أفكار متقاطعة يكتبها: ناجي الخشناوي «حرّية شرسة» لجيزال حليمي: لا معنى لحريّتي إلاّ إذا كانت تصلح لتحرير الآخرين
عندما يقع بين يديك كتاب «حرّية شرسة» الصّادر حديثا عن دار الكتاب بتونس، وتتوغّل في قراءته، ستتخلّى منذ الأسطر الأولى عن محاولة تصنيف هذا الكتاب، هل هو شهادة أم هو من صنف الأوتوبيوغرافيا، أو هو كتاب حواري أجرته الصحافية آنيك كوجان مع المناضلة النسويّة جيزال حليمي أم هو تأليف مشترك بين المرأتين أم هو من صنف المذكّرات أو اليوميّات...
وستتخلّى أيضا عن الرّغبة في الاطّلاع على النص الأصليّ للكتاب une farouche liberté، الصادر عن منشورات غراسييه بفرنسا 2020، ذلك أن الكاتب والمترجم التونسي وليد سليمان «أحكم» تعريب وترجمة هذا النص/الوثيقة، الذي ينفرد النّاشر التونسي الحبيب الزغبي، صاحب دار الكتاب للنّشر والتوزيع، بتقديمه للناطقين باللغة العربية لأول مرة، مانحا بذلك القارئ العربي فرصة الاطلاع على تجربة حياة امرأة نذرت حياتها لتغيير العالم بالمرافعات، تجربة مناضلة، مثلما يقدّمها النّاشر نفسه، باعتبارها: «أيقونة السّاحات العامة وقاعات الجلسات ومجالس الحكم رفقة مناضلين وهبوا أنفسهم للدّفاع عن الحق في عيش كريم يتساوى فيه الإنسان مع الإنسان أمام القانون، احتراما للذات الإنسانية.»، إنّها جيزال حليمي، تلك المرأة التونسيّة التي فرضت فرصتها وعانقت سعادتها ومضت قدما نحو مخاطرتها... طيلة حياتها حيث التّمرد يحتفظ ببكارته معها.
«إننا لا نولد نسويّين، بل نصبح كذلك». هكذا تُعلمُنا المرأة التي ولدت منبوذة من والدها، في نهاية الحوار الذي أجرته معها صديقتها الصحافية آنيك كوجان، تعلمنا أنّنا لا نولد نسويّين، لكنّها تنبّهنا، على كامل صفحات الكتاب/حياتها، كيف نصبح كذلك: كنَّ مستقلاّت ماديا، كنّ أنانيّات، كنّ غازيات، أرسلن الأعراف الاجتماعية والتقاليد وكلام النّاس إلى الجحيم، ارفُضن الأمر المتكرّر آلاف السنين بإنجاب أطفال مهما كان الثمن، وأخيرا لا تخفن من القول إنّكنّ نسويّات… كلمات هي أكبر من أن تكون تعاليم جاهزة أو وصفة مدرسية، بقدر ما هي «فلسفة تعيد استنباط العلاقات بين النساء والرجال التي بنيت في النهاية على الحرية».
بعد تقديم آنيك كوجان، يخضع متن كتاب حرية شرسة إلى ما يشبه الخطّ الكرونولوجي المستقيم لحياة جيزال حليمي، من خلال فصوله الستة، جرح الضيم: طفولة متمردة/حريتي في خدمة حرية الآخرين/الاغتصاب، فعل فاشي عادي/اختر... الأخوية النسائيّة/نسويّة في السّياسة/محامية، دائما وأبدا، لتأتي الخاتمة في آخر الكتاب بعنوان المشعل، ويبدو من العناوين الفرعية أن المتن يخضع فعلا إلى نسق تصاعدي في سرد الأحداث التي عاشتها جيزال حليمي أو التي مثلت منعرجا في حياتها، خط مستقيم يتدرّج من الطفولة المتوهّجة/بداية القرن التاسع عشر، وصولا إلى طيفها الهزيل ووجها النّحيل في شيخوختها المتوقّدة/ جيل génération me too، لكن القارئ سينتبه إلى أن هذه المرأة التي لم تكن الطمأنينة نقطة قوّتها، قد عاشت حياتها دفعة واحدة، رقصت فيها مثلما ترقص الفراشة حول النّار من أجل هدف واحد: أن تغيّر العالم وهي تُرافع... القانون أداتها... العدالة قضية العمر بالنسبة إليها... والتمرّد علامتها المميّزة... تمقت الكليشيهات، وتدحض الإملاءات... حياة الملهمات اللواتي ينخرطن في ضجيج العالم كي يغيّرنه نحو الأفضل...
