وثائقي

الطبوبي راثيا جراد: ضرورة استرجاع التفاصيل لاعطاء الرجل حقه ومكانته


رثا الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل نورالدين الطبوبي زميله عبدالسلام جراد الأمين العام للاتحاد (2000-2011) بنص مؤثر ضمنه الحديث عن خصال الرجل وتضحياته الجسيمة من اجل العمال والاتحاد والبلاد. 
جرى ذلك مساء الثلاثاء 1 جوان 2021 بمقبرة الجلاز أمام حشد من النقابيين من مختلف القطاعات والجهات والاجيال وعدد من المسؤولين في الوزارات والمؤسسات والمنظمات الوطنية والجمعيات وجمهور من الأقارب والأصدقاء.

جاء في نص التأبين:
إنّه لامتحان صعب على المرء أن يفارق الأعزّاء عليه وإنّه لامتحان أصعب أن يؤبِّن شخصٌ مثلي قائدا نقابيّا فذًّا تعلّمت منه وعملت معه جنبا إلى جنب ونلت شرف الارتقاء إلى سدّة المسؤولية التي كان يشغلها.
عبد السلام جراد الذي جمعنا اليوم لتوديعه الوداع الأخير كان بالنسبة لأجيال متعاقبة من النقابيين شقيقا أكبر، مؤطّرا عطوفا، مدرّبا مرشدا فضلا عن كونه مسؤولا نقابيا ووطنيا محيطا بكلّ شاردة وواردة وواقفا بكلّ ما أُوتي من قوّة إلى جانب الإطارات والتشكيلات النقابية يشُدُّ أَزْرَها في مطالبها ويحميها في نضالاتها من أجل تحقيق المكاسب لمنظوريها وعموم الشغالين ولم يبخل على خدمة الجميع طلبوا منه ذلك أو لم يطلبوا.
لا تعوزه الفكرة ولا تغيب عنه البديهة فما من مشكلة عويصة إلّا ووجد لها الحلّ وما من صعوبة إلاّ وتخطّاها مثلما تخطّى من صعاب فرضتها عليه مسيرته الحياتية.


وعي مبكر بحجم المظالم المسلطة على العمال
ولد الأخ عبد السلام جراد في جزيرة قرقنة سنة 1937 في عائلة كان كلّ أفرادها يعملون في البحر ويكسبون منه رزقهم. وحرص والده على تعليمه فألحقه بالكتّاب القريب ثم بالمدرسة الابتدائية هناك فالمعهد الثانوي الفني في صفاقس. لكنّه تعجّل أمرَه والتحق باكرا بعالم العمل والعمال حيث شاء قدره أن يضعه في شركة النقل بالحافلات المعروفة في ذلك الزمن تحت اسم "سطاس" وهي نفس الشركة التي عمل فيها الشهيد الزعيم فرحات حشاد.
التحق بها سنة 1959 كعون فنّي وانتبه مبكرا إلى حجم المظالم التي كان يعانيها العمّال فبادر بالانخراط في الاتحاد بغاية الدفاع عنهم وما هي إلا سنتان قصيرتان حتى انتخب كاتبا عاما للنقابة الأساسية بفرع الشركة بصفاقس ومنها انطلق في تنظيم التحركات العمالية وتوحيد العمال وراء المطالب الأساسية التي تضمَن لهم حقوقَهم وتحسِّن أوضاعَهم المادية والمعنوية.
كان في قمّة اندفاع الشباب وتحمُّسه لمّا حصلت في جويلية 1965 قضية الباخرة الرابطة بين صفاقس وقرقنة والتي سجن من أجلها الزعيم الحبيب عاشور وأُبعد من الأمانة العامة للاتحاد حيث لم تكن تلك القضية إلاّ تعلّةً للاستيلاء على الاتحاد وتنصيب قيادة موالية على رأسه. وقد نال من هذه الأزمة عبد السلام جراد ما نال الكثير من النقابيين حيث تعرّض إلى عقوبة إدارية صارمة تمثّلت في نقلته للعمل بالعاصمة في ظروف كانت صعبة عليه ماديا وعائليا.
لم يثنه ذلك العقاب عن مواصلة العمل النقابي صلب الهياكل الشرعية وبعودة هذه الأخيرة انتخب سنة 1971 كاتبا عاما مساعدا لجامعة النقل فكاتبا عاما لها سنة 1975 وخلال تلك الفترة نظّم واحدا من أكبر الإضرابات التي شهدها قطاع النقل وكان عوامل نجاح ذلك الإضراب التاريخي دقّة التنظيم وسرّية التحرّك ومن علاماته استعمال كلمة "عرس" كعبارة سرّية للتمويه وصرف اهتمام السلط عنه. 


