كرة القدم : محتوى أيديلوچي وتديني معقد يتم تشكله داخل المستطيل الاخضر
—————————"حسني عبدالرحيم "
لذكرى الرفيق المايسترو الكروي الدكتور سقراط(1954-2011)كابتن المنتخب البرازيلي فى كأس العالم مرتين القائل:(كرة القدم كانت بالنسبة لي فرصة للضغط على الحُكم العسكري من موقع مؤثر، فالشعب البرازيلي شغوف بكرة القدم، وسأكون أكثر تأثيرًا لو كنت لاعبًا جيدًا"
كرة القدم كانت في الأصل لعبة شعبية اخترعها الإنجليز للترفيه عن الفقراء منهم بعد العمل المضني أثني عشر ساعة يوميآ ، وفي أوقات الفراغ النادرة ، فهى بعكس اللعب الأخرى الارستقراطية كألجولف والتنس التى تمارس كلها بكرات صغيرة الحجم وأدوات اخرى وتجهيزات لميادين مجهزة وهي لعبات فردية كممارسيها الأرستقراطيين!
كرة القدم كانت لاتستوجب أي اشتراطات مادية مٌكلفة فيمكن من بقايا أقمشة وبعض الخيوط عمل كرة ويمكن ممارستها بأ ي عدد من اللاعبين وعلى أى قطعة من الأرض وكذلك بحكام أو بدون حكام وبقواعد يتفق عليها الفريقان المتنافسان ! كان هذا فى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر في العصر الرومانسي ،وبحلول القرن العشرين صارت كرة القدم كيانا دوليا منظما كعصبة الامم ثم منظمة الأمم المتحدة واليونسكو .
"الفيفا"(FIFA) هي السلطة الأممية لكرة القدم واصبح لكل بلد إتحاده الذي يعترف به الفيفا واصبح لكل محافظة أو مدينه او شركة أو حتى فرع من فروع الجيوش فريق كروي يمثله، صارت هناك مسابقات وطنية وقومية وقارية وعالمية وقواعد وقانون للعب ! أصبحت الصحف مجالآ أوسع لتغطية المباريات التى يشاهدها عدد محدود من الناس وتحولت الصفحات الكروية بألصحف إلى المُروج الرئيسي للجرائد ثم تكونت الصحف المتخصصة فقط في كرة القدم ليس فقط مبارياتها ولكن نجومها وأخبارهم، مع ظهور المذياع (الراديو)دخلت كرة القدم لمجال صار أسمه الإعلام الرياضي وصار له معلقين ينقلون بأصواتهم مايشاهدونه على أرض الملعب للمستمعين !
أما التحول الجوهري لنفوذ كرة القدم الجماهيري ربما بدأ مع التلڤزة وأصبحت المقاهي هى المكان المفضل لمشاهدة جماعية حميمة للمباريات ومناقشات حامية حول الاداء والاحقية وكفاءة اللاعبين والحُكام وعراك كثير ،فقد انقسمت الجماهير لمشجعين مختلفين لنوادي وفرق كروية مختلفة !
بناء الإستادات تطور لكى تستوعب أكبر عدد من الجماهير الذين يشترون التذاكر ليشجعوا فرقهم وقامت الدول كذلك ببناء إستادات وطنية ضخمة يحضر فيها الرؤساء والملوك المباريات النهائية لتسليم الميداليات والكؤوس والوقوف مع اللاعبين والجماهير اثناء إداء النشيد الوطني ، وأصبحت كرة القدم تُمارس على الملاعب الخضراء ومدرجات الإستادات التى اضحت كاتدرائياتها ،وتبث عبر التلڤزة ليتابع المباريات عدد متزايد من الجماهير المنقسمة بالطبيع بين تشجيع أي من المتنافسين ويشاهدوا الإعلانات التجارية بين الشوطين وعلى حواجز الملعب وملابس اللاعبين ،
وجاءت الفضائيات لتصبح وقائع اللعبة عالمية وأصبح نجومها أشهر من نجوم السينما بهوليود ومعروفين لدى الكبير والصغير فى بقاع بعيدة و حتى حياتهم الشخصية صارت من إهتمامات الرجال والنساء والأطفال العاديين وأهم بكثير من إهتمامهم بحياة السياسيين أو رجال الأ عمال أو الكُتاب أو العلماء المتحصلين على جوائز نوبل ، وصارت هناك بورصة دولية لإنتقالات اللاعبين ومبالغ مالية هائلة تدفعها النوادي للاستحواذ عليهم وتدفع لهم كذلك مرتبات تفوق مايحصل علية مديرو المجموعات البنكية الهائلة و تطورت الصناعة المرتبطة بأدوات اللعبة وصارت ماركات عالمية ك"أديداس و"نايك"و"ريبوك"و صارت شهرتها لاتقل عن "فورد"و"سامسونج" و"أبل" و"كوكاكولا"!،
وتعدت رؤوس أموالها ومبيعاتها وأرباحها المليارات وتزيد عن رؤوس أموال كثير من البنوك والشركات الصناعيةالكبرى ،ودخلت رؤوس الأموال الخاصة للإستثمار فى المجال الكروي فألأندية الأكثر شهرة في العالم هى من أملاك مجموعات مالية أو مستثمرين كبار أستثمروا أموالهم في تلك الأندية من أجل الربح وهم ربما لايعرفون شيئآ عن هذه الرياضة أو غيرها ولم يهتموا يومآ بممارساتها أو الإستمتاع بمشاهدتها ،تتداول أسهم العديد من الأندية عبر البورصات المالية ،وهناك أموال خليجية ضخمة مستثمرة بألذات في فرق الدوري الإنجليزي والأوربيه الكبرى وترعى طيران الإمارات حالياً أندية أرسنال الإنجليزي، ميلان الإيطالي، باريس سان جيرمان الفرنسي، هامبورغ الألماني، أولمبياكوس اليوناني وريال مدريد الأسباني.