رغم أن جيزال حليمي (جويلية 1927/جويلية 2020)، قد ولدت في الجهة الخطإ -لأنها أنثى- مثلما تقول هي عن ظروف ولادتها التي أنكرها والدها، إدوار، طيلة ثلاث أسابيع من قدومها إلى هذا العالم في ضاحية حلق الوادي، رغم ذلك فإن جيزال حليمي «الوقحة»، شرعت في تسديد اللّكمات القوية في وجه الذكورية العائلية وتسجيل انتصاراتها النسويّة الأولى منذ نعومة أظفارها... منذ بلوغها العاشرة...». لقد هزمت الرجل الذي كان عليه أن يجسّد شرف العائلة»... ونشبت مخالبها القاتلة في النّظريات الدّينية لليهود السفارديم وقد أصبحت علاقتها بالربّ تميل إلى الصّدامية عندما اكتشفت أنّ الصلاة له تنذر النّساء للعدم «الحمد لله الذي لم يخلقني امرأة»...
لا شيء تغيّر، فالدّين والثّقافة يتحالفان منذ قرون لتأسيس هذا القبول الذي تحوّل إلى تواطؤ، لذلك وجّهت صلاتها نحو القلم والمعرفة والعلم والدراسة ناذرة ذاتها للوجود وهي تقرأ بحمّى ونهم مرضيّ طيلة ليال بأسرها... لتفوز دائما بهذه الملاحظة: «أنت الأولى، جيزال. كالعادة»... ومثلما هو الحال دائما، جيزال هي الأولى»... ولكنها لم تكن ترضى بها... كانت تغذّي قوّتها الداخليّة وتشحذ ذاتها لتكسر سخط والدها وهو يتهكّم في وجهها قائلا «هل تظنّين نفسك محامية العالم بأسره؟». لقد فعلت ذلك يوم عادت سنة 1949 من باريس وهي تحمل إجازة في الحقوق وشهادتيْ إجازة في الفلسفة وشهادة كفاءة لمهنة المحاماة لتؤدّي اليمين القانونيّة... محميّة في زيّ المحاماة «الجالب للحظ» الذي اشترته من باريس سنة 1949... لقد عادت كائنا «يملأ عزمٌ صلبٌ روحه» حسب عبارة فيكتور هوغو... لكن هل انتهت معاركها مع الأب والإخوة والربّ؟ أم أن جبهات أوسع وأشدّ فظاعة تنتظرها؟
ماذا ستفعل امرأة شابّة وشغوفة في مواجهة محكمة مليئة بالرّجال؟ هل ستكتفي جيزال حليمي بإضاعة عشر دقائق أمام القاضي لمجرّد أنها امرأة؟ هل ستكتفي بضمان محاكاة ساخرة للعدالة مع المحامين الرّجال؟ أم ستظلّ تزرّر وتفكّ أزرار زيّ المحاماة في انتظار المداولات التي لا تنتهي... أبدا، لن تخضع لهذه المعادلة البائسة، ولأنّ الكلمات ليست بريئة، ولأنّ جيزال حليمي محامية بتاء التأنيث «أنا لست محاميا، بل محامية»، ولأنّها لم تكتب أبدا مرافعاتها ولم تتدرّب عليها يوما، ولأنها ليست من هواة النظريّات الماهويّة، فقد تفنّنت طيلة سنوات كي تبدو متقدّمة في السنّ ودميمة إلى أن ذهبت إلى باريس سنة 1954 لتقديم أول طلب عفو في قصر الإليزيه، فتكون أوّل امرأة محامية تتقدّم بهذا الطلب في حقّ محكوم عليه بالإعدام لأسباب سياسيّة. نجحت في مهمّتها، لكن الأهم بالنسبة إلى جيزال حليمي أنها كسرت أصول ايتيكات الإليزيه، ووقفت دون قبّعة أمام الرئيس الفرنسي رونيه كوتي، وربّما هذه العتبة جعلتها تحطّم -بعد أربع سنوات 1958 - رقما قياسيّا عندما قدّمت في يوم واحد ثلاث التماسات من أجل ثلاثة أشخاص مختلفين محكوم عليهم بالإعدام... ومكّنها أيضا من مواجهة الرئيس الفرنسي، الجنرال شارل ديغول عندما أجابته قائلة «نادني أستاذة، سيّدي الرئيس»، وافتكت منه عفوا رئاسيا لأحد المحكومين بالإعدام... كانت تفعل ذلك عندما كان العسكر والقضاء يعملون اليد في اليد لإعادة النّظام القمعيّ الفرنسيّ خلال حرب الجزائر، لذلك رفعت جيزال حليمي شعارها المركزي «لا معنى لحريّتي إلاّ إذا كانت تصلح لتحرير الآخرين» وانخرطت في مقاومة الشرّ المطلق، فكانت من بين المحاميات النادرات اللواتي دافعن عن الفلاّقة وتنقّلت بكثرة بين الجزائر العاصمة وباريس من 1956 إلى اتفاقيات ايفيان عام 1962... ورغم اتفاقيات وقف إطلاق النار، فإن أساليب الجيش الفرنسي لم تختلف عن أساليب الغيستابو... لذلك كان على جيزال حليمي أن تلتقي المناضلة جميلة بوباشا وأن تتبنّى ملفّها...