فقد السمع في احدى أذنيه جراء التعذيب
استمر فقيدنا عبد السلام جراد في مسؤولية الكتابة العامة للجامعة العامّة للنقل إلى جانفي 1978 حيث تمّ اعتقاله ضمن قيادات الاتحاد التي اتُّهِمَت باطلا بالتسبب في الأحداث الأليمة التي تبعت الإضراب العام يوم 26 جانفي من نفس السنة. وكان سي عبد السلام من بين النقابيين الذي تلقّوْا شتّى أنواع التعذيب والتنكيل التي تركت آثارا على جسمه ومنها فقدان السمع في إحدى أُذنيه.
وكغيره من المناضلين المعنيين بتلك المحاكمة رفض الإجابة عن أسئلة رئيس محكمة أمن الدولة في إطار تحرّكهم الرافض للتعسّف الذي مارسته عليهم المحكمة عندما أبعدت محامييهم الأصليين. وقد حكمت عليه المحكمة بستة أشهر سجنا.
عاد فقيدنا سنة 1980 على رأس جامعة النقل في إطار الحل الذي تم التوصل إليه آنذاك وخلال عدة سنوات تمكّن من قيادة الجامعة العامّة وتحقيق العديد من المكاسب منها القوانين الأساسية وتحسين أجور العمّال وفرض العديد من الامتيازات لهم.
في سنة 1983 انتخبته الهيئة الإدارية الوطنية عضوا في المكتب التنفيذي الوطني على إثر الفراغ الحاصل باستقالة 7 أعضاء ولكن المهمة لم تدم طويلا باعتبار حصول أزمة سنة 1985 وتنصيب قيادة موالية للسّلطة وسجن النقابيين الشرعيين عقبها وكان منهم الأخ عبد السلام جراد الذي وضعت عراقيل عديدة أمام عودته للنشاط النقابي.
وبعد طيّ صفحة أزمة 1985 وعودة الشرعيين انتُخب في مؤتمر سوسة المنعقد سنة 1989 أمينا عاما مساعدا مسؤولا عن النظام الداخلي وتجدّد انتخابه في 1993 و1999. وفي سنة 2000 وبعد التصحيح النقابي أصبح أمينا عاما للاتحاد قبل ان يتجدّد انتخابه كذلك في مؤتمري جربة 2002 والمنستير 2006.


مواقع عربية ودولية
شغل الأخ عبد السلام جراد عدّة مناصب مغاربية وعربية ودولية بدءا باتحاد النقل العربي والاتحاد الدولي لنقابات العمال العرب والاتحاد النقابي العالمي – السيزل سابقا - كما تولّى الأمانة العامة للاتحاد النقابي لعمال المغرب العربي ورئاسة الاتحاد العربي للنقابات ونيابة رئيس الاتحاد الدولي للنقابات CSI.
كانت فترة إدارة الأخ عبد السلام جراد للاتحاد فترة صعبة للغاية بالنظر الى التأثيرات الخارجية الناتجة أساسا عن حرب الخليج الثانية والتي تُرجِمت إلى صعوبات على الاقتصاد الوطني وبالتالي على قدراته في الاستجابة إلى مطالب الشعب وفي مقدمته العمال الذين أخذت مقدرتهم الشرائية بالاهتراء دون توقّف. وعلى الصعيد الداخلي فقد أحكم النظام قبضته على الحياة السياسية خاصة أنّه كان أمام موعدين سياسيين هامّين الأوّل تغيير الدستور بما يسمح لبن علي بالترشح أكثر من مرتين وانتخابات 1999 التي تقدّم لها بن علي.