ودخل اللاعبون والاندية لمجالات الدعاية للمنتجات الرياضية وغيرها كالمشروبات والسيارات وماركات الملابس العالميه وشركات الطيران الخليجية أساسآ التى طُبعت شعارتها على قمصان لاعبي الفرق المشهورة والملاعب نفسها صارت لايوجد بها أي مساحات لاتحتلها الدعاية التجارية لمنتجات معروفة ، وحتى تلك المساحات الخضراء التى يدخلها اللاعبون ومعهم الحُكام يقومون فيها بالدعاية التجاريه المطبوعة على قمصانهم! واللاعبون المتقاعدون بدأوا في الترشح لمناصب سياسية في أفريقيا !
الحرب بين السلڤادور والهندوراس في العام 1969 اشتعلت بين البلديين اللاتينيين بسبب نزاع كروي بألأساس وقبلها كان "أدولف هتلر " في افتتاح دورة برلين الأولمبية قد استغل المناسبة الرياضية لبث خطابه الشوفيني قبل الشروع في غزو أوربا وخلال الثلاثينات وصف "بنيتو موسوليني"الفريق الكروي الايطالي كجنود يقاتلون من اجل عزة وشرف إيطاليا! وفي السبعينات من القرن الماضي بذل مستشار الامن القومي الأمريكي الاشهر "هنري كيسنجر"جهوده ونفوذه لإحضار اللاعب البرازيلي "بيليه" للولايات المتحدة لكى يؤسس كرة قدم في أمريكا حيث لم يكن للعبة تواجد مهم بجانب كرة السلة والرقبي والكرة الأمريكية ،وقد نجحت عملية التحفيز ورأينا منتخب أمريكي ينافس في كأس العالم.
ربما ترجع أول ظهور للمشاهدة الجماهيرية للقتال في عصر الرومان في الحلبة الدائرية لمشاهدة المصارعين العبيد وهم يتقاتلون ويراهم السادة ويراهنون عليهم وكان النبلاء والنبيلات يشاهدون بسعادة وحبور ولهو عمليات التقاتل والقتل لموضوعات من خاصة ملكياتهم وكانت المشاهدات الاسبانية لمصارعة الثيران أكثر شعبية وأقل وحشية لكن هذه وتلك كانتا محصورتين في وسط معين ولكنهما شكلا عناصر مهمة للتكوين الثقافي والايدلوجي لتلك البلدان ، لكن كرة القدم صارت المشاهدة الجماهيرية المعممة في العالم أجمع مع استثمارات مالية هائلة وطقوس ومنشئات تفوق كل ما بُني من كاتدرائيات ومساجد ومسارح وأقواس نصر عبر العصور ، ومئات من المحطات التلڤزية المتخصصة في بث المباريات فقط ومعلقين ومحللين وخبراء ونقاد بألألوف، وصارت لها أكاديميات تمنح الشهادات للمارسة المشروعة في مجالها للمدربين والمساعدين والحكام !
لم تعد صور الأيقونات من القديسين و الممثلين والقادة السياسيين تزين حوائط غرف الشبيبة بل صور اللاعبين المحترفين لكرة القدم من كل العروق والجنسيات وصار استاد "لانفليد" في مدينة ليڤربول اشهر من برج لندن و فريق باري سان جيرمان معروف اكثر من جامعة السوربون او متحف اللوڤر! وماردونا له محبين أكثر من الفيس بريسلي و بيتهوڤن ، صارت الحوارات والنزاعات في المجال العام تدور حول كرة القدم ، وتحولت الوطنية إلى وطنية كروية ! وديبلوماسية كرة القدم صارت من الوسائل المهمة و المتعامل بها بين الدول كبيرها وصغيرها .
المباريات في الملاعب صارت من قِبل اللاعبين والجماهير مناسبات لترويج طقوس دينية للديانات المختلفة وحتى الطقوس السحرية الافريقية القديمة وجدت لها مكان في الملاعب والمسابقات ،وحتى التحيزات السياسية صارت مرفوعة بقوة في الملاعب ، أهازيج واغاني لتجمعات الألتراس صارت عناصر مؤثرة في الصراعات السياسية في العقود الاخيرة ،الفاعلون السياسيون صاروا يرتكزون على أندية كروية لدعم نفوذهم الجماهيري ولكسب الإنتخابات السياسية .
