بين حق روسيا في حماية أمنها، وحق الحلف الأطلسي في ضمّ أوكرانيا
لاحظت من خلال بيانات بعض الأحزاب حول أحداث أوكرانيا الأخيرة أن الموقف مبني غالبا على نقص في المعلومة، أو قفزا على بعض الحقائق التاريخية.
ولذلك أضع هذه الورقة أمام الشباب، حتى لا تكون آراؤهم ناقصة، بقطع النظر عن اتجاه الموقف. فليس مهما في رأيي أن تكون مع حق روسيا في حماية أمنها، أو مع حق الحلف الأطلسي في ضمّ أوكرانيا حق روسيا في حماية أمنها، أو مع حق الحلف الأطلسي في ضمّ أوكرانيا ، بل المهم هو أن يكون موقفك متماسكاً وبعيدا عن ترديد الجمل المسلوخة من سياقاتها.
1/ الإطار التاريخي للحصار الغربي المضروب على روسيا منذ ثورة أكتوبر 1917
أ/ مباشرة بعد قيام ثورة أكتوبر 1917 في روسيا، رفضت الدولة الامريكية الاعتراف بحكومة البلاشفة، وقدمت الدعم الى الجيش الابيض الذي حارب السلطة الجديدة بتزويده بالمال والمواد الغذائية. وفي اعوام 1918 – 1920 شاركت القوات الامريكية سوية مع قوات بريطانيا وفرنسا واليابان في التدخل العسكري في شرق وشمال روسيا بهدف الإطاحة بنظام السوفيات الاشتراكي. وإلى غاية مطلع الثلاثينيات من القرن العشرين، لم تعترف الولايات المتحدة بالاتحاد السوفيتي، حيث ظلت تطلب كشرط مسبق للاعتراف تسديد جميع الديون وتعويض أرباب الأعمال الامريكيين عن الأضرار التي لحقتهم نتيجة مصادرة ممتلكاتهم بعد الثورة. ولم يبدأ التنسيق بين البلدين إلا للوقوف ضد توسع العدوان الياباني في الشرق الاقصى. وهكذا قامت العلاقات الدبلوماسية بينهما سنة 1933 (أي بعد 16 سنة من حكم الشوعيين).
ولاحقًا ستتحسن العلاقات السوفييتية الغربية ظرفيًا خلال الحرب العالمية الثانية لمواجهة النازية. ففي عام 1942 وقعت بواشنطن الاتفاقية السوفيتية–الامريكية حول المساعدة المتبادلة اثناء الحرب ضد العدوان.
بعد الحرب مباشرة دخل العالم في مرحلة سباق التسلّح والحروب بالوكالة، التي ميزت مرحلة "الحرب الباردة"، والحرب الباردة هو مفهوم يعني المجابهة العالمية والجيوسياسية والاقتصادية والايديولوجية بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة والاتحاد السوفيتي وحلفاؤه من جهة أخرى. ويذهب بعض المؤرخين إلى ان خطاب تشرشل المشهور الذي ألقاه بمدينة فولتن يوم 5 مارس 1946 بهدف مكافحة الشيوعية، يُعتبر البداية الشكلية للحرب الباردة. وربما الأساس النظري الذي قام عليه حلف الناتو. ومنذ ذلك الوقت بدأت المجابهة في منتصف الاربعينات من القرن الماضي، ولم تتوقف ولو يوما واحدا إلى أن انتهت بتفكك الاتحاد السوفيتي مطلع التسعينات.
شكل حلف شمال الأطلسي، الذي يُعَدُّ أقوى تحالف عسكري في العالم على الإطلاق، عام 1949 بهدف التصدي لما كان يوصف "بالخطر الشيوعي" إبان الحقبة التي كان الاتحاد السوفييتي يسعى فيها لنشر نفوذه في القارة الأوروبية ومناطق أخرى.
ادّعى هذا الحلف أنّ هدفه لا يتعدّى "الحفاظ على الحرّيات وعلى الإرث المشترك وعلى حضارات الدول الأعضاء فيه عن طريق تعزيز "استقرار وسلامة منطقة شمال المحيط الاطلسي".