تجنب العديد من المصادمات مع السلطة
ورغم شتّى الضغوط التي سُلّطت على الاتحاد وقياداته وعليه شخصيا فإنّ عبد السلام جراد تمكّن من تحييد الاتحاد في المسألتين وعدم الزج به في انتخابات كان بعضهم يريدها مثيلة لانتخابات 1981 زمن الجبهة القومية، بل إنّه غضّ الطرف عن هياكل عديدة صدعت بموقفها الرافض للمسألتين. كما قبل الأخ عبد السلام جراد موقف الأغلبية الرّافضة لإغراء السلطة بإسناد الاتحاد 28 مقعدا في مجلس المستشارين عن طريق انتخابهم من المجالس المحلّية الموالية للحزب الحاكم، كما رفض أن يقبل لنفسه منصبا رفيعا سواء في مجلس النواب أو في مجلس المستشارين وانسجم بذلك مع الموقف النقابي العام. واستطاع بحنكة ودراية أن يتجنّب الكثير من المصادمات المتوقّعة مع رأس السلطة وأطرافها وأن يجنّب النقابيين بل أيضا بعض السياسيين، ومنهم من تنكّر له بعد ذلك، الكثير من المتابعات الأمنية والقضائية ويحميهم من جبروت السلطة، حتّى جاءت الثورة فلعب أخطر الأدوار وحرص على أن يتحمّل الاتحاد العام التونسي للشغل مسؤوليته الوطنية والتاريخية في قيادة البلاد في ظرف دقيق واستطاع أن يجمع المنظّمات والجمعيات والأحزاب في مجلس حماية الثورة وأن يعدّ معهم تصوّرا لانتقال ديمقراطي حقيقي كانت من آثاره الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي.

 
أرادوا فسخ نضالاته وتشويه صورته   
لقد حاولت في هذه السطور أن أسرد الخطوط العريضة لمسيرة قائد فذّ ولعلّي بهذا الاختصار أغبُطه حقّه وأظلم تاريخه ولكنّي حاولت أن أصحّح ما فعله بعض الحاقدين الذين أرادوا فسخ نضالات الفقيد وتشويه صورته والتنكّر لإنجازاته ولتاريخه ويبقى للمؤرّخين الدور الأكبر لتصحيح التاريخ وللنقابيين استرجاع الوقائع والتفاصيل لإعطاء فقيدنا حقّه ومكانته..
أيّها الإخوة والرفاق إذ نودّع سي عبد السلام اليوم فإنّنا من واجبنا أن نذكر له أنّه كان يحرص على التسيير الديمقراطي لمختلف هياكل الاتحاد حيث ما إن تولّى الأمانة العامة حتى مكّن مختلف الأقسام والاتحادات الجهوية والجامعات والنقابات العامّة من حرّية التصرف في تسطير برامج عملها وتصوّر نضالاتها وتسيير شؤونها، كما نذكر له كونه فتح أبواب الاتحاد على مصراعيها أمام كل القوى والتيارات السياسية والجمعيات والمنظّمات دون تمييز فمكّنها من عقد جلساتها ومؤتمراتها في مقرات الاتحاد بالعاصمة أو في الجهات وفي نزل أميلكار وجعل من منظّمة حشّاد قطب الرحى داخليا ونقطة إشعاع وضّاءة مغاربيا وعربيا ودوليا.
وان ننسى فلن ننسى انه رفض لبن علي يوم الخميس 13 جانفي 2011 أثناء مقابلته له بتكليف رسمي من الهيئة الإدارية طلب تأجيل أو إلغاء إضراب إقليم تونس المقرر ليوم 14 جانفي وهو الإضراب الذي كان له الأثر الحاسم في تقرير مصير الثورة، كما لا ننسى أنّه كان حريصا على إطلاق سراح شباب الثورة ممن وقع اعتقالهم وقتها.

شديد المراس ودود لطيف  
لم يكن سي عبد السلام مناضلا صلبا شديد المراس فحسب بل كان الإنسان العطوف الودود اللطيف المحبّ للآخرين يسأل عنهم ويتفقّد شؤونهم ويرعاهم ويحضر مسرّاتهم ويتابع همومهم في حرص يعسر أن نجد مثله رغم كثرة مشاغله وتعقّد مسؤولياته حتّى تحار في كمّ العطاء والكرم الذي يغمر الناس به دون تكلّف أو رياء أو تبجّح.. 
هذا غيض من فيض أكيد انه لم يأت على كامل تفاصيل حياة مناضل سخّر حياته لخدمة العمّال والبلاد ولكنني آمل أن أكون قد وفيت فقيدَنا العزيزَ بعضا من حقّه لدينا وأن أكون قد أعطيت لعائلته حقّها في تكريم زوج ووالد أبعدته عنهم المسؤوليات وأخذتهم منه العائلة النقابية والوطنية عقودا طويلة من عمره وعاشوا معه الصعاب والعذاب والطرد والملاحقة.
رحم الله أخانا عبد السلام جراد رحمة واسعة ورزق زوجته وأولاده وأحفاده وأقاربه ورفاقه وأصدقاءه وكلَّ الذين عرفوه وعملوا معه جميل الصبر والسلون وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.