المجموعات الموسيقية الملتزمة: من الأغاني المهرّبة إلى الفرق المحرّرة
ناجي الخشناوي
اختلفت تصنيفات وتسميات النمط الفني للمدوّنة الموسيقية والغنائية التي نشأت وترعرعت خاصة في الأوساط العمالية والطلابية، فهي الأغنية الهادفةـ، وهي الأغنية الملتزمة بقضايا الجماهير، وهي الأغنية العمالية، وهي الأغنية السياسية، وهي أيضا الأغنية البديلة، وغير ذلك من التسميات، ولئن اختلفت المصطلحات والمفاهيم في التصنيف، فإن المضامين الغنائية لم تحد عن النّوتة المنفلتة والكلمة المتمرّدة التي آلت على نفسها أن تكون خارج السرب، بعيدا عن النّظام والتّنميط، كاسرة للسردية التي تفرضها السلطة لتأبيد نمط موسيقي وتوجيه ذائقة فنية مطيعة لا تخرج عن فلكها، ولذلك كانت هذه المدوّنة الموسيقية والغنائية في مرمى التضييق والمحاصرة والتهميش والقمع، بل والاعتقال والسجن، سجن الموسيقيين واعتقال المغنين المتمردين، وراء القضبان وفي دهاليز المعتقلات... لكن أغانيهم المتمرّدة وكلماتهم المحتجّة، ظلت تطير بأجنحة الحريّة مخترقة كل السجون والمنافي وكاسرة لكل القضبان والقيود، فارضة بذلك وجودها، وإن كان في حيّز محدود نسبيا، لكن الأهم أنها فرضت نفسها وأصبحت جزءا من التراث الوطني اللاّمادي لا يمكن لأحد أن يتجاوزه أو يتجاهله.
هذا المقال لا يدّعي الإلمام بالأغنية الملتزمة في تونس ولا بالمجموعات والفرق الموسيقية، بقدر ما يذكّر ببعض علاماتها المضيئة، وتحديدا تلك التي رفعت عاليا سقف الثقافة الديمقراطية والفنّ التقدّمي، ننشرها بمناسبة الاحتفال بغرة ماي اليوم العالمي للعمّال.
- من الأغاني المهرّبة... إلى الفرق المُحرّرة...
ربما لا يمكن تحديد تاريخ مضبوط لنشأة أول مجموعة غنائية ملتزمة في تونس، أو تاريخ أول أغنية هادفة انتشرت بين الناس، لكن مع منتصف السبعينات وكامل الثمانينات من القرن الماضي في تونس، شهدت بداية تشكّل الملامح الأولى لما سيعرف لاحقا بالأغنية الملتزمة، من خلال بروز أكثر من مجموعة موسيقية، وبداية تبلور نمط موسيقي متمرّد على سياسة "المجاهد الأكبر" الذي بدأ في تركيز نظام ديكتاتوري، سعى إلى أن يغلّفه ببناء الدولة التونسية الحديثة، ولئن نجح هذا النظام في استمالة الشعب، فإن النخبة التونسية، السياسية والفكرية والثقافية، كانت في مواجهة تلك الازدواجية السياسية التي كانت تسمي "الديكتاتورية التنويرية"، وكان المناخ العام قادحا، خاصة للحركات اليسارية، في الجامعات وفي النقابات العمالية، لتشكيل مجموعات موسيقية تعبّر، من خلال الأغاني والأشعار، عن الواقع القمعي من جهة، والأفق التحرّري من جهة ثانية، فاتحة بذلك نافذة أخرى لنشر الأفكار الثورية ورفع الوعي خاصة لدى طلاب الجامعات والعمّال في المصانع... وأصبحت تلك الأغاني المهرّبة ذائعة الصيت خاصة أنها تجاوزت القضايا الوطنية وانفتحت على قضايا الأمة العربية، وخاصة القضية الفلسطينية، وعلى كل قضايا تحرّر الشعوب، وخاصة منها شعوب أمريكا اللاتينية.
غير أن فترة نظام زين العابدين بن علي كانت أكثر قمعا ومحاصرة للأغنية البديلة، خاصة مع بداية التسعينات وبداية تدجين الجامعة التونسية والتضييق على الاتحاد العام التونسي للشغل والتنكيل بالمعارضة السياسية، كما أن العدد المهول من القنوات التلفزية، التي أصبحت متاحة للجميع، ساعدت نظام "ZABA" في إحكام الخناق والتضييق على الفرق الموسيقية الملتزمة، غير أن هذه الفرق استمرت في نضالها من أجل أفق ديمقراطي تحرري شعبي، كان يبدو بعيد المنال، وتحققه محض أوهام، إلا أن للتاريخ أحكام أخرى، أولها ثورة حرّرت الشعب من ربقة الديكتاتورية بعد أكثر من عقدين من الزمن، وثانيها أفق أوسع للفرق الموسيقية الملتزمة التي لم تكف حناجرها عن رفع نشيد الحرية لأكثر من عقدين من الزمن أيضا، إلى أن أصبحت "نشيدا رسميا" في كل المحطات الإذاعية والتلفزية التي ركبت الموجة بسرعة منذ 14 جانفي 2011... بعد أن كانت تمارس حصارا إعلاميا على نفس تلك الفرق...