كان حلف الأطلسي يتألف عند تأسيسه عام 1949 من 12 دولة، والتحقت تركيا واليونان عام 1952، تبعتهما ألمانيا الغربية عام 1955. وفي نفس السنة ( 1955)، أسس الاتحاد السوفييتي حلفا موازيا أطلق عليه اسم حلف وارسو، واستمرّ هذا الحلف طيلة الحرب الباردة، إلى أن تمّ حلّه في 1991 مباشرة بعد تفكك الاتحاد السوفييتي.
ب/ نهاية الحرب الباردة وبداية تمزيق روسيا وإنهاء دورها:
لم يتفكّك حلف وارسو وحسب، بل أن دوله الأعضاء مثل جمهورية التشيك والمجر وبولندا انضمت عام 1999 الى صفوف عدوها الأسبق، أي حلف شمال الاطلسي. بعد ذلك التحقت سلوفينيا وسلوفاكيا وبلغاريا ورومانيا.
وجاءت الخطوة الثانية المفزعة في عام 2004، عندما انضمت الجمهوريات السوفيتية السابقة: ليتوانيا واستونيا ولاتفيا الى الحلف الأطلسي، وهي دول تُعتبر أجزاء من الجسد الروسي ومن الذات الرّوسية.
بعد ذلك انضمت كل من البوسنة والجبل الأسود وصربيا الى برنامج "الشراكة من أجل السلام" الذي يديره الحلف، تمهيدا للعضوية الكاملة.
هكذا تفاقمت مخاوف روسيا بعد أن تعدّى عدوها الأول باب بيتها، ليستقرّ بين أعصابها. هذا العدو (الحلف الأطلسي) الذي لم يعد له أي مبرر منطقي للاستمرار في الوجود أصلا، طالما تأسس في فترة سادها الخوف والقلق في الدول الغربية من امكانية "تمدد" الكتلة السوفيتية. واليوم هذه الكتلة المُخيفة انهارت وتفككت وتحولت من الاشتراكية إلى الليبيرالية منذ عام 1991. فما الذي يُبرّر استمرار الحلف الأطلسي لولا نوايا الهيمنة الاستعمارية ومحاصرة روسيا؟
2/ المخاوف الروسية والتعنّت الأطلسي
حين تم تفكك الاتحاد السوفياتي، تعهّد البيت الأبيض بعدم تعريض أمن روسيا للتهديد، من خلال توسع حلف الناتو شرقا، وضمّ جمهوريات الاتحاد السوفياتي سابقا المحاذية لروسيا، والتي كانت لمدة سبعين عاما جزءً أساسيا من الذات الرّوسية، ولا تزال لها روابط أمنية وعسكرية واقتصادية ودينية وثقافية في غاية الأهمية والتعقيد، الأمر الذي جعل مسألة ضمّها لحلف الناتو هي القضية الأمنية الأولى لروسيا.
من الحقائق التي لا يمكن فهم الأحداث الأخيرة دون معرفتها هي أنه مع انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991 أصبحت أوكرانيا ثالث دولة في العالم من حيث حجم الأسلحة النووية على أراضيها! وهذا يعني أن وضعها وارتباطاتها مع أعداء روسيا، يُشكّل قضية حياة أو موت بالنسبة للدولة الرّوسية. ولذلك، وقّعت روسيا والولايات المتحدة وأوكرانيا وبلاروسيا وكازاخستان، بروتوكول (لشبونة) في ماي 1992، الذي يجعل الدول الثلاث التي ورثت تركة نووية، إثر تفكّك الاتّحاد السوفيتي، أطرافا في اتفاقية ستارت1 للحد من انتشار الأسلحة النووية. وذكرت المادة الخامسة من البروتوكول أنه يتوجب أن تنضمّ الجمهوريات الثلاث - بيلاروسيا وأوكرانيا وكازاخستان - إلى معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية في أقرب وقت. وبعد ذلك وقّعت الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وبريطانيا وأوكرانيا عام 1994 مذكرة (بودابست للضمانات الأمنية)، والتي بموجبها تعهدت الولايات المتحدة وبريطانيا باحترام أمن روسيا، مقابل احترام روسيا لسلامة الأقاليم الأوكرانية. والجدير بالذكر أن الجمهوريات السوفياتية السابقة الثلاث، بقي بحوزتها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي كل أسرار الدولة السوفياتية، وأكثر من 3000 سلاح نووي استراتيجي!