ضحايا كرة القدم وشهداؤها كذلك يُعدون بآلاف من الذين لقوا حتفهم في الصراعات على أبواب الملاعب أو في المدرجات وكان آخرهم عشرات ماتوا في التزاحم للدخول في إحدى مبارايات الدورة الاخيرة لكأي افريقيا في الكاميرون ، ولم تهتم الوسائل الإعلامية بمأساتهم كما اهتمت بنتائج التصفيات للوصول للأدوار النهائية .
لم تعد لعبة كرة القدم ذكورية فلقد تكونت في غالبية البلدان كرة قدم نسائية تقام لها المسابقات الوطنية والدولية وتحوز على شعبية متزايدة من جماهير مختلطة من النساء والرجال وتمارسها أعداد متزايدة من الشابات كدليل على المساواة بين الجنسين.
تحوز كرة القدم حاليآ على كل مواصفات الأيديولوجيات وحتى مواصفات الدين الصنمي المُشكِل للقيم والتفاعلات الإجتماعية والثقافية والقيمية وللمجال العام ،وهي بجانب قدراتها التعبوية مصدر للربح ومجال هام للإستثمار والمنافسة ليس فقط الرياضية بل الإقتصادية والسياسية !
يحاجج كثيرون بأن رياضة كرة القدم هي عامل مُوحد للانسانية يمكنها أن تساعد على تجاوز التقسيمات العرقية والثقافية ،وفي تعليقه على فوز فريق فرنسا بكأس العالم منذ سنوات أشار الرئيس الأمريكي حينذاك "باراك أوباما" إلى صورة للفريق الذي كان يضم العديد من اللاعبين من أصول أفريقية وعربية وعلق على ذلك بقوله بأنه بإختلاف ألوانهم فهم جميعآ فرنسيون! لكن اللاعبين الفرنسيين الملونين تشكوا حينها من ترتيبهم في الصورة التذكارية للفريق مع رئيس الجمهورية الفرنسية آنذاك حيث وضِعوا في الصف الثاني من الصوره بينما البيض في الصف الاول! وتواترت كذلك الأهانات العنصرية تجاه اللاعبين الملونين في ملاعب بلاد اوربية متعددة.
باحثون إجتماعيون ونفسيون يخلصون إلى أن الإنفعالات غير العقلانية التى تسببها المنافسات الكروية تخلق تحيزات مماثلة للتحيزات القومية المتعصبة والفاشية وحتى أن هياكل الألتراس (روابط المشجعين) بها نفس الهيراركية السلطوية والعسكرية ،و ثقافة كرة القدم كما أسلفنا مع توسعها في كل المجالات بإحتلالها مساحات متزايدة في لاوعي الجماهير تُشَكل عائقا لإدراكهم للشروط الحقيقية لحياتهم الاجتماعية المغتربة وتقوم بتوحيدهم داخل أُطر وهمية بينما تسيطر علي الممارسات الكروية من أولها لآخرها مصالح اقتصادية واجتماعية وسياسية لمجموعات متنفذة توجه الجماهير في اتجاهات معاكسة لمصالحهم وتعيق مداركهم .
نهاية الايدلوچيات كانت أطروحة القرن الماضي وهى لم تصمد كثيرآ أمام تداعي الأزمات العالمية المتوالية والمتفجرة فألدولتانية والأصوليات الدينية والليبرالية والأيدلوچيات القومية والطبقية قد أطلت برأسها من جديد لتقدم حلول وهمية أو تستغل أحوال واقع متفجر ،وهذه الايدلوجيات أنتجتها ممارسات هى فكرية بألأساس ومرتكزة على أوضاع إقتصادية وإجتماعية محددة ،وذات أبنية عقلانية ومنهجيات تحليلية تأخذ اشكال منطقية احيانآ بغرض الإقناع والتاثير..
لكننا نعاصر الآن تشكل محتوى أيديلوچي وتديني معقد يتم تشكله داخل المستطيل الاخضر وفي المدرجات وفى نوادي المراهنة والتعليقات على المباريات ولكن كذلك هناك أيضآ محاولات للتنظير للمجال الكروي المعولم!
هل تشكل كرة القدم مجرد فرع من صناعة الترفيه الرياضي أم فاعلا رئيسىا في التكوين الحالي لروح عالم بلا روح و سلوى لمن لا سلوى لهم؟ ..هذا السؤال لن ننتظر كثيرآ الأيام والدراسات لتجيب عليه لإننا نرى بشائر الإجابات تتشكل أمام أعيننا ! عالم كروي بينما الارض ليست كروية بل بيضاوية تقريبآ.
ملاحظة: نشر هذا المقال في عدد 3 فيفري 2022 من ملحق " منارات " الذي تنشره جريدة الشعب الورقية.