حرب ترامب على البوليفاريون الجدد

الشعب نيوز / صبري الرابحي - ما زالت حدّة الحرب الكلامية بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونظيره الفنزويلي نيكولاس مادورو في تصاعد متواصل يوماً بعد يوم. دونالد ترامب يتحدّث منذ فترة عن عمليات على الأرض، وخطا خلال الأسبوع الماضي خطوة غير مسبوقة تتمثل في إعلان إغلاق المجال الجوي الفنزويلي، ما ينبئ بقرب الأعمال العدائية المباشرة على فنزويلا، بسبب ما تسميه إدارة ترامب حربها على تجارة المخدرات في منطقة الكاريبي.
التوتر التاريخي بين الولايات المتحدة الأمريكية وفنزويلا
على قدر استقرار العلاقات بين البلدين على امتداد فترات مهمة من التاريخ المعاصر، لأكثر من قرن ونصف، فإنه يبدو أن نهاية الألفية الثانية كانت تحمل في طيّاتها تحولاً جذرياً في التعاطي مع الجوار الإقليمي، خاصة الأعراف الدبلوماسية الضامنة لاستقرار العلاقات وعلى رأسها مبدأ مونرو، الذي أرسى من خلاله الرئيس الأمريكي جيمس مونرو الحماية الأمريكية للشطر الغربي من أمريكا اللاتينية، وعلى رأسها فنزويلا أمام القوى الاستعمارية الأوروبية. ليظهر أن فترة تولي الرئيس الراحل هوغو تشافيز هي ذروة التوتر، أو خروجه إلى العلن في شكل عقوبات وتهديدات متواصلة، وصلت إلى حدّ دعم المعارضة ودعم المحاولات الانقلابية التي تعرض لها تشافيز خلال فترة حكمه بصفة متكرّرة، لقطع الطريق أمام «ثورته البوليفارية» التي انطلقت من كوخ طيني في قرية سابانيتا إلى قصر ميرافلوريس في كاراكاس. لتدخل منذ ذلك الوقت العلاقات بين البلدين في منعرج تاريخي مهم، تواصل إلى حدود تولي الرئيس نيكولاس مادورو، الذي حافظ على ثوابت سياسات سلفه تشافيز، بخصوص النفط والعلاقات الإستراتيجية مع أعداء الولايات المتحدة الأمريكية مثل الصين وروسيا وإيران، إضافة إلى تمسكه بمعاداة الإمبريالية، وشجب تدخّل الإدارة الأمريكية في حقّ الشعوب في تقرير مصيرها، باعتماد تسميات عدّة آخرها حربها على تجارة المخدرات والهجرة، التي تعتمدها اليوم كعنوان لاستهدافها جمهورية فنزويلا.
السجال بين ترامب ومادورو
يعتبر المراقبون أن التحاق ترامب خلال عهدته الأولى بنادي المتحفظين على خيارات فنزويلا ما بعد تولي الاشتراكيين للحكم، بدءا بتشافيز ووصولا إلى مادورو، هو مجرد تسلسل طبيعي لخيارات الولايات المتحدة في التعاطي مع المناوئين من جوارها، إلا أن المسألة بدأت شيئا فشيئا تأخذ أبعادا أخرى، خاصة عندما يتحول الخطاب السياسي للرئيس الأمريكي إلى خطاب عدائي غير موضوعي تجاه رئيس دولة ذات سيادة. مادورو بدوره جنح إلى هذه الممارسة مرات عديدة، خاصة عندما وصف ترامب بأنه شخص ذو أفكار متطرفة إبان المحاولة الانقلابية عليه مطلع سنة 2019، حيث كشف الرئيس الفنزويلي بوضوح أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب هو من أعطى الضوء الأخضر لرئيس البرلمان الفنزويلي خوان غوايدو، للإطاحة به عبر انقلاب لم يفلح في إزاحة مادورو، بقدر ما زاد في تقسيم المنطقة بين طغمة يمينية منحازة للولايات المتحدة الأمريكية، والدول البوليفارية، التي جددت وفاءها لروح زعيمها سيمون بوليفار، وأعلنت انحيازها للثورة البوليفارية، التي يقودها مادورو خلفا لسلفه تشافيز الذي أشعل فتيلها بدخوله في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة الأمريكية منذ توليه الحكم سنة 1998.