- داموس أولاد المناجم
من أبرز المجموعات الموسيقية التي قدّمت، ولازالت، الأغنية الملتزمة والهادفة والبديلة، فرقة أولاد المناجم التي ظهرت أواخر سبعينيات القرن الماضي في مدينة أم العرائس المنجمية، ملتصقة بالطبقة الكادحة، واشتهرت خاصة بنشيد الاتحاد الذي كتبه الشاعر آدم فتحي. وقد بدأت فرقة أولاد المناجم نشاطها سنة 1977 عندما أسسها صالح التومي بمعية رفاق له من عمّال مناجم الفسفاط منهم الناصر العيساوي ومحمد بوبكر، للتعبير عن معاناة عمال المناجم وقضايا العمال في الوطن العربي ككل، وأول عمل صدر للفرقة كان بعنوان "قصتنا معاك يا دّاموس" مع شركة ملولي فون، وقد كانت السلطة بالمرصاد لأولاد المناجم، فمع كل شريط جديد يتم تسجيله، يتكفّل جهاز أمن الدولة، بحجزه وجمعه من الأسواق، وهو ما حصل مع الخمسة الأشرطة الأولى التي أصدرتها الفرقة.
يقول مؤسس أولاد المناجم، صالح التومي :"في رصيدنا حوالي 160 أغنية من ألحاني جميعها ومن كلمات شعراء كآدم فتحي وبلقاسم اليعقوبي وكمال الغالي ورضا الماجري"، ومنذ سنة 1988 تم نهائيا منع الفرقة من النشاط في المهرجانات والفضاءات العامة ومحاصرتها، لذلك لم تجد سوى مقرات الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد العام لطلبة تونس لإقامة الحفلات تحت أعين البوليس السياسي والمخبرين. ومن أبرز أغاني أولاد المناجم "قصتنا معاك يا داموس"، "أنت يا وردة"،"نشيد الاتحاد"، "نشيد الشعب"، "ثوار يا أمريكا"، "دز النح"، "ضحايا الشقاء"، "شهادة فقر"، "صرخة أم"،"ناري على الخضراء"، "اشهد يا عالم علينا وعلى بيروت"، "يا قاري الجريدة"، "تونسنا تباعت"، ... وغيرها من الأغاني...
- أجنحة الحمائم البيض
تأسست مجموعة الحمائم البيض les colombesسنة 1980، حيث كان أول لقاء لهذه الفرقة مع الجمهور في مدينة منزل بورقيبة ببنزرت. ولم يكن اختيار اسم هذه المجموعة المنفلتة اعتباطيا، بل إن الاسم مشتق من قصيد للشاعر التونسي مختار اللغماني "أحزان الحمائم البيض"، وقد لحّنت المجموعة وغنّت للغماني قصيدته "أقسمت على انتصار الشمس"، ومجموعة الحمائم البيض لم تكتف بالتلحين والغناء، بل جعلت من عروضها الفنية ثورة مشهدية فوق الركح، حيث أصبحت الآلات الموسيقية أجساد حيّة وتحولت أجساد العازفين إلى آلات ناطقة في تماه فنّي منفلت من الأطر التقليدية للأغنية البديلة.
ولم تشذ الحمائم البيض عن قاعدة الالتزام التام بقضايا الوطن وهموم الشعب، لتكون صوتا آخر من أصوات اليسار التونسيّ التقدّمي، في زمن القمع والتضييق والحصار، وكان أفق هذه المجموعة أكثر انفتاحا، فإلى جانب أشعار آدم فتحي ومنور صمادح ومختار اللغماني، لحّنت الحمائم البيض، وغنّت لشعراء مثل محمود درويش وسميح القاسم ومعين بسيسو وبابلو نيرودا، كما غنّوا لأحمد فؤاد نجم والشيخ إمام عيسى. ومن أغاني الحمائم البيض: "علاء الدين والحلم"، "لذة القلق"، "صرخة العطش"، "الشيخ الصغير"، "العركة"، "عبور"، "الحمائم البيض"، "ماما إفريقيا"، "هل تعرفون القتلى جميعا"، "حكاية البيضة"، "نجم الحرية"، "السيرك"، "أوكاموتو"، "الخمسة اللي لحقوا بالجرة"، "وكر النسور"، و"أقسمت على انتصار الشمس" وغيرها من الأغاني والقطع الموسيقيّة، وربما هذا المقطع الشعري لآدم فتحي، والذي غنّته مجموعة الحمائم البيض، يكثّف مسيرة هذه المجموعة: "إن شخت كالجذع يوما/ وغادرتني الطيور/ فقد مشيت طريقي ولم تعقني الصخور/ سيملؤون السلال ليرحلوا بالقليل/ وأكتفي بالقليل لأصنع المستحيل/ كم عاش غيري طويلا من أجل/ حلم ضئيل/ وعشت من أجل غيري عيش المحب الجسور".
