذلك لنفسه.