3/ جذور الحرب الروسية الأطلسية التي اندلعت في أوكرانيا منذ أيام
الرئيس بوتين حين وصل للحكم في 2003، ذكّر الغرب بتلك التعهدات التي تقضي بوقف التوسع على حساب أمن روسيا، وظلّ متمسّكا بحق بلده في ضمان أمنها، ولكن الإدارات الأمريكية المتعاقبة أنكرت أن يكون هناك تعهد مكتوب. وتصرّفت دون اكتراث بالمخاوف الروسية. فنصبت درعا صاروخيا موجها للأراضي الروسية في تركيا وأوروبا الشرقية، على امتداد عشرات آلاف الكلومترات من الحدود المواجهة لروسيا. وكما ذكرت أعلاه، رأينا كيف أن معظم الدول الأعضاء في حلف وارسو سابقا، انضمت إلى الحلف الأطلسي مطلع التسعينات: ألمانيا الشرقية، ألبانيا، بلغاريا، بولندا، تشيكيا، رومانيا، المجر. ثم واصل هذا الحلف توسعه حتى أنه ضمّ جمهوريات سابقة في الاتحاد السوفياتي، ثم مدّ يده لخلع جورجيا، وهي عملية تشبه إلى حدّ كبير محاولة خلع جهة صفاقس من التراب التونسي. ممّا أدى إلى حرب جورجيا 2008 التي أوقفت العملية الأطلسية العدوانية.
وبرغم كل المحاولات التي بذلها الروس لدفع الأذى، ودفع الخطر، استمرّ الغرب الاستعماري بقيادة الولايات المتحدة، في التحرش بهذا البلد، والدّوس على أصابعه المجروحة، بهدف محاصرته وقطع أطرافه وإنهاء دوره. ومرة أخرى اشتغلت كل الدوائر من واشنطن إلى بروكسيل على ضمّ أوكرانيا مهما كان الثمن. بمعنى أن الدولة الروسية تحركت نحو أوكرانيا بدافع الدفاع عن أمنها، أي قبل أن تقع تحت سيطرة الأمريكان، وليس بدافع الهيمنة والاحتلال.
4/ مكانة أوكرانيا بالنسبة لروسيا.
كانت مساعي أوكرانيا للانضمام إلى حلف الناتو، السبب المباشر للحملة العسكرية الروسية ضد كييف. ولكن هنالك أسباب تاريخية قريبة، وأبعاد دينية وثقافية بعيدة. تتعلق الأولى بطموح الروس لإحياء إرث الاتحاد السوفيتي، الذي قال عنه بوتين:" إن انهياره عام 1991، كان بمثابة "تفكك لروسيا التاريخية". وتتعلق الثانية برغبة رمزية وظيفية لفلاديمير بوتين بالاحتفال بعيد الفصح في كييف. ذلك أن غزو أوكرانيا اليوم هو امتداد لقصة قديمة، بدأت مع سقوط الإمبراطورية الرومانية، وما تلاه من تنافس على إرثها السياسي والديني بين الإمبراطوريات التي خلفتها فمدينة "كييف" عاصمة أوكرانيا تُعَدُّ بالنسبة للمسيحيين الأرثوذكس بمثابة القدس عند المسلمين، لذلك فإن الصراع على أوكرانيا هو أيضاً صراع على أي مسيحية ستطبع وجه شرق أوروبا؟ ولذلك فالعملية العسكرية التي أعلنها الروس لا تقل أهمية، من وجهة نظرهم، عن "الحملة الصليبية في العصور الوسطى لاستعادة الأراضي الأرثوذكسية المقدسة من الهراطقة الغربيين. فهذه المدينة تتحلّى برمزية كبرى في تاريخ المسيحية الأرثوذكسية، حيث لعبت دوراً تأسيسياً، وتُعتَبَر الموطئ الديني الأول في الوعي الجمعي الرّوسي. ويبدو أن هنالك تشابه أوسع من تشابه الأسماء بين فلاديمير بوتين اليوم، وفلاديمير الأول، أمير "كييف" بين عامي (978 و1015)، لما كانت "كييف" عاصمة روسيا في ذلك الوقت.