ملف جميلة بوباشا هو تكثيف كامل لكل ما كان يهم جيزال حليمي: مناهضة التّعذيب، التّنديد بالاغتصاب، دعم الاستقلال وحق الشّعوب في تقرير المصير، التّضامن مع النّساء المنخرطات في النّشاط العام وفي مستقبل بلدهن، الدّفاع عن مفهوم معيّن للعدالة... وأخيرا نسويّتها، نسويّة جيزال حليمي... ولذلك لم تتردّد «المحامية الوقحة» في تجنيد العالم بأسره، وتأنيثه ليقف في صفّ جميلة بوباشا، وما العالم سوى رموز الفكر والثقافة والإبداع، لقد فعلت جيزال حليمي كل ما في وسعها لتأليب الرأي العام، فراسلت ديغول ومالرو وميشليه لئلا ينكروا، وأعلمت فرنسوا مورياك وهوبير بوف ميري ودانيال ماير ليشهّروا، وروت بالتفصيل لسيمون دي بوفوار، وأقنعت إيميه سيزار وجان بول سارتر وجيرمين تيون ورونيه جوليار وأراغون وجونيفييف دي غول وأندريه وأنيز بوستال فينياي وفرنسواز ساغان... أقنعتهم بالانضمام إلى اللجنة التي شكّلتها «من أجل جميلة بوباشا»...
إن الأسماء التي غيّرت العالم فكرا وفلسفة وفنا وشعرا، لم يكونوا مجرّد أسماء في مفكّرة محامية أو ناشطة سياسية أو نائبة في البرلمان الفرنسي أو حتى عندما أصبحت سفيرة لفرنسا في منظمة اليونسكو اسمها جيزال حليمي تتفاوض مع فيدال كاسترو في هافانا، بل كانوا منارات وملهمات وملهمين في حياتها، تستقبلهم في بيتها «الغارق في الخضرة والكائن في الدّرومْ»، تتقاسم معهم تفاصيل الحياة، وجبات العشاء والحفلات وأعياد الميلاد وكؤوس النّبيذ والموسيقى والأشعار... وعاشت معهم بمزيج من الانبهار والذهول، فقد كانت القندس، سيمون ديبوفوار شقيقة في الكفاح ومحاربة لا تُهزم، وكان معها جون بول سارتر، أو بولو مثلما تناديه أمه، إنسانا عادلا، سخيّا عطوفا، وكان شاهدا على زواجها من كلود فو، الشّاعر لوي أراغون والرّسام جان لورسا، بل إن بابليتو، بابلو نيرودا، كان من المقرّبين إلى جيزيل حليمي وقد أهداها قصيدته «المرأة الجميلة ذات العينين الحزينتين»، وأغرقها الشاعر ايميه سيزار بالنور من خلال أشعاره في كراس العودة إلى مسقط الرأس، ومن أصدقائها جاك مونو وفرنسوا جاكوب الحائزان على جائزة نوبل، ونعوم تشومسكي ورومان غاري والرئيس الشيلي سلفادور الليندي ومكسيم لو فوريستييه... لقد فازت جيزيل حليمي، مع هذه العلامات المضيئة، بما يحلو لها أن تسمّيه «العائلة المنتقاة»...
في التزام شبه صوفيّ، عاشت جيزال حليمي ورحلت، ثملة بالحرية... عاشت ورحلت بنسويّتها الغريزيّة، وهي تهتف في وجه العالم الذكوري وتمزّق ميثاق الصمت: الحياة لنا... فبين الضعيف والقوي، الحريّة هي التي تقمع والقانون هو الذي يحرّر... عاشت جيزال، التي تحمل معها حياتها في قاعات المحاكم، وهي تترافع في محاكمات تفكيرية، تثويرية، تضع التابوهات موضع تساؤل وكذلك الثقافة الشاملة التي تقبل الظلم والدونية والتمييز وتأبيد «الموتى الأحياء»... محاكمات تفتح النّقاشات والمنابر الحرّة... محاكمات تكتب فصلا جديدا من كفاح المرأة الطّويل... بعيدا عن الفخّ المنصوب للنساء، فخّ العرش/السّجن... لقد عاشت ورحلت لتمنحنا حياتها كل الطمأنينة لنختر قضية النّساء choisir la cause des femmes، لنعطي بعدا كونيّا لوضعيّة النّساء، وتجعلنا أكثر شراسة في الدفاع عن الحريّة، حرّيتنا وحرّية الآخر مهما كان لونه أو جنسه أو انتماؤه أو دينه... لأن المستقبل «سوف يعرج إن لم يُبْنَ إلا بأيدي الرجال وفي انتظار النساء»... وأيضا، وهذا الأهم مثلما تخبرنا بذلك جيزيل حليمي، «النضال ديناميكيّة. ولو توقّفنا، نتدحرج».