آراء حرة

حركة التصحيح إلى اين ؟

طالت مدة الانتظار التي عقبت التدابير الاستثنائية لرئيس الجمهورية، وبعد مساندة من طيف اجتماعي وسياسي ومدني واسع طرحت اسئلة كثيرة حول اهداف الفترة الاستثنائية، هل هي مجابهة الخطر الداهم ام التمهيد لاختيارات فكرية للرئيس؟ وحول مدة الفترة الاستثنائية وآليات الخروج منها؟ وحول استعدادات الرئيس لرؤية تشاركية للخروج من الأزمة؟ وحول الأولويات التي يجب اتباعها في هذه الفترة الاستثنائية؟ وياتي هذا المقال مساهمة من صاحبها لفتح حوار والبحث عن إجابات لأسئلة حارقة قد تساعد على تبديد الحيرة القائمة والضبابية الطاغية في المشهد التونسي:

Iــ مشروعية الحركة

 عندما انتصرت الثورة كان  هدف المجتمع المدني والسياسي هو الخروج من مجتمع الدولة ـــ الذي يقوم على  الحزب الواحد والزعيم الأوحد وتبعية كل المؤسسات لهما ــ إلى دولة المجتمع الذي ينهض على المؤسسات والقوانين. غير أن 10 سنوات من تجربة الحكم أثبتت أن الديمقراطية لم تنضج بعدُ، فالمؤسسات الديمقراطية التي نهضت على أنقاض الاستبداد والفساد، كانت مجالا للمحاصصات والمقايضات بين الفاعلين السياسيين فتحولت إلى ميدان للغنيمة والتموقع مما أفقدها مصداقيتها.ومن أهم المؤسسات التي راهن عليها المجتمع أشير إلى :

أولا  ــ إن البرلمان ــ الذي يعكس إرادة الشعب  ــ أصبح مجالا لصراعات عبثية يومية  وتحالفات مشبوهة بين الثورة المضادة والإسلام السياسي اللذين صارا وجهين لعملة  واحدة  مما أفقده دوره كسلطة سيادية

ثانيا ـــ إن  المؤسسة القضائية ــ التي يعتبرها المجتمع رهانه على إقامة العدل وزرع الطمأنينة  ــ فقدت إلى حد بعيد استقلاليتها  وصارت متهمة بالتسيس والتبعية للإسلام السياسي

ثالثاــ إن الأمن  الجمهوري  الساهر على راحة المواطن لم يعد محل ارتياح المجتمع ولا الفعاليات الوطنية  فهو بين الأمن الموازي والأمن الموالي  وعرضة للتقلبات بحسب أهواء الفاعلين في السلطة التنفيذية وحماية مصالحهم

رابعا ـــ إن الإدارة ــ التي من المفروض ان تكون حيادية راعية  لشؤون المواطن ــ تسربت إليها المحسوبية  

هذه المؤسسات وغيرها  لم يعد يطمئن إليها المواطن  فقد نخرها الفساد وتسرب لكل مفاصلها  بل إن الدولة تحولت إلى دويلات يتقاسمها أصحاب النفوذ المالي والسياسي والإعلامي ،وهذا ما دفع رئيس الدولة إلي القيام بعملية تصحيح مسار الثورة  يوم 25 جويلية2021 مستثمرا التحركات الشبابية الاحتجاجية ومستندا إلى  القوات الحاملة للسلاح.غير أن هذه الحركة مازالت محل تجاذب ،فمعظم الفعاليات السياسية ومنظمات المجتمع المدني ساندت الرئيس لتصحيح المسار لكنها لا تريد أن تمنحه صكا على بياض، فهاجس الخوف من الزعامتية  ومن التفرّد بالسلطة والاستبداد ما زال يسكنها. وإذا كان هناك شبه إجماع على طي صفحة ما قبل 25 جويلية بكل مآسيها فإن عملية التصحيح مازالت إشكالية قائمة وهي محور الحوار الوطني الذي تصر عليه فعاليات المجتمع المدني والسياسي والاتحاد أساسا.