اختلفت الروايات التاريخية حول قصة اعتناق فلاديمير الكبير للمسيحية، بعدما كان وثنياً. ولكن، يرد في عدد من المراجع أنه كان قد طلب يد الأميرة آنا، شقيقة الإمبراطور البيزنطي باسيل الثاني، لبناء حلف سياسي، وكان شرط الإمبراطور أن يعتنق فلاديمير المسيحية. فساعده في قمع متمردين عليه، واحتفالاً بنصره، لم يعتنق المسيحية وحسب، بل جعلها ديانة لشعبه. وتقول المرويات أنه في طريق عودته إلى "كييف"، حطّم فلاديمير الأوثان، وقاد معمودية جماعية على نهر دنيبر عام 988 (ينبع النهر من روسيا، ويعبر بيلاروسيا، وأوكرانيا).
ونظراً لأهمية تلك اللحظة المؤسسة في التاريخ الروسي، فإن بوتين يطمح لاستعادة كييف، "المدينة الأم للأرثوذكسية الروسية"، تذكيراً بأمجاد فلاديمير الكبير.
في هذا السياق، إضافة للعوامل الجيوسياسية المرتبطة بأمن الدولة الروسية وكيانها الجغرافي، هنالك عوامل أخرى مهّدت للغزو وشجعت عليه، أحدها انفصال الكنيسة الأوكرانية عن الكنيسة الروسية سنة 2018، إذ كانت جزءاً منها منذ عام 1686. فعند إعلان الانفصال قبل سنوات، لام بوتين السياسيين الأوكرانيين على "التدخل في شؤون الكنيسة وتشويه تاريخنا المشترك"، وأكد على حق بلاده في حماية "حرية العبادة".
يجب الإشارة هنا إلى أن استقلال الكنيسة الأوكرانية أدى إلى انقسام أوسع على مستوى الكنائس الأرثوذكسية، مع إعلان الكنيسة الروسية انفصالها عن العائلة الأرثوذكسية الجامعة، احتجاجاً على دور بطريرك القسطنطينية المسكوني، في إصدار مرسوم الاعتراف بالكنيسة الجديدة. ومن الواضح أن إعلان الانفصال شكّل ضربة خطيرة لطموحات بوتين والكنيسة الروسية على مستويات عدة، إذ يمثل الأوكرانيون الأرثوذكس 30 % من مجمل المسيحيين التابعين لبطريرك موسكو. ويعني الانفصال، خسارة ملايين الأتباع، وملايين المليارات، وجزء أساسيا من الفخر الأرثوذكسي.
5/ توظيف الدولة الروسية لعقيدة قومية جامعة بعد فقدانها لفكرة الشيوعية الكونية.
