الشعبوية منهج حكم يسعى أحيانًا إلى الالتفاف على التشريعات والاتفاقيات والقوانين

الشعب نيوز/ باقلام النقابيين - ان الدساتير والاتفاقيات الدولية والقوانين والمناشير والمذكرات — على اختلاف مراتبها بين الدولي والمحلي — تلتقي جميعًا في أسباب وجودها وغاياتها العميقة.
فهي:
أوّلًا/ تتصدى لتمرّد الفردية العينية العمياء التي تجعل من العقل خادمًا طيعًا للانفعالات والغرائز والمصالح الذاتية المتناقضة بطبيعتها.
ثانيًا/ تنظّم الحياة المشتركة وتضمن استقرار المجتمعات والمؤسسات والمنظمات.
كما أنّ التشريعات تضبط الحدود فتعطي للحرية معناها الحقيقي فليست الحرية في التعدّي وتجاوز القوانين بل في الوعي بها واحترامها. ففكرة “الحرية المطلقة” ليست سوى عودة إلى حالة الطبيعة بما هي وضعية «حرب الجميع ضد الجميع»، حيث لا ينجو إلا الأقوى.
ثالثا/ ليست القوانين مجرد نصوص مكتوبة، بل ضوابط عامة وقواعد كونية لا تعترف بالاستثناءات، لأنها تطبَّق على الجميع، أفرادًا وجماعات، تفاديًا لكل أشكال التمييز والعنف. فحضورها شرط لقيام العدالة وتوازن العلاقات داخل المجتمع.
غير أننا نشهد في العقود الأخيرة بروز الشعبوية، وقد تحوّلت من مجرد خطاب احتجاجي على اختلالات حقيقية، إلى منهج حكم يسعى أحيانًا إلى الالتفاف على التشريعات والاتفاقيات والقوانين نفسها. وقد كشفت الأزمات الراهنة عن استعداد بعض القوى لتجاوز القانون الدولي والمواثيق الإنسانية كلما تعارضت مع حسابات القوة والنفوذ. وفي ظل هيمنة رأس المال العابر للحدود وتشابك التحالفات، صار من الممكن تبرير انتهاكات خطيرة ضد الشعوب المدنيّة، في تجاهل تام للمنظومة القانونية التي صيغت لحماية الإنسان وردع الفظائع.
هكذا تتقدّم الشعبوية بشكل عابر للحدود، ويُعاد تعريف “الحق” و”العدالة” وفق ميزان القوة لا وفق شرعية القانون.
وتظهر الشعبوية كذلك من خلال الحكم بالمراسيم الاستثنائية وتهميش الهياكل الوسيطة — من برلمانات وجمعيات ومنظمات جماهرية — التي تشكّل قلب الحياة الديمقراطية. وبذلك تُضعَف المؤسسات من داخلها وتُفرَّغ من قواعدها ونُظمها، لتؤول الإدارة العامة إلى قرارات فردية تُسوَّق باسم “السرعة” و”النجاعة”. غير أن هذه الإجراءات، مهما بدت عملية في ظاهرها، تدفع بالدولة نحو تفكيك تدريجي لأجهزتها، وتفتح الباب أمام التوتر والتدافع الاجتماعي والفوضى.
إن أخطر ما في الموجة الشعبوية أنها تشيطن القانون بدل إصلاحه وتستبدل المسار المؤسساتي بالانفعال الجماعي. وهكذا تتحوّل التشريعات من ضمانة مشتركة للحريات إلى عائق يُنظر إليه كأنه يقيّد “الإرادة العامة”. ومع كل خطوة في هذا الاتجاه يتآكل آخر ما يحفظ توازن الدولة، وتتراجع قدرة المجتمع على حماية نفسه من الانهيار.
صحيح أنّ القوانين ليست نصوصًا مقدّسة وهي قابلة دائمًا للتطوير والمراجعة لكن النيل من مكانتها أو دوسها يفتح الباب لمنطق أقرب إلى قانون الغاب منه إلى منطق الدولة. فالدولة بكل مؤسساتها لا تُبنى على النوايا الحسنة ولا على الشعارات بل على قواعد واضحة، وآليات رقابة، ومؤسسات تحكمها قوانين لا تُستباح كلما اشتدّت الأزمات أو ارتفعت الأصوات الغاضبة.
في عالم مضطرب تتسارع فيه الأزمات يصبح التمسّك بالقانون — رغم نواقصه — شرطًا أساسيًا للاستقرار ودرعًا واقيًا من منزلق الفوضى. أمّا التفريط في هذه الضمانة، تحت أي ذريعة فهو مغامرة غير محسوبة العواقب لا تؤدي إلا إلى مزيد من التصدّع والانهيار…
سهام بوستة
الأمينة العامة المساعدة للاتحاد