آفاق الصراع في منطقة الكاريبي
يمكن أن نتفهم أن ترامب ومنذ توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، وتعطل الحوار بينه وبين الرئيس الأوكراني، والجانب الأوروبي حول الحرب مع روسيا، خاصة تحييده للملف النووي الإيراني، أصبح يشعر بأن خطابه السياسي تراجع، بعد ذروة التصريحات النارية التي لم يسلم منها أحد، غير أن تمسكه بخوض مغامرة الحرب داخل المحيط الإقليمي المغلق، قد يجعل منها رصاصة الرحمة على آماله في تطويع الخصم الفنزويلي.
ترامب يعلم جيدا أن فنزويلا أمضت ما يقارب الثلاثين سنة من هيكلة اقتصادها ودفاعاتها وعلاقاتها الدبلوماسية، تحسبا للهجمة الأمريكية، وما يؤكد ذلك، حملة التضامن الدولي مع الرئيس مادورو خلال المحاولة الانقلابية سنة 2019، التي اعترف بها عديد الدول في أمريكا اللاتينية على غرار الأرجنتين وكولومبيا، فضلا عن الاتحاد الأوروبي، الذي أراد سحب البساط من الرئيس الشرعي المنتخب، لفائدة رئيس البرلمان المنقلب على دستور الجمهورية.
ولعل أبرز الفاعلين في هذه الحملة هما روسيا والصين اللتان أعلنتا منذ اللحظة الأولى تمسكهما بالشرعية الدستورية، وشجبهما للتدخل الأمريكي في فنزويلا ومحاولة الالتفاف على الشرعية الانتخابية، من خلال دعم أطراف سياسية معروفة بارتباطاتها بالولايات المتحدة، ما أحبط هذه المحاولة وبعث برسالة مهمة للمنطقة بأن ارتباطات فنزويلا الدولية، قد تحصنها من كل محاولات استهدافها وهو ما يوجب الحذر من المواجهة بالمنطقة.
تخلي مادورو: سلام العبيد المرفوض
أكد ترامب مطلع هذا الأسبوع على أنه منح للرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو مهلة للتخلي عن الحكم ومغادرة فنزويلا رفقة عائلته، إلى وجهة يختارها، وهذه إحدى أهم هرطقات ترامب تجاه رئيس منتخب، وفي محاولة منه للتقليل من شأن سيادة دولة مجاورة. وبقدر تشنج ترامب في إطلاق التصريحات غير المسؤولة وغير اللائقة تجاه قادة الدول، فإن مادورو أجاب بكل هدوء بأنه لا يقبل بعرض ترامب ويعتبره سلام العبيد، وهي مسألة مرفوضة راديكاليا، بل ظهر مادورو في عديد المناسبات وهو بصدد الرقص خلال التجمعات الشعبية في العاصمة كاراكاس، مؤكدا في كل مرة أن قواته النظامية والمليشيات الشعبية قد وصلت إلى مرحلة نموذجية من الجاهزية، استعدادا لأي عدوان مرتقب تحضّر له الولايات المتحدة في المنطقة، منذ أكثر من اثنين وعشرين أسبوعا، معلنا عن تجهيز ما يقارب 4 ملايين مقاتل لصد أي هجوم قد يعصف بالسلام في منطقة الكاريبي ويحولها إلى منطقة حرب تتصارع فيها الإمبريالية مع البوليفاريين أحفاد سيمون بوليفار محرر فنزويلا، في محاولة جديدة لإعادة التاريخ بعد أكثر من قرنين من دحر القوى الاستعمارية، وبالتالي إعادة بناء القومية البوليفارية، ولما لا استنهاض مشروع الوحدة بين دول عديدة في المنطقة لمواجهة الولايات المتحدة الأمريكية وهو الخطأ الذي قد لا يقدر ترامب عواقبه.