خلال سنوات حكم بوتين، تنامى دور الكنيسة بشكل ملحوظ. والعلاقة بين الرئيس الروسي والكنيسة الأرثوذكسية علاقة حيوية تكافلية متينة جدا. ففي عهده، سُمح لها باستعادة صدارتها، إذ قدم لها الدعم كما لم يفعل أي حاكم روسي منذ الثورة البلشيفية. ومن جهتها، مدت الكنيسة الرئيس بالدعم الفكري والثقافي لتوفير أرضية لرؤيته للدولة، وتوسيع مجال نفوذ روسيا حول العالم. وليس سرًّا أن المسيحية الأرثوذكسية شهدت نهضة كبرى في أوروبا الشرقية خلال العقدين الماضيين، سواء في روسيا أو في الدول المحيطة بها، حيث يعرّف 70 % من السكان أنفسهم كأرثوذكس، تماما مثلما نعرف نحن أنفسنا كمسلمين. ولقد تناغمت هذه النهضة الدينية، وتوازت مع تنامي المشاعر المؤيدة لروسيا في المنطقة، كقوة ضرورية لمواجهة الهيمنة الغربية. وهذا أمر طبيعي لأن الهوية الأرثوذكسية مرتبطة بشكل وثيق بالهوية القومية، وبمشاعر الفخر والتفوق الثقافي. ولعل الصلات بين مركز السلطة السياسية وبطريركية موسكو، قديمة قدم روسيا نفسها. فعلى امتداد تاريخها، كانت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية تابعة للدولة، وداعمة للحكم. ومنذ القرن السادس عشر، عززت الكنيسة الحكام بلاهوت سياسي مبني على فكرة "القدر المتجلي أو المصير الواضح"، الذي يؤكد أن موسكو باتت القدس الثانية وروما الثالثة (بعد روما والقسطنطينية).
خلال سنوات حكم الاتحاد السوفيتي، تراجع دور الكنيسة التي عانت من التهميش والمحو لمدة سبعين سنة. ثم عادت لتنهض منذ تولي بوتين الحكم، حيث اعتمد عليها كقوة جامعة في البلاد، لتعزيز مكانته كحامٍ للرّوس. ولم تشهد روسيا منذ عهد القياصرة قائداً يُتقن استخدام الكنيسة بطريقة مفيدة لدعم سياساته الداخلية والخارجية مثل فلاديمير بوتين، رغم أنّ المظهر الخارجي يُفهم منه أن الدولة الروسية تحاول التكفير عن ذنوب الحقبة السوفيتية التي قمعت الممارسات الدينية بالكامل.
من المؤكد أن الكنيسة باتت رمزاً من رموز قوة بوتين، ولفضح هذه العلاقة المتينة بينه وبينها، نفّذت فرقة "بوسي رايوت" الغنائية حركة احتجاجية ضدّ الرئيس داخل كاتدرائية موسكو. ولا أعتقد أن أي سياسي علماني آخر على وجه الأرض، يكون الاعتراض الأشد رمزية ضده، موجهاً من داخل كنيسة.
الرجل وضع نفسه في تماهي مع عقائد شعوب الشرق المسيحي، وانتصب كمدافع عن التقاليد المحافظة وعن مكانة الكنيسة، من خلال خطاب معلن يرفض الطلاق، والمثلية الجنسية، ويشجع قيم الأسرة التقليدية. وبغض النظر عن قناعاته الشخصية، نجح إلى حدّ كبير في توظيف تلك القيم، من أجل التأثير السياسي. وهو دائم الحرص على إظهار التزامه بتلك القيم. وعلى سبيل المثال، يمتلك بوتين قلادة صليب، لا تفارق رقبته، يقال إنها هدية من والدته يوم عمّدته في السرّ مطلع الخمسينيات. وقد برّكها على قبر المسيح، خلال زيارة قام بها إلى القدس أثناء عمله ضابطاً في الاستخبارات الروسية في الثمانينات. ويروّج وسط المقربين منه أن الصليب كان من الأغراض القليلة التي نجت من حريق أتى على منزل عائلته.
واضح إذن أن للرئيس الروسي رغبة في جعل الكنيسة الأرثوذكسية رأس حربة في مشروعه لإعلاء القومية الروسية، وأداة قوية لدعم أيديولوجيته السياسية عن روسيا المُقدّر لها أن تكون قوة عظمى. لذلك بذل جهوداً كبرى في دعم الكنيسة مادياً ومعنوياً وسياسياً، بدءاً من استعادة مقتنيات الكنائس التي بيعت خلال الحقبة السوفييتية، وبناء آلاف الكاتدرائيات، إلى جانب إدراج مادة عن الثقافة الأرثوذكسية في المناهج الدراسية.