IIـــ الرؤية الإستراتيجية لحركة  التصحيح

بعد أربعة اشهر بدأت حركة التصحيح  تبوح بأسرارها لتكشف عن عمقها الاستراتيجي فهي ليست حركة انقلابية بالمفهوم التقليدي تستهدف الوصول للسلطة وإحداث بعض الإصلاحات البسيطة بل هي حركة شمولية . فالفساد في تقديرها لا يكمن في الائتلاف الثلاثي الذي كان ماسكا بزمام السلطة فحسب بل في بنية المجتمع المدني والسياسي برمته ،لذا فالإصلاح ينهض على إنهاء منظومة الديمقراطية التمثيلية  التي استُهلكت وانتهى دورها التاريخي  لتبدأ مرحلة الديمقراطية المباشرة التي تُلغي الوسائط وتجعل الشعب يتحمل مسؤوليته  بشكل مباشر فيمنح الثقة  لمن يريد ومتى يريد ويسحبها ممن يريد ومتى يريد.

لم يكن هذا الطرح مجهولا عند المنظّرين السياسيين لكنه محدود الانتشار وضمنه  يتنزل مشروع اللجان الشعبية  للمرحوم معمر القذافي الذي كان شعاره <<من تحزب خان>> .ومن ابرز تجليات هذا الخيار هو اعتبار يوم 14 جانفي هو عملية اختطاف مارستها منظومة المجتمع السياسي والمدني لثورة الجماهير في 17 ديسمبر فلا بد من إعادة الثورة إلى مفجّريها.

III ــ موقف المجتمع السياسي والمدني

تباينت مواقف مكونات المجتمع السياسي والمدني من حركة التصحيح انطلاقا من مواقعها ومصالحها ومن قناعاتها فقد ظهر موقفان أساسيان:

أولآــ الرفض  المطلق للحركة باعتبارها انقلابا على الشرعية الدستورية تبنته منظومة الحكم السابقة من الإسلام السياسي والثورة المضادة ومن والاهما ويدور في فلكهما وقاموا بحشد داخلي وخارجي

ثانيا ــ  المساندة النقدية : فهي تعتبر حركة 25 جويلية  استجابة  لرغبة الجماهير وتصحيحا لمسار انحرف منذ 10 سنوات،لكن المساندة كانت مشروطة بامرين :

1ــ الحوار : فالبناء المستقبلي لا يكون إلا تشاركيا  ولا يمكن أن ينفرد به شخص مهما كانت عبقريته ونزاهته ،فيكفي المجتمع التونسي ما تجرّع ويلات نرجسية بورقيبة وابن علي وما زال يقاسي من تبعاتها.

2ــ التسقيف: إن  الشعب التونسي لا يمكن أن يُحكم  إلى ما لانهاية بالتدابير الاستثنائية ل25 جويلية ولا بالإحكام الانتقالية ل22 سبتمبر  فلا بدّ من تسقيف يُنهي الفترة الانتقالية ّ

ثالثا ــ الرئيس  يقف وحيدا في مواجهة المجتمع المدني والسياسي

إن نظرة الرئيس للبناء القاعدي المستقبلي الخالي من الوسائط الاجتماعية والسياسية جعلته يقف وحيدا في مواجهة المجتمع المدني والسياسي، فقد تباين مع مكونين أساسيين للمشهد السياسي والمدني  بقيا وفيين للمساندة النقدية :

1ــ حركة الشعب وهي آخر الحصون الداعمة له  من الأحزاب التي لها حضور قي البرلمان

2  ــ الاتحاد العام التونسي للشغل الذي يمثّل ثقلا اجتماعيا داعما فقد سبق ان استحضرت قيادته  ما يجمعها وما يفرقها مع رئيس الجمهورية

إن هذين المكونين الاجتماعي والسياسي بقدر ما يدعمان رئيس الدولة في محاربة الفساد الذي تسلل إلى أجهزة الدولة وتوغل في الكثير من مفاصلها  فإنهما يرفضان السير نحو المجهول بشكل انفرادي ودون تحديد  سقف زمني للوضع الاستثنائي  فإلى متى  ستسير تونس دون بوصلة مجتمعية تشاركية؟

 