- البحث الموسيقي... عيون الكلام: نبضان من قلب واحد
كانت تسمّى مجموعة البحث الموسيقي وظلت أيضا تسمّى مجموعة البحث الموسيقي رغم خروج أهم عنصر فيها، الفنانة أمال الحمروني التي ألهمت أجيالا من اليسار، والتي أسست بمعيّة العضو المؤسس أيضا، الملحّن والعازف خميس البحري المجموعة الموسيقية "عيون الكلام"، ليواصل الفنان نبراس شمّام، أحد المؤسّسين، مسيرة البحث الموسيقي مع عناصر جديدة.
وتعتبر مجموعة البحث الموسيقي من أقدم المجموعات الموسيقية الملتزمة في تونس، تأسست بمدينة قابس في ثمانينيات القرن العشرين، اثر أحداث الخميس الأسود يوم 26 جانفي 1978، وتحديدا تأسست سنة 1980 في ذكرى تأسيس المعهد الثانوي بمدينة قابس، حيث كان أول لقاء بين مؤسسي المجموعة، نبراس شمام وخالد الحمروني، أبو شادي، وخميس البحري وآمال الحمروني، مع الجمهور لتنطلق المسيرة إلى حدود سنة 1995، عندما فتح نظام بن علي أبواب السجن أمام البعض من عناصر البحث الموسيقي وضرب حصارا خانقا على البعض الآخر، كما أن الاختلافات الفنية والاختيارات الموسيقية بين الأعضاء المؤسسين حالت دون عودة المجموعة في حفل "العودة" بالمسرح البلدي سنة 2004 إلى سالف النّشاط، وربما كان ذلك في صالح الأغنية الهادفة والبديلة عموما، ذلك أن مجموعة "عيون الكلام" - وقد استلهمت أمال الحمروني وخميس البحري العنوان من أول أسطوانة للشيخ إمام عيسى أصدرها له المناضل الهاشمي بن فرج سنة 1976 - افتكّت مكانها ضمن المشروع الوطني للثقافة شعبية والتقدمية بما طرحته من كتابة موسيقية جديدة واختيارات فنية مغايرة منذ أن تأسست سنة 2005.
وقد غنت مجموعة البحث الموسيقي لعدد من الشعراء من بينهم محمود درويش وآدم فتحي وعبد الجبار العش والصغير أولاد أحمد، ورافقت المجموعة الشيخ إمام عيسى في جولته الفنية بتونس سنة 1984 التي انطلقت من جندوبة بدعوة من الاتحاد العام التونسي للشغل ليقوم إثرها بعشرات الحفلات في بنزرت، وسوسة والقيروان وصفاقس وتوزر وقابس وقفصة.
في رصيد هذه المجموعة الموسيقية أكثر من أربعين أغنية، ومن الأغاني التي أدتها مجموعة البحث الموسيقي ولاقت شهرة منقطعة النظير: "هيلا هيلا يا مطر" "يا أمي لا تبكي"، "يوم استشهادي"، "البسيسة"، "الأيام فراقة"، "بشرفك قلي"، "نخلة واد الباي"، "نشيد الانتصار"، "مجردة"، "جيفارا آت"، "سأحمل وجهي وأرحل"... وغيرها من الأغاني التي علقت بالذاكرة...
أمّا مجموعة عيون الكلام فمن أغانيها "الباهية"، "نسج خيال"، "وطن وإن كان"، "قمرة يا وقادة"، "لافتة"، "الدرّة"، "حرّيتي"، "مازال عنا في البلاد أحلام"... وغنت عيون الكلام للصغيّر أولاد أحمد، آدم فتحي، الطيّب بوعلّاق، التوهامي الشايب،جمال قصودة، الناصر الرديسي، الأمجد إيلاهي وأحمد مطر...
- مازال فيك أنفاس...
تقول الفنانة أمال الحمروني في أحد الحوارات :"قد يبدو المشهد قاتماً برجوع تعبيراتٍ فنّيّة غاية في الرّكاكة وانحدار الذّوق. إلّا أنّ المستقبل مفتوحٌ على كلّ الممكنات الجميلة لأنّ هناك جيلاً من الشّباب في العديد من المجالات الفنّيّة ما فتؤوا يبهروننا بخطابٍ وجماليّة جديدين ومتفرّدين..."، ويقول أيضا فقيد الأغنية الملتزمة الفنان الزين الصافي :"داخل كل واحد فينا نفسٌ تواقة لأعمال فنية راقية ومتكاملة من حيث الكلمة الهادفة واللحن الجميل والصور النابعة من الواقع الذي هو واقع الثورة، والأكيد أن مستقبل الغناء التونسي سيكون مليئا بالإبداع بالنظر إلى ما يسود البلاد من حريات".، وإذ نختار هذين القولين، فإنّما للتأكيد على أن الأغنية الملتزمة في تونس "مازالت فيها أنفاس"، تماما مثلما "مازال الخير" في تونس... مثلما يقول الشاعر الطيب بوعلاق في قصيدة "أنفاس".