يُضاف إلى ذلك أن الكنيسة تلعب دوراً مهماً في الجيش الروسي، وقد شوهدت خلال العمليات الأخيرة في أوكرانيا تسجيلات لكنائس متنقلة، ترافق الوحدات العسكرية الروسية، إذ يبارك كاهن الأسلحة أحياناً في ساحات القتال، ويقيم الصلاة مع الجنود.
وللدلالة على العلاقة الوثيقة بين الكنيسة والجيش، شيدت القوات الروسية المسلحة كاتدرائية خاصة بها في موسكو، افتتحت في عام 2020، احتفالاً بالذكرى 75 لانتصار روسيا في الحرب العالمية الثانية، واحتفاءً بمآثر الشعب الروسي العسكرية في الحروب التي خاضها.
من جهته، يبادل بطريرك موسكو الكرملين والجيش الروسي مشاعر الفخر ذاتها، ويتحدث في أحد خطاباته عن دور الكنيسة في ضمان وحدة الشعوب الروحية في الدول القائمة على أراضي "روسيا التاريخية"، وأهميتها في حماية منظومة "القيم الأرثوذكسية التي تحملها الحضارة الروسية المقدسة للعالم".
في نفس الاتجاه، هاجم الاتحاد الأوروبي بيلاروسيا بسبب موقفها الداعم لروسيا في غزوها لأوكرانيا. وشكك عدد من المسؤولين الغربيين في نتائج الاستفتاء -الذي جرى يوم الأحد 27 فيفري الماضي- على تعديلات دستورية تسمح باستضافة القوات الروسية والأسلحة النووية على أراضيها بشكل دائم، وتمديد حكم الرئيس ألكسندر لوكاشينكو.
هنا أيضا، هنالك قصة لا يجب إغفالها. المسيحية الأرثوذكسية هي الديانة السائدة في بيلاروسيا. حيث يعتنقها حوالي 94% من سكانها. وهذه الغالبيَّة تتبع الكنيسة البيلاروسية التي لا تزال في وحدة مع الكنيسة الروسية، أي كنيسة القديس بوريس.
بدأت هذه القصة حين غزا الحكام الرُوس الإمبراطورية البيزنطية، و بسبب قرون من التنصير والتثاقف والاختلاط، تعززت الرابطة الثقافية المشتركة بين المسيحية الأرثوذكسية واللغة السلافية المكتوبة، التي طورها المبشرون منذ القرن الثامن، وهذا أدّى بعد قرون إلى ظهور كيان جيوسياسي جديد، ألا وهو "خقانات روس"، التي أُنشئت على طول طريق التجارة الرابط بين ثلاثة مراكز رئيسية: "نوفغورود" في روسيا، و"بولتسك" في بيلاروسيا، و"كييف" عاصمة أوكرانيا حاليا. وهذا يعني بغاية الإيجاز، أن أوكرانيا جزء من روسيا، وأن هذه المنطقة كما الجسم إن قطعت راسه، أو خلعت كبده، مات. وأن لقضايا الحرب والسلم أهداف سياسية اقتصادية معلومة وواضحة. ولكن مُحرّكات حروب الشرق وعواملها، فهي عديدة ومتشابكة وذات حمولة تاريخية ورمزية بالغة التعقيد. فالأمم في نهاية المطاف هي محصّلة ذاكرة جماعية. وليست بورصة وسوق وأسهم فقط.
لا أطيل عليكم، باختصار هذا الذي يُسميه الغرب غزوا لـ"دولة" ذات سيادة، قضية معقدة يتداخل فيها السياسي والاقتصادي والأمني والديني والتاريخي والثقافي. وهذه أمم كبرى لها أمجاد، ولها مستقبل. وقبل هذا وبعده هي أمم نجحت في استيعاب تاريخها وثقافتها على نحو صار فيه الماضي جزء من أسباب القوة، وجزء من وسائل الدفاع عن كيانها وأجيالها القادمة.
عزالدين البوغانمي