 IV ــ تساؤلات؟

يبدو ان رئيس الجمهورية  قيس سعيد عاقد العزم على ان يمضي قدما نحو تمكين الجماهير من أن تحكم نفسها بنفسها دون  وسائط سياسية او اجتماعية وذلك تجسيدا للديمقراطية المباشرة. لكن تبقى هناك تساؤلات عليه ان يدرك خطورتها ومنها:

أولا ــ هل صار المواطن التونسي ــ الذي عاش55 سنة من الاستبداد والفساد و10 سنوات من الإفلات والفساد ــ ناضجا لممارسة الديمقراطية السياسية والاجتماعية بعيدا عن التنظيمات والمنظمات والجمعيات؟

ثانيا ــ هل انتهي فعلا دور الأحزاب والمنظمات الاجتماعية والثقافية التي تؤسس لدولة المجتمع  التي تنهض على المؤسسات والقوانين وتؤطر وتثقف  وتقدم المشاريع وتمنع تغوّل الدولة على المواطنين؟

ثالثا  ــ كيف يمكن ان نتصور تونس في  غياب شبكة من التنظيمات والمنظمات الاجتماعية والثقافية والسياسية وحتى الدينية في تمتين النسيج المجتمعي والمحافظة  على تماسكه تجاه المستعمر التي كان يسعى لإذابته  ؟ الم يكن للمجتمع المدني والسياسي دور فاعل في إيقاظ الوعي الوطني  لتحرير البلاد  ولمقاومة الاستبداد والفساد؟

 رابعا ــ بماذا نفسّر تحوّل تونس طوال7 عقود من الزمن  من مجتمع فسيفسائي ـــ قال عنه جون جوراس Jean Jaurès في بداية الاحتلال<< لقد وجدنا غبارا من البشر من السكان الاصليين المسلمين والايطاليين والمالطيين والفرنسيين واليهود والأتراك و...>>  ـــ إلى <<  دولة مستقلة ذات سيادة الاسلام دينها والعربية لغتها والجمهورية نظامها؟ وهنا تُطرح عدة تساؤلات  أخرى منها :

أـــ هل كان ذلك  بفعل الدولة الاستعمارية التي كانت تتوخى طريقة <<فرّق تسد >> ليستمر وجودها اطول ما يمكن وتستغل  أكثر ما يمكن؟

بـــ هل يعود ذلك   إلى << المادة الشخماء>> التي  ينفرد بها الزعيم  النرجسي ويمنّ بها على الشعب

ج ـــ أم أن هذا التحوّل  يكمن في الدور التاريخي الذي نهضت به حركة الإصلاح  في تونس قبل أن يدخل الاحتلال وأن يخلق الزعيم؟ ألم يكن الوعي الوطني  فعلا تراكميا لما قامت به جمعيات المجتمع الأهلي  ثم المجتمع المدني والسياسي الذي أسّس للمنظمات المهنية/لاجتماعية وللجمعيات الثقافية / التربوية ثم للأحزاب السياسية الوطنية ؟ هل كان للثورة ان تحدث لو لم يكن الفعل التراكمي لدور المجتمع المدني والسياسي الذي تلقى ضربات موجعة في عهد بورقيبة وابن علي ؟

5 ـــ هل يمكن للشعب التونسي أن يتخلى عن دور المجتمع المدني والسياسي لمجرد أن ظهرت فئة من الأحزاب المتكالبة على  السلطة ففسدت وأفسدت وهو امر وارد في كل التحولات الثورية التاريخية ؟

6 ــ إن البناء القاعدي او الديمقراطية المباشرة هي تجربة مغرية وفيها إعادة الاعتبار للمواطن بعيدا عن الوسائط لكنها لا تخلو من مثالية وهي مغامرة غير محسوبة وقفز نحو المجهول  لكنها لا تتناقض في جوهرها  مع دور المجتمع المدني والسياسي و لا تمنع قصر قرطاج من التفاعل سلبا وإيجابا مع مكونات هذا المجتمع قصد الوصول لخارطة سالكة في ظروف مريحة بعيدة عن التشنج.

سالم الحداد زرمدين/المنستير6 ديسمبر2021